صاغ مؤسس مؤسسة أشوكا (Ashoka) بيل درايتون مصطلح "صانع التغيير" (Changemaker) في عام 1981 في خضم قيادته لقطاع ريادة الأعمال الاجتماعية. وبوصفه "اسم فاعل" شمل هذا المصطلح مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة في قطاع التغيير الاجتماعي ثم انتشر المصطلح في ثقافة هذا القطاع. وبوصفه "الفعل" (Changemaking) يشير هذا المصطلح إلى الممارسة التي تفضي إلى إصلاح الأنظمة المعطَلة للوصول إلى عالم أفضل، وأضحى هذا المصطلح شغل العالم الشاغل وجذب اهتمام الحزبين الحاكمين في الولايات المتحدة ما جعله قادراً على توحيد الجهات الفاعلة المتنوعة في أميركا. وانتشر استخدام الوصفين كليهما في كل مكان وفي كل القطاعات في تلك المرحلة بحيث يمكن القول إن المصطلح أصبح بلا معنى.
ماذا يعني بالضبط صانع التغيير؟ وإلى أي نوع من القيادة يشير هذا المصطلح؟ وهل يشير إلى قيادة التغيير أم تمكينه؟
في كتاب "التحول إلى صانع للتغيير: دليل شامل وقابل للتنفيذ لقيادة التغيير الإيجابي على أي مستوى" (Becoming a Changemaker: An Actionable, Inclusive Guide to Leading Positive Change at Any Level)، يقدم رجل الأعمال الاجتماعي أليكس بوداك منظوراً جديداً وتبشيرياً في محاولة لتقديم دليل شامل ليصبح المرء صانعاً للتغيير كما يشير العنوان.
بالمقارنة مع الكم الهائل للكتب المنشورة حول هذا الموضوع، مثل كتاب هنري دي سيو "دليل صانع التغيير" (Changemaker Playbook) وكتاب بيفرلي شوارتز "الامتداد: كيف ينشر رواد الأعمال الاجتماعيون الابتكار" (Rippling: How Social Entrepreneurs Spread Innovation) يتمثل إسهام بوداك الأكثر جرأة في هذا المجال في توسيع تعريف صانع التغيير. إذ يرى بوداك أن صانع التغيير هو "من يقود التغيير الإيجابي من موقعه" وينجح به "متجاوزاً قيود التحديات الاجتماعية بمراحل". ومن خلال توسيع مفهوم صناعة التغيير خارج نطاق القطاع الاجتماعي، قدَّم بوداك تعريفاً "فضفاضاً" لمفهوم واسع وشامل أساساً. وبذلك لا يجزم أن أي شخص، بصرف النظر عن المنصب أو الهوية أو العِرق أو النوع أو السن أو الطبقة، يمكن أن يكون صانعاً للتغيير فحسب، بل لم يعد التغير حكراً على الرواد الاجتماعيين.
صناعة التغيير
في الواقع صناعة التغيير ممكنة في أي مهنة أخرى مثل الرياضة أو التمريض أو السياسة أو الفن أو الأعمال غير الربحية، بالإضافة إلى أشكال ومستويات ومجالات متنوعة من التغيير. حتى المؤسسات الكبيرة مثل مؤسسة سكول (Skoll) ومؤسسة إكونغ غرين (Echoing Green) ومؤسسة أوميديار نتوورك (Omidyar Network) قد ألبست عباءة "صانع التغيير" لرواد الأعمال التجارية والحكومية. وذهب بوداك أبعد من ذلك، حيث نادى من أجل "التغير الشامل"، وعالم بلا حدود يلوح في الأفق.
وينبع هذا المنظور الواسع حول غايات صناعة التغيير (التي تتجاوز العمل الاجتماعي) ووسائله (التي تتجاوز ريادة الأعمال) من تجربة المؤلف بصفته صانع التغيير الذي دعم مئات المؤسسات والأفراد في مختلف القطاعات على مدار العقد الماضي. حيث يعتمد الكتاب على ممارسة بوداك في صناعة التغيير بالإضافة إلى الدورة الدراسية الجامعية ذات الشهرة الكبيرة التي يديرها في كلية هاس للأعمال (Haas School of Business) في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، التي تضم محاضرين ضيوفاً من نخبة صناع التغيير في العالم مثل الحائز جائزة نوبل محمد يونس ومؤسس منصة تشينج دوت أورغ (Change.org) بين باتراي.
قيادة صانع التغيير
قسّم بوداك كتابه "التحول إلى صانع للتغيير" إلى ثلاثة أجزاء، ويركز كل جزء على أحد المكونات الأساسية لوصفة صناعة التغيير: العقلية والقيادة والعمل. ويقدم الجزء الأول "عقلية صانع التغيير" المواقف والسمات والسلوكيات المشتركة بين صانعي التغيير الناجحين بغض النظر عن مجال عملهم. ويستخلص بوداك بالاستناد إلى البحوث النفسية وبالاستفادة من تجارب القادة الحاليين السمات الأساسية لعقلية صانع التغيير، مثل التشكيك المستمر في الأمر الواقع وتعلم التعامل مع الانتكاسات عبر التفاؤل المكتسب واتخاذ مسار مختلف عن السائد واستخدام المخيلة لرسم صورة للمستقبل تلهم الآخرين.
ويقدم الجزء الثاني من الكتاب الخطوة التالية في عملية التحول إلى صانع للتغيير، حيث ينتقل من كيفية تنمية عقلية صانع التغيير إلى دراسة كيف يسهل ذلك تبني نوع جديد من أسلوب القيادة. ويطلق بوداك على هذا الأسلوب "قيادة صانع التغيير" التي يعرّفها على أنها "القدرة على تحقيق الإنجازات عبر الآخرين وبالتعاون معهم". ويتميز هذا الأسلوب بأنه تعاوني وشامل وتجريبي وذو منحى عملي. وهو ينظر إلى العلاقات على أنها شبكات من الشركاء المتعاونين تستلزم تعزيز الثقة بين جميع الأطراف. وبدقة أكثر، أسلوب قيادة صانع التغيير هو أسلوب يُمكّن صانع التغيير من التأثير دون الحاجة إلى فرضه عبر سلطة هرمية. باختصار، يقود صانع التغيير من خلال توجيه القوة بدلاً من التحكم بها أو التسلح بها.
تذكّرنا رسالة بوداك بكتاب "السلطة الجديدة" (New Power) الذي أصدره كل من المؤسس الشريك لمؤسسة بيربيس (Purpose) ورئيسها التنفيذي جيريمي هايمانز، ومؤسس مؤسسة غيفينغ تيوزداي (GivingTuesday#) هنري تيمز في عام 2018، حيث يميزان بين "السلطة الجديدة" التي تعمل "مثل التيار" و"يحركها الأقران" عن "السلطة القديمة"، وهي "المحمية بحرص" ولا يمكن الوصول إليها، و"يحركها القائد". ومع ذلك، يتجاهل بوداك تحذيرهما المهم بأن "المعركة والموازنة بين السلطة القديمة والسلطة الجديدة ستكون سمة مميزة للمجتمع والأعمال في السنوات القادمة" وأن السلطة القديمة لن تختفي ولا يمكن أن تختفي ببساطة.
لوحات صانع التغيير
ووفقاً لمنطق الكتاب الذي يبدأ من التغيير الداخلي ثم يتحدث عن فلسفة القيادة وممارستها، يصل الجزء الأخير لكتاب بوداك إلى مرحلة "إجراءات التغيير"، حيث يتحدث عن مجموعة الأشكال المتميزة التي يمكن أن يتخذها التغيير، بما في ذلك المبادرات غير الربحية، وريادة الأعمال الداخلية، والمساعي الفنية، والريادة الاجتماعية المعيارية. ويستخدم بوداك منهجيات متنوعة في تقديمه لمجموعة من الإجراءات مثل منهجية الشركات الناشئة الرشيقة في القطاع الربحي، التي يتم فيها اختبار الأفكار الجديدة بسرعة للتأكد من جدواها، وكذلك منهجيات القطاع غير الربحي، مثل نظرية نموذج التغيير المستخدم لتحديد أهداف جهود التغيير وكيف يحدث التغيير المفترض ولماذا. كما يمزج بوداك ويطابق هذه المنهجيات لتقديم إطار تحليلي من صفحة واحدة يطلق عليه "لوحات صانع التغيير" التي "تأخذ المفهوم القديم لخطة الأعمال وتحولها إلى استراتيجية"، وبالتالي تساعد "صانعي التغيير على اتخاذ مبادرات التغيير وتجزئتها إلى أجزاء أصغر يمكن إدارتها".
يستعصي هذا الكتاب على التصنيف البسيط. فهل هو مجموعة من الحكايات المسلية للراغبين في أن يصبحوا صانعي التغيير؟ هل هو دليل إرشادي؟ هل هو كتاب عن تنمية الذات للتحفيز على القيادة؟ هل هو كتاب سيرة ذاتية؟ يشمل كتاب "التحول إلى صانع للتغيير" كل ما سبق. ولنكن واضحين، لا يمثل هذا الكتاب تقديماً للابتكار الاجتماعي. ويكشف الكتاب عن نتائج الأبحاث الرئيسية في مجموعة متنوعة من التخصصات على نحو فعال مثل علم النفس والعلوم السلوكية ونظرية القرار من خلال وصل النقاط بين المجالات التي غالباً ما يتعذر الوصول إليها من خارج المجال الأكاديمي. وهو في الأساس محاولة لإضفاء السحر على صناعة التغيير لجيل جديد من الفاعلين عبر مجموعة من القصص الشخصية ونصائح عملية مدعومة بأحدث نظريات العلوم الاجتماعية.
وفي هذا السياق يقدم بوداك للقراء جدول تقييم ذاتي يتكون من 25 سؤالاً "يقيس تطور الفرد كصانع للتغيير" طوال رحلة التعلم والحياة. وتشير البيانات المأخوذة من الحلقات الأولى في الجدول إلى أنه "من الممكن أن تصبح صانع تغيير في غضون بضعة أسابيع قليلة"، كما يؤكد بوداك، "والتحكم في عدة عوامل مثل العمر والجنس والعرق ويمكن لأي شخص إلى حد بعيد أن يصبح صانعاً للتغيير بنجاح وذلك حسب الإحصاءات". ومع ذلك ونظراً لاقتصار البيانات التي يعتمد عليها بودك في تقييماته على طلاب الجامعة المسجلين في دوراته التدريسية، فقد يبدو هذا الاستنتاج مبالغاً فيه بعض الشيء. وفي الوقت نفسه، يعدُ جدول التقييم الذاتي بتقييم عمل العشرات من المؤسسات الخيرية ومؤسسات التغيير الاجتماعي التي تسعى جاهدة لتقييم قدرتها على التغيير.
لذا، هل نستطيع أن نعدّ ادعاء بوداك بأن "كل شخص يمكنه أن يصبح صانعاً للتغيير" مقنعاً؟ وبعبارة أخرى، في عالم يتسم بعدم المساواة العالمية المزمنة وبأنواع أخرى من الظلم البنيوي، هل الحجة القائلة بأن "كل فرد يمكن أن يكون صانع تغيير" مقنعة؟
وبدلاً من التركيز على صنع التغيير كعملية جماعية تستلزم إعادة هيكلة علاقات القوة المجتمعية، يركز بوداك على صناعة التغيير بوصفها محاولة فردية في الأساس لإجراء تحسينات هامشية على نوعية الحياة ومدتها. ونظراً لهذا النهج الفردي والنفعي، فإن كتاب "التحول إلى صانع للتغيير" يتجاهل عن عمد القضايا المعقدة والمنهجية المتعلقة بالتغيير الشامل والعدالة والإنصاف، التي تؤثر جميعها في قدرة الإنسان على أن يصبح صانع تغيير وبخاصة الإنسان الذي يعاني الحرمان على نحو منهجي.
كما يتجاهل الكتاب على عكس أبحاث الابتكار الاجتماعي المعاصرة والسائدة العمليات والمؤسسات التي تقود إلى هذا التغيير والتي تقف عائقاً أمام تحقيقه أحياناً. فعندما يشير بوداك إلى وجود "عقبات هيكلية خارج قدرتنا"، فإنه يُسند على الفور مسؤولية التغلب على هذه العقبات إلى صانع التغيير الفرد نفسه، الذي "يمكنه تشكيل عالم يعمل لمصلحة كل واحد منا، بل ويجب عليه تشكيله".
بطل أسطوري
وعلى الرغم من التأكيد على مفهوم المساواة والشمولية التامة في صناعة التغيير، وعلى الرغم من أسلوب القيادة الذي يشدد على التعاون المتبادل، فإن صانع التغيير الذي يتحدث عنه بوداك ما هو إلا بطل أسطوري. ويطرح هذا الاستنتاج الذي يبدو من الصعب التوفيق بينه وبين دعوة الكاتب لقيادة تعاونية وواسعة لصنع التغيير سؤالاً أعمق: حتى بقبول فرضية بوداك القائلة بأنه يمكن تعلم صنع التغيير ويمكن لأي شخص تحقيقه، فهل يمكن لهذه الطريقة الفردية وهل يمكن لشخص واحد معالجة حجم تحديات اليوم؟
وتستمر هذه الوتيرة في الكتاب بين التغني بتفرد صانع التغيير كعامل منفرد للتغيير والمحاولات الموازية في الكتاب لإزالة الغموض حول صانع التغيير وتأكيد قدرة الجميع على التحول لصانع للتغيير. وتزداد حدة هذه الوتيرة بسبب الطبيعة الغامضة وغير الواضحة لشكل "التغيير الإيجابي" المنشود. وبالتوازي مع عدم وصف الكتاب لحجم التغيير المطلوب أو نطاقه (يكفي أن يكون "إيجابياً")، فهو يمتنع عن تقديم مبادئ أخلاقية مثل الاستدامة والعدالة والمساواة، أو رؤية اجتماعية سياسية مرافقة للتغير يمكن الاستناد إليها لبناء عالم أفضل.
ويقدم بوداك مجموعة أدوات محايدة سياسياً لتمكين أي شخص من تحقيق تطلعاته للتحول إلى صانع للتغيير بدلاً من طرح أيديولوجيته الخاصة. ومع ذلك فإن الغموض المحيط باستخدام مصطلح "التغيير الإيجابي" لا يخاطر بإفراغ هذا المفهوم النقدي من محتواه فحسب، بل يحمل معه تبعات غير محسوبة أيضاً. وعبر رفض كتاب "التحول إلى صانع للتغيير" تقديم الأسس اللازمة لنقد الأنظمة والمؤسسات، فقد ينظر إليه على أنه يختصر العالم الذي نعيش فيه اليوم، إلى عالم يسكنه أبطال أسطوريون يزرعون التغيير في فراغ مجتمعي. ألا تناقض هذه النتيجة جوهر صناعة التغيير الذي يُعرَّف بأنه تحدٍّ للوضع الراهن؟
أؤكد أن صناعة التغيير الشامل عبر تجاوز حدوده التقليدية (الاجتماعية) والوسائل التقليدية (ريادة الأعمال) يستدعي في جوهره المزيد من التوجيه من حيث المعايير والسياق. ويجب ألا يركز ذلك فقط على "كيف" يصبح كل واحد منا عامل تغيير فحسب، بل وعلى "لماذا" يجب أن يصبح كل واحد منا عامل تغيير. وفي النهاية، هل القيادة الحقيقية لصنع التغيير تتعلق بالقدرة على التأثير في الآخرين أو إعطاء الآخرين فرصة لتوظيف إمكاناتهم؟ يبقى الكتاب ضبابياً بشأن هذا السؤال الأساسي.
وعلى الرغم من أوجه القصور تلك، يُعد كتاب "التحول إلى صانع للتغيير" إسهاماً مهماً في منظومة صانعي التغيير الكبيرة، وبخاصة في الوقت الذي تتخطى فيه مشاريع التغيير حدود الريادة الاجتماعية.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.