تشكل الحوكمة البيئية والمجتمعية والمؤسسية مجموعة من المعايير التي تحدد مدى الالتزام الاجتماعي والبيئي للشركات في عملياتها وخدماتها، ومنهجية تعاملها مع مُختلف الأطراف المعنية، من الموارد البشرية، مروراً بقاعدة العملاء، وصولاً إلى الشركاء والموردين. وتمثل الحوكمة منظومةً مكمِّلة للمسؤولية المُجتمعية المؤسسية في مختلف مجالاتها، بما فيها جهود حماية البيئة؛ والعمل الخيري؛ والممارسات الأخلاقية في بيئة العمل؛ والمشاركة الفاعلة في المشاريع التي تخدم الصالح العام والمجتمع المحلي.
وباتت اُطُر الحوكمة البيئية والمجتمعية والمؤسسية تشكل محاور تركيز أساسية في خارطة الاستثمار العالمية، إذ تمثل استثمارات الحوكمة نسبة الثُلث من إجمالي الأصول الخاضعة للإدارة حول العالم. وتشير التقديرات إلى أن القيمة السوقية لهذه الفئة من الاستثمارات ستصل إلى 53 ترليون دولار خلال الأعوام الخمسة المقبلة، أي ما يفوق مجموع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأميركية والصين وألمانيا والمملكة المتحدة.
الحوكمة في المنطقة العربية
تكتسب الحوكمة زخماً كبيراً في منطقة الخليج العربي باعتبارها مركز ثقل عالمي للأنشطة والعمليات التجارية والاستثمارية واللوجستية. واليوم، أصبح مُجتمع الأعمال في دول مجلس التعاون الخليجي أكثر وعياً بأهمية الحوكمة، وهو ما ينعكس في تنامي اعتماد المنهجيات المسؤولة لدى شركات المنطقة، وتزايد وتيرة جهودها ومبادراتها لمواكبة اتجاهات الاستدامة عالمياً. وتحرص الشركات على امتداد منطقة الشرق الأوسط على مضاعفة جهودها لتطبيق سياسات وأُطر تستوفي معايير الحوكمة البيئية والمُجتمعية والمؤسسية، ويُعزى هذا التوجُّه أساساً إلى استيفاء متطلبات المستثمرين والعملاء من خلال معالجة الأثر البيئي والمُجتمعي لأعمال الشركات.
وتكمُّن أهمية الحوكمة البيئية في تركيزها على معالجة التحديات البيئية والتغير المناخي التي تمثل مُعضِّلة كُبرى على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتتزايد ضرورة اتباع آليات عمل مُستدامة في ظل شح الموارد غير المتجددة عالمياً. وفي ضوء هذه المعطيات، أضّحت التنمية المستدامة أولوية رئيسية لصانعي القرار على مستوى المنطقة، وبادرت عدة دول بتضمين أهداف التنمية المستدامة والحوكمة البيئية والمُجتمعية والمؤسسية كمحاور رئيسية في الرؤى والأجندات الوطنية.
الوعي بأهمية الحوكمة
تؤكد الدراسات وإحصاءات الرأي تنامي الوعي بأهمية حوكمة واستدامة الأعمال في دول المنطقة، حيث كشف استطلاع رأي "الرؤساء التنفيذيين في الشرق الأوسط" الذي أعدته شبكة " برايس ووتر هاوس كوبرز" (Price water house Coopers) في مطلع العام الماضي أن 46% من الرؤساء التنفيذيين يعتزمون زيادة حجم استثماراتهم في مبادرات الاستدامة والحوكمة البيئية والمُجتمعية والمؤسسية على امتداد السنوات الثلاث المقبلة في إطار استراتيجياتهم لما بعد الجائحة.
ولا تزال المنطقة إجمالاً بطيئةً في مواكبة التقدُّم المُنجز عالمياً في مجال الحوكمة البيئية والمجتمعية والمؤسسية، ويُعزى ذلك بشكل رئيس إلى الاعتماد الكبير لدول المنطقة على قطاع الطاقة. إلا أن عدداً من الدول تحقق تقدماً ملموساً في قيادة مسار الاستدامة عالمياً، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. ويمثل الإفصاح عنصراً بالغ الأهمية في ظل تنامي الحاجة لتوفير مُعطيات وبيانات دقيقة حول الحوكمة البيئية والمجتمعية والمؤسسية، ويشكل توحيد معايير البيانات تحدياً لدول المنطقة.
"مبادرة بيرل" مثالاً
وفي هذا الإطار، أصدرت "مبادرة بيرل"، وهي مؤسسة مستقلة غير ربحية تعمل على تحسين المساءلة والشفافية المؤسسية في المنطقة، تقريراً حصرياً تسلط من خلاله الضوء على أهمية الإشراف المؤسسي في دول مجلس التعاون الخليجي. ويحمل التقرير عنوان "تقرير عن آراء الرؤساء التنفيذيين: الإشراف المؤسسي في أوقات الأزمات"، ويسلط الضوء على مفاهيم الحوكمة البيئية والمجتمعية والمؤسسية والإشراف المؤسسي من منظور الرؤساء التنفيذيين وقادة الأعمال. وأشار التقرير إلى أن 62% من الرؤساء التنفيذيين في الخليج العربي يعتبرون الإشراف المؤسسي ركيزة أساسية في توجيه قراراتهم ومبادراتهم بشأن مبادرات المسؤولية المجتمعية والحوكمة.
وتبرز مبادرة بيرل باعتبارها المؤسسة التي تقود مبادرات تعزيز التوعية بأهمية الاستدامة والحوكمة والشفافية المؤسسية على مستوى القطاع الخاص في منطقة الخليج العربي كمحركاتٍ رئيسة لزيادة تنافسية بيئة الأعمال وضمان النمو الاقتصادي المستدام. وفي العام 2016، أطلقت مبادرة بيرل "تعهُّد الأعمال -Business Pledge" بالتعاون مع الميثاق العالمي للأمم المتحدة. ويتمحور هذا التعهد حول إبراز دور القطاع الخاص في تعزيز النمو المُستدام والمسؤول بناءً على أُسُس وممارسات الحوكمة الجيدة في منطقة الخليج العربي. وساهمت هذه الخطوة النوعية في تشجيع المزيد من الشركات وكبار قادة الأعمال في المنطقة على الالتزام بمبادئ النهج المسؤول في التعامل مع المجتمع.
وتشير "مبادرة بيرل" إلى أن شركات المنطقة التي تتبنى المساءلة والشفافية وتتخذ تدابير مكافحة الفساد وغسل الأموال في عملياتها تندرج ضمن الشركات ذات الحوكمة المؤسسية الجيدة، وتلعب دوراً مهماً في دفع عجلة التحول الإيجابي وتعميم النهج المؤسسي المسؤول في الأسواق. وترى المؤسسة بأن الشركات والجهات التنظيمية في دول المنطقة تمضي قدماً في الاتجاه الصحيح على درب ترسيخ ثقافة المساءلة والنزاهة والحوكمة البيئية والمؤسسية والمجتمعية في مشهد الأعمال.
لذلك شددت على ضرورة اعتبار النواحي البيئية والمجتمعية والمؤسسية عناصر مترابطة وغير قابلة للفصل على مستوى الحوكمة. وأرى أنه لا يمكن تحقيق التقدم في أحد المسارات الثلاث للحوكمة بمعزلٍ عن المسارين الآخرين.
مما لا شك فيه أن الحوكمة تمثل محور تركيز الأهداف البيئية والمجتمعية والمؤسسية، ويؤدي تبني الحوكمة الفعالة تعزيز الإشراف المؤسسي وإرساء دعائم النمو الأخضر. وتكتسب الحوكمة البيئية والمجتمعية والمؤسسية أهمية غير مسبوقة في ظل التحديات والظروف الاستثنائية التي تواجه العالم، وباتت تشكل اليوم ضرورة للحفاظ على النمو المستدام، وتعزيز التنافسية والموثوقية والصورة الإيجابية للمؤسسات في الأسواق.
وتحرص مبادرة بيرل على إشراك مجتمع الأعمال في خططها وبرامجها المستقبلية، وهو ما يتجلى في "رؤية مبادرة بيرل 2025" التي أعدتها المؤسسة بعد مشاورات مع ما يزيد عن 100 من المؤسسات وقادة الأعمال على امتداد المنطقة. ومن خلال هذا النهج، تسعى "مبادرة بيرل" إلى تعزيز قدرتها على ردم الفجوات في منظومة الحوكمة المؤسسية، وتعزيز القيمة المضافة للشركاء والمعنيين، وزيادة الأثر الإيجابي لمبادراتها وبرامجها.
تتيح الحوكمة البيئية والمجتمعية والمؤسسية ميزاتٍ لا تنحصر على الشركات فحسب، حيث إن تأثيرها الإيجابي سيطال أيضاً العملاء والمستهلكين والموظفين على امتداد دول مجلس التعاون الخليجي، وتُسهم في تعزيز مرونة منظومة الأعمال الخليجية وقدرتها على تحقيق النماء المستدام ومواجهة التحديات المؤسسية والهيكلية في عالم حافل بالتطورات المتسارعة.