كيف يسهم استخدام التفكير التصميمي في حل معوقات الحوكمة؟

التفكير التصميمي
shutterstock.com/Who is Danny
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إن قسماً كبيراً من المحفظة الاستثمارية للبنك الدولي مخصص لمساعدة حكومات البلدان العميلة على تقديم الخدمات العامة الأساسية للمواطنين في البيئات الصعبة، بشكل أكثر فعالية. وقد أشار رئيس البنك الدولي جيم يونغ كيم في منشور حديث إلى ضرورة وجود علم يدرس تقديم الخدمات، لأننا “ما زلنا نفتقر إلى إطار عمل منهجي لفهم ما الخدمات التي ستنجح في مكان معين أو ضمن فترة زمنية معينة، وتحميل المسؤولين مسؤولية الالتزام بتلك المعايير”. وكما نعلم جميعاً من حياتنا اليومية، فإن أكثر الخدمات فعالية هي التي تتناسب مع طبيعة القيود التي نعاني منها، وتجعل المهمات المعقدة أسهل، وتساعدنا في تحقيق أهداف مهمة في وظائفنا وحياتنا الشخصية. فكيف يمكن للحكومة وشركائها في التنمية تصميم خدمات تقضي على الفقر وتتناسب مع معاييرنا العالية كمستخدمين؟

التفكير التصميمي هو منهجية يمكن أن تكشف الافتراضات المسبقة التي غالباً ما لا يتم اختبارها أو التحقق منها في أثناء عمليات التحضير لتقديم خدمة معينة وتنفيذها. يعمل تعاون الحوكمة (The Governance Collaboratory) أو (Collab) في جامعة ستانفورد – وهو تعاون مشترك بين مركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون (CDDRL) ومعهد هاسو بلانتر للتصميم في ستانفورد (d.school) – على استكشاف كيف يمكن لناشطي المجتمع المدني ومقدمي الخدمات استخدام نهج التفكير التصميمي لحل معوقات الحوكمة التي تمنعهم من تحقيق أهدافهم.

الأستاذ الجامعي جيريمي وينستاين وجيني ستيفانوتي من معهد د. سكول في جامعة ستانفورد.

في شهر مارس/آذار، سافرت مع التعاون إلى مدينة كينغستون، حيث عملنا مع وكالة التنمية الزراعية الريفية التابعة لوزارة الزراعة في جامايكا (RADA)، وكلية مونا للأعمال (the Mona School of Business)، ومؤسسة “سلاش روتس” (Slashroots)، وهي مجموعة تقنية مدنية في منطقة البحر الكاريبي، على اختبار نموذج التعاون لحل التحدي المتفشي الذي يواجه قطاع الزراعة في جامايكا. حيث تشكل السرقة الزراعية، أي سرقة المنتجات الزراعية أو الثروة الحيوانية، تحدياً كبيراً للمزارعين أصحاب الحصص الصغيرة. وفي حادثة مؤسفة، سُرقت 42 رأساً من الماشية في الليلة السابقة لعيد الميلاد، ما أدى إلى إغلاق مزرعة كان يعمل بها 22 شخصاً.

اشتمل تحدي تصميم حل للسرقة الزراعية الذي استمر على مدى ثلاثة أيام على خمسة مكونات تقرب مصمم الخدمة من المستخدم: التعاطف – تحديد المشكلة – توليد الأفكار – وضع النموذج الأولي – الاختبار. تضمن فريقي لمواجهة التحدي موظفاً من مكتب رئاسة الجمهورية، وعضواً بارزاً في وكالة التنمية الزراعية الريفية (RADA)، وأخصائياً تقنياً من سلاش روتس، وقد أمضوا جزءاً كبيراً من اليوم الأول في التحدث مع من يسمون “هيغلرز” (الباعة المتجولون في السوق الذين غالباً ما يكونون أيضاً من صغار المزارعين) وعمال الإرشاد في وكالة RADA للتعرف على طريقة كل مجموعة من هذه المجموعات للتأقلم مع السرقة الزراعية وتقليل الآثار في حياتهم اليومية. وفي خضم محادثاتنا تعلمنا شيئاً مفاجئاً؛ غالباً ما يكون المزارعون على معرفة بالأشخاص الذين يسرقونهم ويشعرون بأن المجتمع سيعاقبهم إذا ما أبلغوا عن هذه الجرائم إلى الشرطة.

ستوتريل كرايغ لوي من مكتب رئيس الجمهورية في جامايكا، في لحظة من التعاطف في سوق التتويج في كينغستون.

أظهرت هذه المحادثات فرقين مهمين بين التفكير التصميمي وعملية التخطيط التقليدية لمشاريع الخدمات العامة. فأولاً، يتحدى التفكير التصميمي ما يسميه الصحفي المثير للجدل إيفجيني موروزوف “سياسة إيجاد الحل” (Solutionism)،  وهي الاعتقاد بأنه يمكننا حل المشكلات المجتمعية المتجذرة من خلال الابتكار التقني. ولا يكمن الاختلاف في عدم استشارة المستخدمين في العملية التقليدية، ولكن في أن استشارتهم سطحية للغاية، وغالباً ما تكون مقيدة بقائمة من الخيارات المحددة مسبقاً. فعلى سبيل المثال، قد يُطلب من سكان منطقة حضرية مُخطط لتطويرها ترتيب أولوياتهم في اجتماع يضم أفراد المجتمع، لكن مثل هذه المقابلات الجماعية تجعل من الصعب كشف الأفراد عن أفكارهم الخفية حول القيود الأساسية والضغط الاجتماعي الذي يؤثر على حياتهم اليومية.

من ناحية أخرى، تهدف عملية التفكير التصميمي إلى تكثيف تغييرات النظام بالنسبة لمستخدمين محددين؛ بعد ساعة من توليد الأفكار حول مساهمة المستخدمين واحتياجاتهم ورؤيتهم، قررنا تحديد المستخدم كمزارعة متجولة فقيرة بخبرة 20 عاماً وتحتاج إلى تقليل أثر السرقة الزراعية على عملها مع المحافظة على القبول الاجتماعي.

أشارت معلوماتنا إلى أن وصم المرء بالسرقة أخف ضرراً من وصمه بتبليغ السرقات للشرطة. كما كانت المعلومات الناتجة عن عملية التفكير التصميمي موافقة للمعلومات التي كشفت عنها الأدوات الاجتماعية الأخرى. فالاستقصاءات قد تخبرنا عن معدلات السرقة الزراعية وخصائص المزارع العادي، بينما يمكن أن تعطينا التقييمات فكرة لاحقة عما إذا كان التدخل ناجحاً أم لا. لكن هذه الأدوات لا تكشف مسبقاً عن المعلومات السلوكية التي قد تشكل الفرق بين النجاح والفشل.

ثانياً، يمكن لعملية التفكير التصميمي توسيع مساحة الحل لتحديات الحوكمة. حيث لا تكمن المشكلة عادةً في أعتقاد صانعي السياسات أنهم يمتلكون جميع الإجابات (في معظم الأوقات على الأقل)، بل في أنهم يفتقرون إلى الأدوات الصحيحة لتوليد رؤى قابلة للتنفيذ من المستخدمين الفعليين. وإن مكون توليد الأفكار يتمحور حول وضع أكبر عدد ممكن من الأفكار على الورق حول طرق خدمة المستخدم المحدد الذي حددناه. وإن نشاط العصف الذهني هذا محدود بالإجابة عن سؤال محدد “كيف يُمكن لنا أن نفعل كذا؟”، لذا ركزت مجموعتنا على كيفية جعل حماية ممتلكات الغير أمراً جذاباً للباعة المتجولين.

إن جزءاً مهماً من توسيع مساحة الحل هو الحصول على تقييمات المستخدمين باكراً وبشكل دوري. فخلال جلسة بعد الظهر في اليوم الثاني، كنا قد وصلنا بالفعل إلى مكون وضع النموذج الأولي، حيث قمنا بتصميم نماذج فعلية منخفضة الدقة لبعض الأفكار الواعدة للحصول على النقد البناء من المستخدمين. وفي هذه المرحلة، كانت مجموعتنا تدرس فكرة إنشاء صندوق تمويل جماعي للمزارعين يقوم بتوزيع الأرباح على المجتمع ككل عندما ينجح الأفراد في منع السرقات لمدة عام كامل. ونظراً لأننا لم نكن نعرف ما إذا كان المزارعون سيهتمون أكثر بالرسالة الاجتماعية حول حماية جيرانهم أو الرسالة المالية حول كسب الأرباح، كان نموذجنا الأولي يشبه لعبة تبادل الأدوار، حيث قدمنا إعلاناً يشمل الرسالتين ثم طلبنا من المزارعين أن يختاروا إحداهما للاستثمار فيها.

علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الفرق بين هذا النهج والطريقة التي اتبعتها وكالة RADA لتصميم دفتر الإيصالات الخاص بها، وهو نظام تتبع مصمم ليكون قاعدة بيانات شاملة حول الصفقات الزراعية. فقد كان هذا النظام مصمماً باستخدام عملية شمولية، وقامت لجنة من المزارعين بالموافقة على كل خطوة، بدءاً من فكرة الإيصالات وانتهاء بالمظهر النهائي للكتيب. إلا أنهم لم يقوموا باختبار نموذج دفتر الإيصالات مع المستخدمين الفعليين، وأخذ آرائهم حوله وإعادة تصميم العملية بناء على ذلك. وإن البنك الدولي، الذي غالباً ما يُخضع المشاريع لجدول زمني صارم لإعداد المشروع خلال عامين، يترك لهذه المشاريع فرصة ضئيلة للتعاطف مع المستخدمين النهائيين.

بعد الاختبار في السوق، أنهينا الورشة بنشاط تبادلنا فيه الأفكار والآراء حول العملية. حيث أراد أحد مسؤولي وكالة RADA اختبار كيف يمكنه الاستفادة من دروس الورشة لتصميم قاعدة بيانات أفضل للمزارعين. واقترح ضابط شرطة أن يشارك كبار المسؤولين السياسيين في ورش العمل هذه. بينما قال أحد أعضاء مؤسسة سلاش روتس إنه يريد أن يقود تدريبات مثل هذه لأفراد المجتمع الآخرين في جامايكا. أما بالنسبة إلي، فالدرس المستفاد من تحدي التصميم هو أن علم تقديم الخدمات متعلق بعلم التصميم جزئياً على الأقل. ويكمن التحدي الآن في استكشاف كيف يمكن للقطاع العام والمؤسسات التي تتجنب المخاطرة في كثير من الأحيان، استخدام التصميم لحل معوقات الحوكمة المعقدة، وكيف يمكننا تطوير فهم أفضل لكافة أنواع المشاكل التي يمكن أن يساعدنا التفكير التصميمي في حلها.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.