يُحرك دافع خدمة المجتمع العديد من الأشخاص إلى تأسيس مؤسسة غير حكومية، وفي العديد من الدول، قد لا تكون عملية التسجيل مكلفة أو معقدة للغاية، ما يشجع المزيد على اتخاذ هذه الخطوة، لكن بعد مرور الوقت سيدركون أن مرحلة التأسيس كانت التحدي الأسهل، فهناك تحديات جوهرية لا تزال تعترض هذه المؤسسات التي يمكن أن تؤدي مع مرور الوقت إلى الإغلاق وحرمان المجتمع من أداة فعالة لمساعدة الفئات المستضعفة والمهمشة.
المؤسسات غير الحكومية: مفهوم مثير للجدل
أُثير العديد من الآراء حول معنى المؤسسات غير الحكومية وتحديد مجالات تدخلها في المجتمع وطبيعة العمل الذي تمارسه، ومتى تمارسه، وإلى أي حد تنفذه، ففي الوقت الذي يمكن للمؤسسات غير الحكومية الحفاظ على استقلاليتها قد تتحول إلى جهات تابعة للحكومة، وهذا ما دفع الباحث فليكس دميت، إلى ربط عمل المؤسسات غير الحكومية بالأمور التي لا يمكن للحكومة أو لا ترغب في القيام بها.
ويعد مفهوم المؤسسات غير الحكومية في العالم العربي حديثاً نسبياً، فقد ظهر خلال العقود الأخيرة، وبدأت الجمعيات الأهلية تقدم نفسها بصفتها مؤسسات غير حكومية على الرغم من عدم وجود هذا التعريف في قانون الدولة المحلية التي تعمل بها هذه الجمعيات، وأُطلق المصطلح كذلك على الجمعيات التي تركز على الجانب التنموي أو ذات الأنشطة المتعددة التي تحتاج إلى تمويل محلي وتمويل دولي.
بعيداً عن مشكلة تحديد معنى المؤسسات غير الحكومية أو تعريفها، فقد وجدت هذه المؤسسات نفسها في كثير من الأحيان وسيلة لتعوِّض دور الحكومات في القدرة والاستعداد لمعالجة القضايا المجتمعية الحيوية لكنها اصطدمت بالعديد من التحديات التي تمنعها من خلق مستقبل أفضل، أبرزها:
1. غياب التخطيط الاستراتيجي
يعد التخطيط الاستراتيجي عنصراً مهماً لاستدامة المشاريع الخيرية، لأنه يستند إلى التعاون بين القطاعات والمجالات ذات الأولوية في تمويل المشاريع وتنفيذها، وتبنّي أدوات مبتكرة تساعد على إيجاد حلول مستدامة وعالية التأثير للمشكلات والتحديات.
قد تجد المؤسسات غير الحكومية صعوبة في تطوير استراتيجية فعالة في ظل بيئة غير مستقرة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، لكن سيعوق ذلك قدرتها على قياس الأثر مع مرور الوقت، فقد وجدت دراسة طُبقت على الهلال الأحمر القطري لمعرفة واقع تنفيذ التخطيط الاستراتيجي في المنظمات غير الحكومية وتحدياته، أن مراجعة الخطة الاستراتيجية والموافقة عليها، والتغيير التنظيمي المتكرر، والقيود المفروضة على التحويلات المالية والتدخل الإنساني الخارجي، من التحديات المهمة التي تواجه الهلال الأحمر القطري في تنفيذ عملية التخطيط الاستراتيجي.
وعلى الرغم من أن سياسة اللامركزية التي اتبعها الهلال الأحمر القطري ساعدت على تسريع اتخاذ القرار وتوافقه مع احتياجات المستفيدين؛ فإنها أثرت سلباً في الرقابة المالية الداخلية، إذ أصبح من الصعب معرفة حجم التجاوزات والأخطاء المالية.
2. سوء الإدارة والحوكمة
لم تعد الحوكمة مقتصرة على القطاعات الحكومية والخاصة بل بات من الضروري تطوير ممارسات الحوكمة في القطاع الخيري لتوسيع نطاق أثره، خصوصاً مع ارتفاع مطالب المتبرعين والمانحين بتقديم أدلة تؤكد مدى فعالية المؤسسة الخيرية وشفافيتها في الإفصاح عن نتائج أعمالها.
في حين أن الحوكمة عامل مهم لمساءلة المؤسسات غير الحكومية وتأكيد شفافيتها، فقد يركز بعض المؤسسين على الحفاظ على سلطتهم أمام مجلس الإدارة والاستمرار في توجيه المؤسسة بما يخدم مصالحهم، إذ يعتقد 82% من المشاركين في دراسة أعدتها مبادرة بيرل عام 2018 بعنوان: "حالة الحوكمة في قطاع العطاء الاجتماعي – منطقة الخليج"، ضرورة تعزيز ممارسات الحوكمة داخل مؤسساتهم، ولفت 60% منهم إلى أهمية الشفافية في اتخاذ قرارات التمويل.
وفي دراسة طُبقت على 209 موظف و15 مديراً في 8 جمعيات خيرية في سلطنة عمان، تبين أن أبرز التحديات الإدارية التي تواجهها هذه الجمعيات تتعلق بالتخطيط والتنظيم، والتوظيف والتوجيه، والإشراف والتنسيق، وإعداد التقارير والتمويل وإعداد الميزانية والقيادة واتخاذ القرار.
3. نقص التمويل
يمكن اعتباره "التحدي القديم - الجديد" إذ غالباً ما تعاني المؤسسات غير الحكومية في الحصول على الدعم المادي الكافي الذي يضمن استمرار عملها، ويلجأ العديد منها إلى الجهات الدولية بدلاً من تعبئة الموارد وحشد الجهود لإيجاد مصادر تمويل محلية.
من جهة أخرى تركز المؤسسات غير الحكومية الدولية على تمويل المشاريع دون الاستثمار في بناء قدرات المؤسسات غير الحكومية المحلية ومهاراتها، وعادةً ما تستأثر بسلطة اتخاذ القرار فيما يتعلق بتخصيص المشاريع، وتحديد الموقع والمستفيدين وتخصيص الميزانية، ما يقوّض قدرة المؤسسات المحلية على تعزيز فعالية الاستجابة الإنسانية من خلال معرفتها بالاحتياجات الفعلية للمجتمعات التي تخدمها.
4. ضعف التواصل والتنسيق
التواصل "أداة هائلة للتغيير الاجتماعي"، كما يصفه عالم الاجتماع الفرنسي أليكسي دي توكفيل، وعندما تعمل المؤسسات غير الحكومية على تطوير قدرات التواصل لديها ستصبح قادرة أكثر على تحسين أدائها فيما يخص التعبئة المجتمعية والضغط والمناصرة وتقديم المقترحات وتأسيس المشاريع وتشغيلها.
وتُظهر التجارب في العديد من البلدان أن بناء شبكات التواصل والتعاون تتطلب وجود الموارد الأساسية (المادية والبشرية)، واتباع نهج ديمقراطي، ودرجة من الكفاءة المهنية والخبرة، وللأسف هناك تضارب في الجهود والاستراتيجيات لدى المؤسسات غير الحكومية في المجتمع المحلي ينتج عنه مشاريع غير منظّمة وغير مستدامة ولا تلبي الاحتياجات الفعلية للمجتمعات.
كيف يمكن تجاوز هذه التحديات؟
تحتاج المؤسسات غير الحكومية إلى تحديد رسالتها بوضوح ونقلها إلى المجتمع والأطراف المعنية من مانحين وممولين عبر أدوات تواصل فعّالة تسهم في حصولها على التمويل اللازم لاستدامة أعمالها، ويجب عليها تكييف نفسها مع التكنولوجيا الحديثة وتنظيم برامج تدريبية للموظفين والمتطوعين باستمرار لمواكبة التطورات التقنية.
كما يمكن أن تؤدي الدولة دوراً مهماً في تعزيز فعالية المؤسسات غير الحكومية عبر خلق بيئة تشريعية ملائمة لعمل تلك المؤسسات، مثل تخفيض الضرائب المفروضة على الشركات التي تسهم في المشاريع الخيرية، فنظام ضرائب الدخل في أميركا مثلاً يمنح للأثرياء ورواد الأعمال والشركات والأفراد خيار الإعفاء الضريبي للدخل في حال التبرع للمؤسسات غير الربحية.
وفي السعودية، حيث يشكل القطاع غير الربحي جزءاً مهماً من رؤية 2030، استفادت المؤسسات من تجارب الدول المتقدمة في مواجهة التحديات الصعبة، وبدأت البحث عن أدوات قياس حديثة وتطوير معايير محاسبية جديدة مثل مقياس العائد الاجتماعي (Social Return on Investment) لمعرفة أثر البرامج والمشاريع، وتعزيز التواصل مع المانحين والممولين والداعمين لإثبات جدوى نشاطات المؤسسة وأثرها.
في كل مجال هناك تحديات، وبالنسبة للمؤسسات غير الحكومية، فإن تحسين التواصل مع أصحاب المصلحة واتباع النهج الاستراتيجي الفعّال في التخطيط والتنفيذ والمتابعة سيضمن لها الاستمرارية واستدامة الأثر.