الاقتصاد الاجتماعي والثورة الصناعية الرابعة

11 دقيقة
الثورة الصناعية الرابعة

الثورة الصناعية الرابعة هي إطار عمل واسع أو مصطلح عام يشمل البيانات والتكنولوجيات مثل الذكاء الاصطناعي وعلاقتها بالأمور المادية مثل البنى التحتية والسيارات والمنازل والمدن، وهي تمثل توجهات واقعية وبالغة الأهمية، لكن للأسف معظم التعليقات الموجهة إليها سواء كانت مدحاً أو نقداً تنبع من وجهة نظر تكنولوجية حتمية. يفترض معظم الناس أن التكنولوجيا الجديدة تشكّل المجتمع بصورة مباشرة، إما بتوليد ثروة جديدة أو بإضعاف النظام الديمقراطي، بدلاً من إدراك أن المجتمع قادر على توجيه جهود البحث والتطوير وتحديد طرق استخدام هذه التكنولوجيات.

قبل عقد من الزمن، كان كثير من قادة المجتمع المدني والمعلقين يأملون أن تؤدي المؤسسات غير الربحية دوراً بارزاً في تطوير منصات وخدمات جديدة تعتمد على تكنولوجيات الثورة الصناعية الرابعة، لكن ما حدث هو أن الشركات الربحية مثل أوبر (Uber) وإير بي إن بي (Airbnb) هيمنت على هذا المجال. شاركتُ في بعض هذه الشركات المتنافسة بصفتي ممولاً ومستثمراً، وشاهدتُ عن كثب معاناتها في تحويل "المنصات التعاونية" من فكرة واعدة إلى خيار منطقي لإدارة الخدمات على نطاق واسع، إذ إنها تنطوي على فكرة إدارة خدمات سيارات الأجرة ورعاية الأطفال وغيرها من الخدمات المقدمة عبر الإنترنت على اعتبارها مؤسسات تعاونية لا شركات تقليدية.

نواجه خطراً بالغاً في أن تتبع أجيال الذكاء الاصطناعي التالية نمطاً مشابهاً حيث تهيمن الشركات التجارية وبعض الحكومات على تطوير التكنولوجيا ويصبح المجتمع المدني متفرجاً عاجزاً، ولكن من الجهة الأخرى تتوفر فرص لأنظمة الاقتصاد الاجتماعي بجميع أشكالها كي تعمل على تحديد شكل التطور الذي ستشهده تقنيات الثورة الصناعية الرابعة وتطبقه على نحو استراتيجي في سبيل تحقيق المصلحة الاجتماعية.

الأخلاقيات والقوانين التي توجه الثورة الصناعية الرابعة

تم ترويج الثورة الصناعية الرابعة في البداية على أنها مفهوم صاغه المنتدى الاقتصادي العالمي وتبنته الشركات وبعض الحكومات بحماس، إلا أن استجابة المجتمع المدني لها كانت محدودة. جميع المؤلَّفات الأكاديمية الحالية حول التأثيرات الاجتماعية المحتمَلة للثورة الصناعية الرابعة حديثة العهد، وهي غالباً قليلة جداً وتدور حول مبادئ الأخلاقيات العامة بدلاً من تحليل الأثر بدقة، ويركز معظمها على التهديد المحتمل الذي يوجهه الذكاء الاصطناعي للقيم الاجتماعية مثل الحقيقة والسلام والديمقراطية عبر الحرب الخوارزمية المتمثلة في انتشار الأخبار الكاذبة أو التزييف العميق، والتحيز الخوارزمي المدمج في أدوات صناعة القرار لا سيما في مجالات مثل العدالة الجنائية، واحتمالات إساءة استخدام الأدوات التكنولوجية مثل تكنولوجيا التعرف على الوجه.

هذا الحذر ضروري مع تبني الذكاء الاصطناعي بصورة متزايدة في صناعة القرار وتنامي دوره فيها.  ومع أن التمويل الخيري والتجاري الاستثنائي لمراكز أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم مرحب به، والكثير من المقترحات الأخلاقية في القطاع مقبولة، فآثار الذكاء الاصطناعي الاجتماعية والسياسية وخياراته الاستراتيجية غير واضحة غالباً، وتميل إلى وضع قوائم من مبادئ صعبة التنفيذ. كما أنه ليس للمجتمع المدني مساهمات تذكر في خيارات السياسة العامة، ولكن ثمة استثناءات قليلة، وفي الحقيقة اضطر واضعو السياسات في المفوضية الأوروبية والحكومات الوطنية إلى وضع الخيارات بأنفسهم. فمثلاً بعد صدور اللائحة العامة لحماية البيانات، سعى الاتحاد الأوروبي لتعزيز البعد الاجتماعي من التكنولوجيا بإصدار مجموعة من المقترحات لتقييد الذكاء الاصطناعي وتوجيهه، بدءاً من تكنولوجيا التعرف على الوجه وصولاً إلى الائتمان الاجتماعي، ولكن كانت مساهمات المجتمع المدني أو الأوساط الأكاديمية في هذه العملية ضئيلة على نحو مفاجئ.

تعزيز التكنولوجيا من أجل الخير

كانت غالبية هذه المساعي تعتبر تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة تهديداً يقتضي فرض القوانين والقيود، لكن قلة منها ركزت على استخدام الذكاء الاصطناعي في تحقيق أهداف اجتماعية بدرجة أكبر. خذ مثلاً شركة إروبوتيكس (Aerobotics) التي تستخدم الطائرات ذاتية القيادة (الدرون) والذكاء الاصطناعي لتقصي الآفات الزراعية ومعالجتها من أجل تحسين الناتج الزراعي، وفي قطاع التعليم تستخدم عدة مؤسسات تعليمية الذكاء الاصطناعي لتحسين تصميم المناهج الدراسية وأنظمة تقييمها وتقديم مواد تعليمية مخصصة عبر الإنترنت لطلابها. ومن الأمثلة الأخرى القادة المدنيين في تايوان الذين استخدموا أداة الذكاء الاصطناعي بوليس (Polis) لتنظيم الحوار الديمقراطي، والمؤسسات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في جميع المجالات بدءاً من المساعدة في تشخيص المشكلات الصحية وصولاً إلى مساعدة اللاجئين على الاندماج في المجتمع.

وفي كثير من الحالات أبدى المجتمع المدني فعالية كبيرة في استخدام التكنولوجيا الرقمية التي بلغت مرحلة النضج بالفعل، ويمكننا رؤية ذلك في شبكة الابتكار الاجتماعي الرقمي (DSI) المتنامية في البلاد الأوروبية، وهي تضم عدة آلاف من المؤسسات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والمجموعات الشعبية، وفي مؤسسات بناء القدرات مثل تيك سوب (TechSoup) وداتا كايند (DataKind) في الولايات المتحدة وسايبر فولانتارياس (cibervoluntarias) في إسبانيا وكاست (CAST) في المملكة المتحدة، وبيغ داتا أكاديمي (Big Data Academy) في مدينة سيؤول، وشبكة موبيليزيشن لاب (Mobilisation Lab) العالمية.

كما توجد نماذج واعدة ذات نطاق محدود في مجال التكنولوجيا؛ تستخدم شركة أوبن بايونيكس (Open Bionics) الروبوتات لإنشاء الأيدي الروبوتية والأطراف الاصطناعية المفتوحة المصدر التي يمكن للآخرين إعادة إنتاجها بسهولة باستخدام مواد جاهزة وتقنيات صناعة النماذج الأولية السريعة، وتنتج شركة ميش بوينت (MeshPoint) أجهزة لإنشاء شبكات إنترنت من نظير إلى نظير في مناطق وقوع الكوارث ومخيمات اللاجئين، كما أن مشاريع مثل تونيك (Tonic) وبروفينانس (Provenance) تستخدم تقنية البلوك تشين لرفع مستوى الشفافية في سلاسل التوريد، في حين تستخدم مؤسسات أخرى روبوتات الدردشة لتحسين عمليات تسجيل الناخبين وحل مشكلات التحرش في مكان العمل ودعم الابتكار في مناطق وقوع الكوارث.

كما تتوفر بعض البرامج المتخصصة، مثل برنامج إمباكت تشالنج (Impact Challenge) الذي أطلقته شركة جوجل على موقعها الإلكتروني لدعم المبادرات التي تطبق الذكاء الاصطناعي لأجل الخير الاجتماعي، ومنصة أيه آي فور غود (AI for Good)، التي تسعى لاستخدام الذكاء الاصطناعي بطرق عملية وقابلة للتوسيع من أجل تحقيق أثر على مستوى العالم. وفي أميركا الشمالية، ربطت المشاريع الطموحة في مقاطعتَي سسكاتشوان الكندية وأليغيني في شمال أميركا بين المؤسسات والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الحكومية باستخدام الذكاء الاصطناعي لاتخاذ إجراءات وقائية فيما يتعلق بالمخاطر الاجتماعية، وتعتبر الجهود المبذولة في الولايات المتحدة لإنشاء سحابة الأبحاث الوطنية (National Research Cloud)، التي توفر موارد حاسوبية للباحثين عبر شراكة بين مؤسسات الحكومة والشركات والجامعات، نموذجاً جيداً للمبادرات التي تستهدف العموم بدرجة أكبر، على الرغم من غياب المجتمع المدني عنها.

من المحتمل أن يكون المجال المتاح لهذا النوع من الشراكات قد أصبح أكبر، فالبرامج التي تديرها منصات كبيرة، مثل مشروع سايدووك لابز (Sidewalk Labs التابع لشركة جوجل في مدينة تورنتو أو مشروع ريبليكا (Replica) في مدينة بورتلاند، والتي تبشر ببدء عهد المدن الذكية، أثبتت عجزها عن كسب الثقة العامة وأكدت ضرورة اتخاذ تدابير جديدة كلياً لإدارة البيانات من أجل تجنب الانتهاكات.

وفي نفس الوقت شكلت جهود تمويل العمل الخيري حافزاً كبيراً للاهتمام بوضع أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، ولكن من دون الاهتمام بأوجه استخدامه سواء في المجتمع أو في العمل الخيري بحد ذاته. في الواقع، كان أحد آثار القدرة الكبيرة في الشركات التجارية على استخدام تكنولوجيا الثورة الصناعية الرابعة بأساليب مبتكرة هو احتمال أن يكون أثرها في تمويل الأعمال الخيرية أكبر من أثر المؤسسات الخيرية نفسها، مثل شركة فيسبوك التي أتاحت تقديم التبرعات للأعمال الخيرية عبر خدمتها فيسبوك مسنجر، أو الشراكة التي عُقدت بين شركتَي سيلز فورس (Salesforce) ويونايتد واي (United Way) في الولايات المتحدة لإضافة ميزة تقديم النصائح إلى منصتها المخصصة للعطاء في مكان العمل والمعتمدة على تقنيتها آينشتاين (Einstein) القائمة على الذكاء الاصطناعي.

الاعتبارات الاستراتيجية للاقتصاد الاجتماعي

مع أن المساعي الموضحة فيما سبق تهدف إلى تقييد مسار التطور التكنولوجي وتوجيهه بواسطة القوانين والتشريعات والقواعد الأخلاقية وتسخيره لتلبية الاحتياجات الاجتماعية، فتأثيرها لا يزال محدوداً. وستتمثل المشكلة الكبرى في العقد المقبل فيما إذا كان نظام الاقتصاد الاجتماعي سيتقبّل دوره الحالي الثانوي نسبياً في الثورة الصناعية الرابعة أم سيتمكن من تنظيم التطور التكنولوجي بفعالية وبطرق جديدة تنفع المجتمع. في التصور السلبي ستعاني المؤسسات الاجتماعية والمؤسسات الأخرى التي تشارك في الاقتصاد الاجتماعي ما يلي:

  • الاعتماد على منتجات الذكاء الاصطناعي التي طورتها الشركات التجارية
  • الافتقار إلى رأس المال والخبرة اللازمين للتنافس مع المنصات الكبرى (أي أن قصة الاقتصاد التشاركي ستتكرر مجدداً)
  • الافتقار إلى إمكانية الحصول على البيانات التي لها دور حيوي في تعلم الآلة بجميع أنواعه
  • الافتقار إلى وسائل التأثير في اتجاه جهود البحث والتطوير أو بيئة السياسات الأوسع
  • التخلف باستمرار عن قطاع الأعمال بسبب بطئها في تبني التكنولوجيا
  • تقويض الأهداف الاجتماعية بسبب اعتماد التشغيل الآلي في نسبة كبيرة جداً من الوظائف والاستغناء عن الموظفين

أما في التصور الإيجابي فستتمتع المؤسسات بما يلي:

  • امتلاك ما يكفي من رأس المال والقدرات للتنافس وتحقيق وفورات الحجم واسعة النطاق اللازمة لكسب المنافسة
  • القدرة على صياغة جهود البحث والتطوير للتركيز أكثر على الأولويات الاجتماعية مثل التشرد ودمج اللاجئين والصحة العامة، بدلاً من أن يقتصر التركيز على الأولويات العسكرية والتجارية فقط
  • القدرة على المساعدة في إنشاء بيئات تنظيمية وسياسية ملائمة، تتضمن قواعد الخصوصية والشفافية والبيانات المفتوحة
  • القدرة على المساعدة في تحديد سياقات أنظمة معينة، لا سيما فيما يتعلق بالتغير المناخي ومستقبل العمل
  • القدرة على التقدم في الإنتاجية من خلال رفع مستويات مهارات العاملين والتطبيق الفعال للتكنولوجيا

نموذج صافي الانبعاثات الكربونية الصفرية

يعد دور البيانات والذكاء الاصطناعي في التغير المناخي أحد المجالات التي أصبحت فيها هذه الاعتبارات ملحة، ويعد تحقيق انخفاض كبير في انبعاثات غاز الكربون واحداً من أكبر تحديات القرن الحادي والعشرين. كان المجتمع المدني رائداً في إبراز أهمية التغيير وإظهار معناه على أرض الواقع؛ فقد سلط الضوء على ضرورة تغيير غالبية جوانب المجتمع والنظام الاقتصادي، بدءاً من التصميم التقني لخدمات الطاقة والنقل والمباني والسلوكيات اليومية مثل الأنظمة الغذائية والسفر، وصولاً إلى السياسات التي تشمل الضرائب والدعم المالي والحوافز والأنظمة على المستويات المحلية والوطنية والعالمية. ومشاركة الاقتصاد الاجتماعي في كل ذلك كبيرة، إذ يقود مبادرات إعادة التدوير وتقليل النفايات، ويطلق حملات لتغيير السلوكيات وينشئ نماذج ملكية جديدة في قطاع الطاقة.

لكن عزل الكربون يقتضي من الأنظمة والمؤسسات التي تؤلف الاقتصاد الاجتماعي استخدام الكثير من تقنيات الثورة الصناعية الرابعة ومنها البيانات والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء. ومع أن حكومات البلاد وضعت أهدافاً طموحة، مثل هدف تحقيق صافي الانبعاثات الكربونية الصفرية في النرويج بحلول عام 2030 وفي فنلندا بحلول عام 2035، والتزام شركات مثل شركة سيمنز بتحقيق صافي الانبعاثات الكربونية الصفرية بحلول عام 2030 في جميع منشآت الإنتاج والأبنية التي تملكها حول العالم، فقلة من المؤسسات وضعت استراتيجيات متماسكة لتحقيق أهداف اتفاقية باريس على نحو يتيح لها تحقيق الاستفادة القصوى من نظام الاقتصاد الاجتماعي أو الأدوات الرقمية.

تؤدي إعادة توجيه أموال الاستثمارات نحو التكنولوجيا صديقة البيئة إلى توليد المقاييس والأموال وشروط الاستثمار التي تتماشى مع الأهداف المناخية، لكن يتعين على نظام الاقتصاد الاجتماعي بذل جهود إضافية؛ إذ يجب عليه تنسيق البيانات والمعارف والرؤى المتاحة لتحقيق تغيير واسع على مستوى الأنظمة في مجالات مثل خدمات الطاقة والنقل والإسكان، وتحديد أفضل الطرق للربط بين أشكال الاقتصاد الاجتماعي المختلفة. يتضمن النهج الاستراتيجي بدرجة أكبر ما يلي:

  1. تنظيم البيانات على اعتبارها موارد مشتركة. على الرغم من توفر كميات ضخمة من البيانات المهمة حالياً، فقدر قليل نسبياً منها موحد ويمكن الوصول إليه بسهولة، إذ تملك شركات تجارية كبيرة مثل مؤسسات توليد الطاقة جزءاً كبيراً من هذه البيانات، سواء كانت تنتجها بنفسها أو تحصل عليها من مصادر أخرى. وكي تتمكن المؤسسات العامة ومؤسسات المجتمع المدني من المشاركة بفعالية في الثورة الصناعية الرابعة، يجب أن تعمل على قيادة عملية جمع البيانات ومعالجتها ومشاركتها فيما يتعلق بانبعاثات الكربون والبصمة الكربونية لسلاسل التوريد والمدن والأحياء والأفراد. يتم تنفيذ جزء من هذا العمل بالفعل، وهو يشمل لوحات التحكم ومشاريع مثل مؤسسة كاربون تراكر (Carbon Tracker)، التي تستخدم بيانات من الأقمار الصناعية لرسم خرائط للغازات المنبعثة من احتراق الفحم، ولكن ما زالت المعلومات مجزأة نوعاً ما وغير متكاملة مع الأموال المخصصة لهذه الجهود. وفي نفس الوقت تقدم البرامج الطامحة لتحقيق صافي الانبعاثات الكربونية الصفرية في مدن مثل هلسنكي وأمستردام وكوبنهاغن معلومات مفصلة عن المباني ووسائل النقل ومحطات الطاقة فيها، لكنها لا تقدم قدراً كبيراً من البيانات ولا تكاد تذكر الاقتصاد الاجتماعي صراحة. كما أننا لم نتوصل بعد إلى حلول لبعض القضايا المهمة، حقوق ملكية البيانات التي يتم جمعها بواسطة العدادات الذكية وإمكانية الحصول عليها واحتمال الاضطرار إلى إنشاء مؤسسات جديدة تتمثل مهمتها في حماية هذه البيانات. ومع ذلك نرى لوضع استراتيجية صحيحة للبيانات أهمية كبيرة على المدى البعيد، إذ إنها قادرة على تغيير أسلوب إعداد التقارير في الشركات وتغيير سلوك الأسواق المالية والمستثمرين، وتزويد عامة الشعب بمعلومات موثوقة بدرجة أكبر حول مساهمة أصوله الإيجابية أو السلبية في عملية تخفيض الانبعاث الكربونية.
  2. الاعتماد على الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة. تحاول شركات كثيرة تسخير الذكاء الاصطناعي للاستجابة للتغير المناخي سواءً كانت تدير الشبكات الكهربائية أو تخترع مواد جديدة، فبعضها يركز على رسم خرائط التغير المناخي بتفصيل أكبر وتتبُّع أنماط المناخ المتطرف، في حين يعمل البعض الآخر على تخفيض استهلاك الطاقة، مثل مشروع ديب مايند (DeepMind) الذي يعمل على قياس مقدار الطاقة التي تستهلكها شركة جوجل وتخطيط النقل والتحكم بالإشعاعات الشمسية والإدارة المالية. لكن يمكن أن يؤدي الاقتصاد الاجتماعي دوراً أهم، مثل المساهمة في تصميم خطط جديدة لملكية الخوارزميات التي سيتزايد تأثيرها في شكل الحياة في المدن وشفافيتها وأخلاقياتها.
  3. بناء الأدلة والمعرفة المشتركة. تنظّم اللجنة الدولية للتغيرات المناخية المعارف العالمية المتعلقة بتحليل التغير المناخي، لكن المعلومات المتعلقة بالوسائل المجدية لمكافحته ليست منظمة بنفس القدر في مجالات مثل تحديث أنظمة توليد الطاقة في المجتمع وتقليل هدر الطعام. ومجدداً، تعني عوامل الضغط التي يشهدها السوق أن الشركات لديها حافز قوي للتعلّم، لكن فيما يتعلق بالجوانب المنهجية أو المتعلقة بالمصلحة العامة من جهود الحدّ من انبعاثات الكربون، ثمة فجوة في كل من المسؤولية والإجراءات المتبعة. تحاول مؤسسات مثل مؤسستَي كلايمت كيه آي سي (Climate KIC) أو سي 40 (C40) اتباع استراتيجيات متعددة المستويات (من المستوى المحلي إلى المستوى الوطني)، لكن مواردها محدودة. حتى في حالة توفر الكثير من التقييمات والأدلة، فمن الصعب ضمان إمكانية استخدامها وإتاحتها للبلديات والمؤسسات الاجتماعية وغيرها من الجهات التي تحتاج إليها، وهذا يعيق تبني الابتكارات المعززة للإنتاجية. وتزداد حاجة المجال إلى مراكز تهتم بنشر المعرفة حول "طرق العمل الفعالة" سواء بتمويل من القطاع العام أو من القطاع الخيري، مثل المنتديات التي تتيح للمجموعات المختلفة مشاركة المعارف العملية وتعزيزها فيما يتعلق بطرق الاستخدام الفعال للأدوات التكنولوجية مثل المضخات الحرارية وعزل المنازل.
  4. تعزيز إجراء التجارب. تتلقى بعض جوانب البحث والتطوير تمويلاً ضخماً، لا سيما التي تنسجم مع أطر العمل الراسخة لابتكار المنتجات، ولكن ثمة فجوات كبيرة. على سبيل المثال، لا تتوفر حالياً استثمارات كثيرة في إجراء التجارب بهدف اكتشاف معارف جديدة حول الجوانب الأكثر تعقيداً من جهود الحدّ من الانبعاثات الكربونية (مثل تأثير الخطط التحفيزية في فعالية الطاقة) أو تأثير الأنظمة الاقتصادية الدائرية المحتمل في الوظائف. كما تتوفر فرصة لتحسين التعلم من الأقران والتبادل السريع للنتائج (ومنها البيانات) بين المجموعات التي تجري تجارب متماثلة. تطبق بعض الحكومات مثل فنلندا أساليب منهجية لوصل عدة تجارب محلية على عمليات إزالة الكربون بالبيانات والتعلم المشتركين، يتمتع هذا النوع من المنصات بأهمية حيوية بالنسبة للمدن والاقتصاد الاجتماعي، وفي أفضل الحالات يمكن أن تشمل توحيد البيانات الفوري وتطبيق البروتوكولات المشتركة في تصميم التجارب وتقييمها واتباع أساليب مشتركة ومعمقة لتحليل الأدلة وتجميعها.
  5. حشد المجتمعات. يجب أن يملك الاقتصاد الاجتماعي قدرة أكبر من ذي قبل على حشد المجتمعات كي يتمكن من تحقيق أهداف اتفاقية باريس، ويجب أن يدعم هذا المجال الحملات التي تركز على موضوعات مثل الحدّ من هدر الطعام أو تغيير السلوكيات الغذائية، وتستعين بالبيانات واختبار الفرضيات الصريح لتوجيه قراراتها حول مسائل مثل طرق تعزيز الإجراءات المكانية. يمكن أن نستقي بعض الدروس المفيدة في هذا الصدد من المنافسة والتحديات التي واجهتها الدول الأوروبية؛ إذ بدأنا برؤية أساليب أكثر تكاملاً، مثل عمل مختبرات دارك ماتر (Dark Matter Labs ) على الذكاء الجماعي المعزَّز (Augmented Collective Intelligence) فيما يتعلق بالتغير المناخي، الذي يوضح طرق إدارة الذكاء الاصطناعي والذكاء الجماعي في آن معاً.

تسلط هذه النقطة الأخيرة الضوء على قضية استراتيجية أوسع؛ وهي دور الذكاء الجماعي. يوضح مثالنا عن إزالة الكربون أهمية تنظيم مجموعات المعلومات بكل أنواعها لدعم العمل الاجتماعي على اعتبارها موارد مشتركة، ومنها البيانات والأدلة وآراء المواطنين والأفكار المطروحة، وتنطبق اعتبارات مماثلة على كثير من المجالات الأخرى سواءً في مجال رعاية المسنين أو صقل مهارات العاملين.

لا شك في أن النهج الاستراتيجي المتماسك للعمل على صياغة التطور التكنولوجي كي يعود بالنفع على المجتمع سيتّبع مسارات عمل مختلفة متوازية؛ إذ سيعيد توجيه جهود البحث والتطوير مع اتباع طرق أفضل لتنظيم البيانات والأدلة والذكاء الاصطناعي والتجارب في نفس الوقت. لكن المجتمع المدني يفتقر حالياً إلى القدرة على صياغة هذا النوع من الاستراتيجيات والنظرة الاستشرافية والمخيلة، كما أنه من المرجح أن يتزايد التفاوت بين إمكانياته وإمكانيات الجيش والرقابة والشركات الكبرى باستمرار، وكل ذلك سيزيد من صعوبة توقع التغييرات الكبيرة التي يحتمل أن تحدث في العقد المقبل والاستعداد والاستجابة لها.

ومع أن دور الاقتصاد الاجتماعي كان مهمشاً في الثورة الصناعية الرابعة حتى الآن، فقد أدرك الكثير من المؤسسات المساهمة فيها أهميته وفائدته في معالجة المشكلات الاجتماعية والبيئية. تتبنى مبادرات مثل شبكات مختبرات التسريع الإنمائية التابعة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP Accelerator Labs networks) أساليب الذكاء الجماعي لتسريع عملية الابتكار لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، في حين أدركت مؤسسات مثل البرلمان الأوروبي ضرورة تعزيز أساليب الذكاء الجماعي وتكنولوجياته إلى جانب الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت ذاته تطبق الهند برامج تسعى لتطبيق مفاهيم نظام آدهار لتحديد الهوية في مجالات مثل التعليم لتقديم الخدمات على نطاق واسع جداً، وهذا مثال جيد على تعاون المجتمع المدني والحكومة في جهود تنظيم الذكاء الجماعي.

وقد يكون المجال متاحاً أيضاً لتطوير مجال جديد يتمعن في قدرة الاقتصاد الاجتماعي على المساهمة بفعالية أكبر في الثورة الصناعية الرابعة، وهذا يربط التحليل الاسترجاعي للدراسات في العلوم والتكنولوجيا بنهج استراتيجي مستقبلي. تواجه الثورة الصناعية الرابعة خطورة أن تصبح واقعاً مفروضاً على الناس بدلاً من أن يشاركوا في تشكيله بأنفسهم، وأن تعزز مصالح الشركات والجيش بدلاً من تعزيز مصالح المجتمع. لم يفت الأوان بعد لتغيير ذلك، لكن إحداث تغييرات في الاقتصاد الاجتماعي ليصبح قادراً على تشكيل الثورة الصناعية الرابعة بفعالية كبيرة يتطلب أن يتبع قطاع العمل الخيري والمجتمع المدني نهجاً استراتيجياً بدرجة أكبر مقارنة بالنهج الذي اتبعاه في السنوات القليلة الماضية.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي