ما المفهوم الجديد الذي ابتكره كتّاب استراتيجية المحيط الأزرق وما تأثيره المجتمعي؟

الإنشاء غير المزعزع
shutterstock.com/Excelworld
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

على مدار العشرين عاماً الماضية، كثُر النداء بمبدأ الزعزعة منطلَقاً للأعمال التجارية واعتُبر تجاهله طريقاً إلى الفشل المحتوم. انتشرت الدعوات لاستخدام الزعزعة عبر وادي السيليكون، وغرف مجالس إدارة الشركات الكبرى، ووسائل الإعلام، ومؤتمرات الأعمال في جميع أنحاء العالم، ولطالما نبهت هذه الدعوات قادة الأعمال إلى أن الطريق الوحيدة للاستمرار والنجاح والنمو هي زعزعة قطاعاتهم أو حتى شركاتهم. ليس من المفاجئ أن ينظر الكثيرون إلى الزعزعة بوصفها مرادفاً تقريباً للابتكار،

لكن السؤال هو هل هي الطريق الوحيدة نحو الابتكار والنمو؟ وهل هي بالضرورة أفضل الطرق التي يمكن اتباعها في هذا الخصوص؟ الإجابة هي “لا” وفقاً لأبحاثنا وما تشير إليه هذه الحالات: على الرغم من أن الزعزعة تشغل الناس، وهي مُهمة لا شك ونراها في كل مكان حولنا، فالمبالغة في التركيز عليها قادتنا إلى التغاضي بدرجة كبيرة عن طريقة أخرى للابتكار والنمو نرى أن لها على الأقل القدر نفسه من الأهمية، وهي تتضمن إنشاء أسواق جديدة دون اللجوء إلى الزعزعة أو الإزاحة، ما نرى أنه “إنشاء غير مزعزع”.

إذا تمكّنا من فهم هذا النمط من الابتكار المنشئ للأسواق وآلياته فهماً أفضل، سيزداد استعدادنا لتحقيقه، ومن هنا بدأ بحثنا الأخير الذي كشفنا عنه في كتابنا الصادر حديثاً: “ما وراء الزعزعة: ابتكر وحقق النمو دون إزاحة القطاعات أو الشركات أو الوظائف” (Beyond Disruption: Innovate and Achieve Growth without Displacing Industries, Companies, or Jobs)، ونوضح فيه أنه لا يمكن تعريف الإنشاء غير المزعزع على أنه تكنولوجيا مبتكرة أو جديدة أو ابتكار جديد في حد ذاته، كما أنه لا يقتصر على سوق جغرافية أو مستوى اجتماعي اقتصادي محدد.

يمثل الإنشاء غير المزعزع (non disruptive creation) مفهوماً جديداً مميزاً وفيما يلي نوضح لكم الفرق بين تأثيراته وتأثيرات الإنشاء المزعزع في الاقتصاد والمجتمع. تشان كيم (Chan Kim) ورينيه موبورن (Renée Mauborgne).

لنتأمل الأمثلة التالية: نتفليكس مقابل بلوك باستر، وأمازون مقابل بائعي الكتب وتجار التجزئة في الأسواق الرئيسية، وشركة أوبر مقابل سيارات الأجرة، وبالعودة بالزمن إلى الوراء، الطائرات مقابل السفن العابرة للمحيطات. على الرغم من أن هذه الأمثلة تأتي من قطاعات وأزمنة مختلفة فإنها تشترك في ثلاثة عوامل رئيسية، الأول هي أنها جميعها حالات إنشاء مزعزع، فإذا قرأت المقالات وآراء المسؤولين التنفيذيين وتأمّلاتهم أو تحليلات المستثمرين التي تتناولها، فستجد أنها تصف هذه الأحداث غالباً بأنها مزعزعة. الثاني هو أن هذه الأمثلة كلها تعكس موقفاً يفوز فيه طرف ويخسر آخر، والثالث هو أنها تفرض على المجتمع تكاليف تكيّف مرهقة حتى لو جلبت فائدة للمستهلكين، فكيف ذلك؟

من الناحية الإيجابية، يساعد العرض المزعزع المستهلكين والمشترين على توفير وقت كبير، لهذا السبب ينجذب الناس إليه سواء قدمته نتفليكس أو أمازون أو أوبر أو أي شركة أخرى. حتى تُحدث المنتجات أو الخدمات زعزعة في القطاع المعني، يجب أن تحقق قفزة في القيمة (تتجلى عادة من خلال نموذج عمل جديد)، وإلا فلن يرى المشترون سواء كانوا شركات أو مستهلكين سبباً وجيهاً للتحول من العرض الحالي إلى العرض الجديد.

لنأخذ شركة أمازون مثالاً، إذ زعزعت سوق بيع الكتب في البداية، وكما نعلم فهي تزعزع اليوم متاجر التجزئة في الأسواق الرئيسية، وإذا سألت المستهلكين أو الشركات عن سبب اختيارهم أمازون فستسمع سيلاً من التعليقات الإيجابية من قبيل: “لأنها تتيح لي العثور على الكتاب أو الشيء الذي أريده في أي وقت”، “مراجعات وتقييمات الزبائن المباشرة، هي فكرة رائعة”، “إتمام عملية الشراء بسرعة وسهولة”، “يمكنني طلب أي شيء أريده وأنا جالس على أريكتي، والتسليم سريع على نحو مذهل”.

من الناحية الاقتصادية، ينتج عن الأعمال المزعزعة فائض استهلاكي مرتفع، كما أنها تؤدي إلى تخصيص موارد المجتمع بطريقة تتيح استخدامها بطرق أفضل، وهذه القفزة في الفائض الاستهلاكي هي سبب تسوق الكثيرين عبر أمازون واستخدامهم خدمة أوبر وإدمانهم على التقاط الصور الرقمية ومشاهدة نتفليكس بنهم، ولهذا السبب أيضاً تميل الشركات المزعزعة إلى تنمية القطاعات، لأن القيمة المُقنِعة التي تقدمها نماذج الأعمال المبتكرة تجذب إلى عروضها جميع الأشخاص الذين لم يسبق لهم شراء منتجات أو خدمات الشركات القائمة، وتحفّز العملاء السابقين لهذه الشركات على استخدام المنتج أو الخدمة المزعزعة أكثر.

الطرف الرابح والطرف الخاسر في الإنشاء المزعزع

ومع ذلك، ينطوي تحقق النمو في الإنشاء المزعزع على وجود طرف رابح وآخر خاسر، فنجاح الطرف الذي سبب الزعزعة يأتي على حساب الجهات الفاعلة الأخرى والأسواق القائمة، وهو ما يقودنا إلى القاسم المشترك الثاني: الإنشاء المزعزع يفرض مقايضة واضحة بين الرابحين والخاسرين، يتوقف حجمها على مقدار الإزاحة. في بعض الأحيان قد يؤدي ربح طرف واحد إلى خسارة مائة طرف في المقابل وذلك لأن القفزة في الفائض الاستهلاكي الناجمة عن المنتج المزعزع يمكن أن تقضي تقريباً على القطاع والجهات الفاعلة القائمة، كما فعلت الطائرات إلى حد كبير مع السفن العابرة للمحيطات. يؤدي انخفاض الطلب على المنتجات القديمة إلى انخفاض أرباح الجهات الفاعلة والأسواق القائمة،

على سبيل المثال، لم تكتفِ أمازون بإزاحة 1,200 متجر من متاجر بوردرز (Borders) لبيع الكتب وعدد لا يحصى من بائعي الكتب المستقلين والاستيلاء على حصة كبيرة من مبيعات شركة بارنز آند نوبل (Barnes & Noble)، إذ إنها تفعل الأمر ذاته مع تجار التجزئة في الأسواق الرئيسية والمتاجر في عموم البلاد. ولأن أمازون نجحت في تحقيق نمو جبّار فقد كانت معظم الجهات الفاعلة الأخرى تتكبد خسائر فادحة بمعدل ينذر بخطر إغلاق المتاجر ومراكز التسوق والإفلاس في جميع أنحاء أميركا، وذلك حتى قبل أن تتفشى جائحة كوفيد-19. تمثل أمازون اليوم 50% من مبيعات التجزئة عبر الإنترنت في الولايات المتحدة،

وفي حين ترحب الصحافة بالنجاح الذي تحققه المنتجات المزعزعة، ويتزاحم المشترون والمستثمرون عليها، فإن هذا النهج الذي يؤدي إلى ربح طرف وخسارة آخر يقودنا إلى القاسم المشترك الثالث، ألا وهو تكاليف التكيف المرهقة التي يتحملها المجتمع والتي تنطوي على مستويات مختلفة من الضرر والمشقة. يغطي الحماس والبهجة اللذان يحيطان بالإنشاء المزعزع على عدد من تبعاته: فقدان الوظائف الحالية وتسريح العاملين أغلب الأحيان، وانخفاض الأجور وإلحاق الضرر بالمجتمعات والحد من قيمة المعارف والمهارات والمصانع والمعدات بصورة كبيرة، هذا إذا لم يُستغنَ نهائياً عنها. حتى عندما تكون التكاليف الاقتصادية التي تنطوي عليها المنتجات المزعزعة صغيرة بالنسبة للاقتصاد الكلي، يمكن أن تكون التكاليف الاجتماعية كبيرة للغاية بالنسبة للأشخاص والشركات والمجتمعات المتضررة،

وهذا يعني أن الزعزعة لا تنطوي على آثار إيجابية فحسب، بل لها آثار سلبية فعلية في حياة البشر وفي الاقتصاد. على الرغم من أن الأشخاص الذين سُرحوا من وظائفهم قد يجدون عملاً في قطاع آخر، فهذا غير مضمون لا سيما في المجتمعات الريفية حيث كانت الوظائف المحلية نادرة في البداية، من جهة أخرى، لا شك في أن الزعزعة تحقق نمواً جديداً وتخلق وظائف جديدة أيضاً، لأن تلبية الاستهلاك الكلي تتطلب توظيف الأشخاص، على سبيل المثال، أدت زعزعة أمازون لسوق بيع الكتب وأسواق التجزئة إلى فقدان ما يصل إلى 900,000 وظيفة لكن القوة العاملة في أمازون قفزت في الوقت ذاته من 200,000 إلى 800,000 موظف عندما تفشت جائحة كوفيد-19. تزايد التأثير الإيجابي لشركة أمازون في التوظيف على نحو مطرد على مر السنين، ما انعكس إيجاباً على الاقتصاد وخفف من التأثيرات السلبية للزعزعة، لكن هذا لا يعني أن وظائف أمازون بديل عن الوظائف المفقودة، أو أنها تعتمد على المهارات والمعارف ذاتها التي يتمتع بها الموظفون الذين سُرحوا من وظائفهم، والذين قد يتجرعون بسبب ذلك مرارة البقاء دون عمل. ليس هنالك أي ضمان أيضاً بأن النمو السريع للأعمال المزعزعة سيؤدي بالضرورة إلى زيادة صافية لفرص العمل في النظام الاقتصادي، ذلك أن نماذج أعمالها تركز بصورة متزايدة على التكنولوجيا، وتتطلب وظائف أقل.

من حيث الجوهر، ينتج عن الإنشاء المزعزع موقف يربح فيه طرف ويخسر آخر على الرغم من أن الفائض الاستهلاكي الذي يحققه على المدى الطويل يخلق نمواً إجمالياً على المستوى الكلي، ولا يقتصر على مجرد نقل الطلب من السوق القديمة إلى الجديدة، وهنا يولد العمل المزعزع عن غير قصد تكاليف بشرية واجتماعية على المدى القصير والمتوسط ​​لتوليد أرباح خاصة، ويفرض، على افتراض ثبات العوامل الأخرى، مقايضة على المجتمع لأنه يؤدي دوره الاستثنائي في إعادة إنشاء القطاعات من الداخل لتحقيق النمو.

المحصلة الإيجابية للإنشاء غير المزعزع

يمثل فوز الأطراف جميعها نقطة الفصل بين الإنشاء المزعزع وغير المزعزع، ففي الحالة الأولى يرتبط إنشاء أسواق جديدة بتقويض أسواق قديمة، أما الإنشاء غير المزعزع فإنه يقطع هذه الصلة بفعالية. يمكن تعريف الإنشاء غير المزعزع عموماً بأنه إنشاء سوق جديدة خارج حدود القطاعات القائمة والجهات الفاعلة الحالية بما يضمن عدم تعرضها إلى الزعزعة أو الفشل، إنه نهج ابتكار تربح فيه الأطراف كلها، على عكس النهج الذي يؤدي إلى ربح طرف على حساب آخر، وليس الابتكار غير المزعزع نهجاً واعداً فحسب، بل هو تكملة ضرورية أيضاً للزعزعة في مجال الابتكار. ما أوجه التشابه والاختلاف بين نهجي الإنشاء المزعزع وغير المزعزع؟

أولاً، كما الإنشاء المزعزع، يوفر الإنشاء غير المزعزع قيمة مُقنِعة للمشترين سواء كانوا مستهلكين أو شركات ويغير حياتنا تغييراً إيجابياً، ولهذا السبب نشتري المنتج أو الخدمة وتنطلق السوق الجديدة، ويمثل وجود قيمة مُقنِعة شرطاً أساسياً لذلك تماماً كما هو الحال في الإنشاء المزعزع.

يعد برنامج الأطفال “افتح يا سمسم” (Sesame Street) مثالاً على الإنشاء غير المزعزع إذ يوفر للآباء فرصة لتعليم أطفالهم في مرحلة ما قبل المدرسة عن الألوان والأشكال والحروف الأبجدية والمهارات المهمة مثل الاستماع، وهم في المنزل، كما أنه يوفر لهم متنفساً قصيرا للاستراحة بهدوء أو الاهتمام بالأمور المنزلية الأخرى. ومن خلال مزج الخيال بالواقع وإضافة الأغاني والضحك حقق الأطفال بدورهم مكسباً من هذه الدمى المتحركة المحببة والملونة، إذ طوروا أساساً للمرحلة المبكرة من المدرسة، فإلى جانب المتعة الكبيرة كانوا يتعلمون أيضاً دون أن يدركوا ذلك.

ثمة أمثلة كثيرة على الإنشاء غير المزعزع الذي يقدم قيمة مُقنِعة للمشترين والمستخدمين، ومنها حبوب الفياغرا التي ساعدت الرجال بعد سنوات طويلة من المعاناة، وقارئ بطاقات الائتمان سكوير ريدير (Square Reader) الذي أتاح لزبائن الشركات الصغيرة الدفع باستخدام بطاقات الائتمان، والتدريب لتحسين الحياة الشخصية، أو تطبيق ستار ووك (Star Walk) الذي أتاح لأي منا مراقبة السماء ليلاً ومعرفة أسماء النجوم والكواكب التي ينظر إليها. يتضمن بعض هذه الأمثلة تكنولوجيا جديدة، في حين لا تتضمنها أخرى، مثل التدريب لتحسين الحياة الشخصية،

ولكنها، على النقيض من الإنشاء المزعزع تحقق النمو دون إزاحة الصناعات القائمة أو الجهات الفاعلة الحالية. ليس ثمة طرف خاسر واضح في هذه الحالة، ولذلك فتكاليف التكيف المرهقة التي سيتحملها المجتمع ستكون ضئيلة أو معدومة، ما يعني أن للإنشاء غير المزعزع تأثيراً إيجابياً في النمو والوظائف منذ البداية.

على سبيل المثال رأت مؤسسة كيك ستارتر (Kickstarter) أن آلافاً مؤلفة من المبدعين الصغار والكبار يحلمون بمشاريع في غاية الابتكار لكنهم عاجزون عن تحقيقها بسبب افتقارهم إلى التمويل اللازم، ومع ذلك لا يهدف معظم المبتكرين إلى تحقيق عائد على الاستثمار، فهم يبتكرون في المقام الأول لتجسيد رؤية فنية في أذهانهم، لذا ليس من المفاجئ أن منصة كيك ستارتر للتمويل الجماعي عبر الإنترنت لم تزح أو تستبعد حتى حصة صغيرة من أرباح مستثمري الأسهم الحاليين أو أصحاب رؤوس الأموال أو تضر بنموهم أو فرصهم في الاستثمار ولم تستولِ على شيء من قطاع التمويل القائم. ولأن الداعمين لا يتلقون أي حوافز مالية على كيك ستارتر -فقط سلع رائعة أو تقدير وشكر يُنشره المبدع على موقعه الإلكتروني- ظهرت مجموعة جديدة من المستثمرين تهتم بالعمل الإبداعي ومساعدة الآخرين على تحقيق أحلامهم.

بعد إطلاق مؤسسة كيك ستارتر صنّفتها مجلة التايم واحدةً من أفضل 50 ابتكاراً خلال العام، إذ إنها ربحت وكان الخاسرون بسبب ربحها محدودين، إن وجدوا أصلاً. في غضون ثلاث سنوات من إطلاقها، أصبحت المؤسسة تحقق أرباحاً وجمعت في عقدها الأول 4.3 مليارات دولار للمشاريع المدعومة على منصتها، ونجحت في تمويل أكثر من 160 ألف فكرة لم تكن لتتحقق بأي طريقة أخرى. وفقاً لدراسة في جامعة بنسلفانيا (University of Pennsylvania) ، تقدِّر كيك ستارتر أن مشاريعها خلقت أكثر من 300,000 فرصة عمل بدوام جزئي وكامل، جنباً إلى جنب مع 8,800 شركة جديدة ومؤسسة غير ربحية، ما ولّد تأثيراً اقتصادياً مباشراً لهؤلاء المبدعين ومجتمعاتهم تتجاوز قيمته 5.3 مليارات دولار. لم يفقد أحد وظيفته ولم تصفِّ أي شركة أعمالها بسبب كيك ستارتر، ومن ثم فقد ساعدت مجتمع المبدعين على الازدهار دون أن يرتّب ذلك تكاليف تكيف اجتماعية باهظة أو مرهقة، وعلى هذا النحو ربح الجميع.

التحوّل من الخوف إلى الأمل: انعكاسات السياسات على المستقبل

هل سبق لك أن لاحظت كمّ العدائية والخوف اللذين يكتنفان قطاع الأعمال؟ نكره جميعاً هذا النوع من السلوكيات والعواطف لأنه يثير في أنفسنا القلق ويشعرنا بأننا مهددون وأننا قد نتعرض إلى التهميش أو يُقضى علينا ما لم نبادر بالهجوم أولاً. تستند رؤية الحياة هذه إلى مفهوم الندرة، وعلى الرغم من أنه يجب الحد من العدائية والخوف فإننا اعتدنا تبنّيهما ظناً منا أنهما يساعداننا على تحقيق النجاح أو حتى تحسين العالم.

لكن ماذا لو تمكّنا بدلاً من ذلك من الاستعاضة عن الخوف بالأمل، وعقلية الندرة بعقلية الوفرة؟ تستند فكرة القدرة على الإنشاء والنمو دون زعزعة الآخرين أو تدميرهم إلى الأمل بأن الابتكار يمكن أن يعود بنتائج إيجابية على الجميع وأنه يجب ألا يكون لعبة قائمة على الخوف، تنتهي بربح طرف وخسارة آخر، وهذه هي عقلية الوفرة التي يعزز الإنشاء غير المزعزع تبنّيها حينما ينشئ أسواقاً جديدة خارج القطاعات القائمة.

ومع ذلك، نعلم جميعاً أن الخوف والأمل محفّزان مُقنِعان بالقدر نفسه للعمل والإنجاز، يمثل الخوف الذي يثيره التحدي التنافسي أو تهديد مثل “إما أن تنشئ عملاً مزعزعاً أو ينتهي أمرك” بالنسبة إلى المؤسسة حافزاً قوياً للعمل، لكن الأمل في تقديم إسهام إيجابي لكل من قطاع الأعمال والمجتمع هو حافز لا يقل قوة عن حافز الخوف، ولذلك من المنصف القول إن نظرة الإنشاء غير المزعزع إلى العالم تكمّل نظرة الإنشاء المزعزع.

بالنظر إلى المستقبل والآثار المترتبة على السياسات، سيظل الإنشاء المزعزع مهماً لتجديد القطاعات، لا سيما التي أصابها خلل بسبب الإنتاج غير الفعال والعالي التكلفة والمنخفض الجودة نتيجة قدم بنيتها التحتية أو أصولها الثابتة، ولكن فيما يتعلق بالنمو والابتكار، سيكون من الحكمة أن يزيد واضعو السياسات الوعي بأهمية الإنشاء غير المزعزع إلى جانب الإنشاء المزعزع. لا يقتصر دور الاقتصاد الفعال على النمو والتطور فقط إذ يجب أن يضمن أيضاً عدم تخلف أحد عن الركب وأن يتيح للجميع المشاركة في تنميته والاستفادة من ثماره، واستخدام الإبداع البشري هو أحد السبل التي تساعد المجتمع على التحرك في هذا الاتجاه من خلال إنشاء أسواق ووظائف جديدة دون زعزعة، وهي رسالة على السياسيين وواضعي السياسات على وجه الخصوص أخذها على محمل الجد عند صياغة استراتيجيات الابتكار الإقليمية والوطنية حتى يتمكنوا من المساعدة على تقليل الصراعات الاجتماعية وتكاليف الابتكار والنمو،

فالنمو الذي لا يخلق فرص عمل سيكون مكلفاً ومحفوفاً بالمخاطر لأي مجتمع، وحتى عندما يوفر المزيد من فرص العمل على المدى الطويل، سيكون على الحكومات التعامل مع تكاليف التكيف الاجتماعي والضرر المرتبط بها إذا ترافقت هذه الفرص مع عمليات إزاحة غير منظّمة. إلى جانب الإنشاء المزعزع الذي من الواضح أنه يتمتع بنقاط القوة المميزة الخاصة به، سيكون من الحكمة أن تضع الحكومات سياسات لدعم مسار النمو التكميلي للإنشاء غير المزعزع للحفاظ على التقدم السليم لكل من قطاع الأعمال والمجتمع.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.