يتمثل الهدف الأساسي من وجود الحكومات في توفير حياة كريمة للأفراد، والتي تتجسد في الطابع الإنساني للمدن الذي يتيح لكل الأفراد فرصة الاستفادة من الخدمات والتواصل الفعّال. وقد يتجلى الطابع الإنساني في مشهد مفعم بالحيوية يزخر فيه قلب مدينة بالحدائق والبحيرات الصغيرة والساحات، حيث يطارد الأطفال بعضهم البعض، والشباب يلتقطون صوراً تحت شجرة مزهرة، والمسنين يجلسون على مقاعد الحدائق يطعمون الطيور من حولهم، والأرصفة تتزين بألوان الفاكهة التي يعرضها الباعة.
وتتسم تجارب الأشخاص بكم كبير من التنوع الحسي، لأنها مرتبطة بالأفراد، ؛ لذا تبدو الحياة داخل المباني أكثر أهمية من المباني نفسها، وتتشكل انطباعات الأفراد عن المدن من خلال جودة الأماكن العامة، فإذا لم تكن ممتعة أو تنقل إحساساً بعدم الأمان، نادراً ما يعودون إليها، وبالتالي يجب العمل على التخطيط الجيد لهذه المساحات.
تخطيط إنساني لمكونات الفضاء العام
من سومر القديمة إلى نيويورك، شهدت المدن تطوراً واسعاً، ولكن منذ الثورة الصناعية، انحرفت عملية التنمية بعيداً عن التصميم المتمحور حول الإنسان، وكانت الناشطة الاجتماعية الكندية جين جيكوبز (Jane Jacobs) أول من انتقد حركة التجديد الحضري، بحجة أن معظم المدن لا تحترم احتياجات السكان، وعارضت إنشاء الطرق السريعة، وحذّرت من الزحف العمراني، ودعت إلى مدن متكاملة ومتنوعة، وسلطت جيكوبز الضوء في كتابها موت وحياة المدن الأميركية الكبرى (The Death and Life of Great American Cities) على أهمية التخطيط الإنساني، وأثر عملها لاحقاً على المهندس المعماري الدنماركي جان جيل (Jan Gehl) الذي ساعد في تحويل كوبنهاغن من مدينة تهمين عليها السيارات إلى مدينة مخصصة للمشاة.
ومنذ اعتماد السيارات على نطاق واسع، تحوّل تصميم المخططين الحضريين بعيداً عن البشر، وزاد احتياج المدن النشطة، مثل أبوظبي إلى تخطيط إنساني لدمج سكان المستقبل بنجاح في النسيج الحضري، إذ بيّنت دراسة للباحث سعد العامري منشورة في جامعة أبوظبي بعنوان: إضفاء الطابع الإنساني على مكونات الفضاء العام في أحياء أبوظبي أن أحياء أبوظبي تفتقر إلى الملاعب والحدائق التي يمكن الوصول إليها بسهولة، وأن السيارات تهيمن على الفضاء العام وتهدد سلامة المشاة، ونظام النقل العام غير فعّال مقارنةً بغيره في المدن الأخرى، وبالتالي يجب تحسين جودة الأحياء خصوصاً مع التوقعات بوصول عدد سكان أبوظبي إلى 3 ملايين نسمة بحلول عام 2030.
أهمية الأماكن العامة وسماتها
تضم مباني المدن في ثناياها شبكة من المساحات التي تقوي العلاقات بين الأفراد، وتشرح أخصائية التنمية الحضرية لارا كاتشيا، في دراسة بعنوان: التنقل الحضري: السياسات العامة والاستيلاء على الفضاء في المدن البرازيلية (Mobilidade urbana : políticas públicas e apropriação do espaço em cidades brasileiras)، أن الأماكن العامة تشكل الروابط المجتمعية في الأحياء، ويمكن أن تُسهل عملية التعبئة السياسية وتحفّز الاقتصاد وتساعد في منع الجريمة، وتوفر بيئات للتفاعل وتبادل الأفكار التي تؤثر في جودة البيئة الحضرية، كما تُحسن الحالة الصحية للأفراد وتجعلهم أكثر نشاطاً.
ويمكن التعمق أكثر وربط وجود الأماكن العامة وتخطيطها بالقيم الديمقراطية؛ إذ تعكس ثقافة المكان وبنيته، والتسلسل الهرمي الاجتماعي طريقة تخطيط الأماكن العامة والتحكم فيها واستخدامها، وكلما كانت المساحات الحضرية أكثر تنوعاً وحيوية، أصبح المجتمع أكثر مساواة وازدهاراً وديمقراطية، ويعتمد ذلك على اعتبار الفضاء العام بيئة مفتوحة وديمقراطية يمكن الوصول إليها بحرية.
4 معايير لجودة الأماكن العامة
يمكن ملاحظة كيفية تأثير المخططات الحضرية المختلفة على جودة الأماكن العامة من خلال أربعة معايير حددتها الدراسة المنشورة في جامعة أبوظبي، وهي:
1- الحيوية
ينجذب الأفراد نحو الأماكن المتسمة بالحيوية، التي تتيح لهم في إمكانية القيام بالأنشطة الخارجية والاستمتاع بها، وتقسم هذه الأنشطة إلى:
- أنشطة ضرورية تتأثر بالإطار المادي والظروف البيئية، وتشمل الذهاب إلى المدرسة أو العمل أو التسوق أو انتظار الحافلة، وما إلى ذلك.
- أنشطة اختيارية تشمل المشي، والركض، والجلوس في الهواء الطلق، ويعتمد هذا النوع من الأنشطة على طبيعة الطقس والمكان.
- أنشطة اجتماعية تعتمد على وجود الآخرين في الأماكن العامة، وتشمل المحادثات واللقاءات ولعب الأطفال.
تشجع المدن المفعمة بالحيوية على القيام بالأنشطة الخارجية ضمن الإطار الحضري الذي توفره، وفي حالات المدن ذات المسافات الطويلة بين المباني والأماكن العامة والكثافة المرورية، يمكن رؤية عدد قليل من المشاة، كما تعد الفنون على اختلافها من نحت وموسيقى ومسرح وغيرها، عنصراً مهماً لحيوية الأماكن العامة، وتختلف باختلاف الثقافة والمجتمعات التي تستهدفها، وفي كثير من الأحيان تصبح رمزاً لمدينة أو بلد بأكمله مثل برج إيفل.
وتختلف الحيوية في أحياء أبوظبي حسب الكثافة وارتفاع المبنى، فوفقاً للدراسة السابقة، تعد المباني ذات الارتفاع المنخفض غير حيوية، في حين أظهرت المباني متوسطة الارتفاع أكبر قدر من الحيوية، أما الأماكن المرتفعة مثل الأبراج الشاهقة في جزيرة الريم، خلقت مجتمعات معزولة بداخلها، لكن على مستوى الأحياء ككل، تعج الأماكن العامة بالسيارات بينما تفتقر إلى وجود الحدائق والملاعب، وتمنع الأرصفة الضيقة الأفراد من الاستمتاع بالهواء الطلق.
2- الأمان
تتمثل المخاطر في المدن بمظاهر العنف والجرائم والحوادث المرورية، التي تحد من حركة الأفراد في الأماكن العامة ويجعلها ملاذاً للمجرمين. فيما يتجلى عنصر الأمان بالمدن في ثلاث قضايا رئيسية: الحماية من الحوادث المرورية، والحماية ضد الجريمة والعنف، والحماية من العناصر البيئية مثل الحرارة المرتفعة، والبرد والمطر والغبار، والضوضاء والتلوث وغيرها من الظروف غير الصحية.
ويتحقق عامل الأمان من خلال المراقبة الطبيعية، أي أن تكون الشوارع مأهولة بالسكان أو المشاة أو أصحاب المتاجر لمراقبة الحركة في المنطقة، وعبر تخطيط المنطقة بطريقة تسمح بتنظيم المزيد من الأنشطة في أوقات مختلفة.
3- سهولة الوصول
يجب أن يكون المكان العام على صلة بمحيطه، ويُمكّن المستخدمين بما فيهم أصحاب الهمم من الوصول إليه بسهولة عبر كل الوسائل، ومن الضروري أيضاً الاهتمام بالمناظر الطبيعية التي تساعد في خلق بيئة مريحة ومشجعة على المشي.
ويحقق التوزيع الذكي للأماكن العامة في المدن عدة أهداف، منها:
- تقليل الاعتماد على السيارات والنقل العام، الذي بدوره يخفف من الضغط على البنية التحتية للمدينة، ويقلل كمية التلوث الناجم عن حركة المرور.
- تحقيق معايير السلامة للمشاة عن طريق تقليل عدد السيارات في الشوارع.
- تعزيز أنماط الحياة الصحية للأفراد؛ ما يوفر تكاليف الرعاية الصحية.
- تقليل الحاجة لمواقف السيارات؛ ما يسمح بإعطاء مساحة أكبر للأنشطة الأخرى.
- مساعدة الأطفال وكبار السن على التنقل بحرية في جميع أنحاء المدينة.
وبالنسبة لأبوظبي، لا يمكن الوصول إلى الأرصفة بسهولة في الأحياء القديمة، ولكل مبنى ارتفاع مختلف عن الأرصفة حوله يجبر المشاة على الصعود والنزول للتنقل في المكان العام، ويمنع وصول عربات الأطفال، والدراجات، وذوي الهمم. وتفتقر الأحياء ذات المباني متوسطة الارتفاع إلى البنية التحتية الجيدة لركوب الدراجات؛ ما يجبر راكب الدراجة على التنقل إما مشياً أو بالسيارة، وتعد الحافلات هي الخيار الوحيد للتنقل وتتطلب وقتاً طويلاً للانتظار، كما أن العديد من مواقف الحافلات غير مزودة بمظلات ومقاعد للمستخدمين.
4- الراحة
تتسم الأماكن العامة المريحة بإمكانية التنقل دون عوائق، ووجود المناظر الطبيعية، وتوفُر الإضاءة الجيدة، وإمكانية التحدث، واستيعاب الأنشطة المختلفة.
وفيما يخص أبوظبي، لفتت الدراسة الإماراتية إلى أن المشاة في معظم أحياء الإمارة يفتقرون إلى خيار المقاعد الثابتة في الساحات والحدائق، وعلى الرغم من أن المباني تقترب من بعضها البعض هو المصدر الوحيد للحماية ضد الحرارة الشديدة، إلا أن أفضل معيار للراحة كان مستويات الضوضاء المنخفضة في جميع الأحياء.
ووفقاً لهذه المعايير، فإن وجود مساحات عامة جيدة وقابلة للاستخدام، مع حيوية حضرية أكبر، سيزيد من إحساس الأفراد بالأمان، وهذا ما أكدته مؤسسة مشروع للأماكن العامة (Project for Public Spaces) غير الربحية المكرسة للمساعدة في إنشاء الأماكن العامة والحفاظ عليها، وطورت المؤسسة مشروع قوة +10 (The Power of +10) لتقييم الأماكن العامة وتسهيل تصميمها ويركز المشروع على إظهار الأثر الفوري للتخطيط الإنساني عند بناء الواجهات والمناطق في المدن.
خطوات لتعزيز التجربة الإنسانية في الأماكن العامة
يمكن تعزيز التجربة الإنسانية في الأحياء من خلال عدة خطوات أوصت بها الدراسة الإماراتية المذكورة أعلاه، وهي:
- ترتيب مواقف السيارات عمودياً وتحت الأرض، وتغيير تصميم المواقف من 90 إلى 60-45 درجة، لأن التصميم المائل يستخدم مساحة أرضية أقل ويعد أكثر كفاءة لاعتماده حركة مرور باتجاه واحد أسهل وأكثر أماناً؛ ما يساعد المشاة في الاستفادة من الفضاء العام بدلاً من السيارات.
- الاستثمار في النقل العام وجعله الخيار الأسهل للمقيمين في دولة الإمارات، بدلاً من إنشاء المزيد من الطرق لاستيعاب الأعداد المتزايدة من السيارات، حيث تخفف وسائل النقل العام الضغط الذي تسببه السيارات على البيئة والبنية التحتية، وتحقق المساواة في حرية التنقل بين سكان المدينة.
وفي هذا الإطار، تركز خطة أبو ظبي 2030 على استخدام المترو والترام لتعزيز وسائل النقل العام في المدينة، واعتماد نظام النقل السريع عبر الحافلات (Bus Rapid Transit System. BRTS) الذي يتسم بسرعة وكفاءة ومرونة وتغطية أكبر للمناطق من نظام تنقل الحافلات الحالي.
- تعتمد أبوظبي خطة توفير مساحة خضراء لكل نسبة من السكان، لكن دون الأخذ في الاعتبار إمكانية الوصول لهذه المساحات. وبالتالي، يمكن أن تتركز هذه المساحات في مكان واحد يتعذر وصول معظم السكان إليه، فضلاً عن عدم توفير ملاعب قريبة للأطفال، ويمكن حل هذه المشكلة من خلال إنشاء حدائق وملاعب في ساحات المساجد، لأن المساجد متوفرة في معظم الأحياء وعلى مسافات قريبة يمكن قطعها سيراً على الأقدام، ويمكن زيادة المساحات الخضراء أيضاً من خلال إنشاء حدائق على سطح مبنى مواقف السيارات.
- تطوير البنية التحتية لركوب الدراجات، فعلى الرغم من وجود بعض مواقع ركوب الدراجات المناسبة في أبو ظبي مثل حلبة مرسى ياس، وحديقة الوثبة للدراجات الهوائية، إلا أن البنية التحتية لركوب الدراجات في معظم مناطق أبوظبي غير متطورة أو غير متوفرة.
ويمكن زيادة حصة ركوب الدراجات والمشي في المواصلات بين سكان أبوظبي، لأن 60% من التنقلات في أبوظبي لا تتجاوز مسافة 10 كيلومترات، و0.2% فقط من هذه التنقلات يكون بالدراجة مقابل 59% بالسيارات وسيارات الأجرة، و19% سيراً على الأقدام، مع الأخذ في الاعتبار أن متوسط سرعة السفر تبلغ 18 كم/ساعة لراكبي الدراجات، وبالتالي فإن تطوير بنية تحتية مناسبة لركوب الدراجات سيساعد كثيراً في تقليل الاعتماد على وسائط النقل بالسيارات.
ختاماً، الطريقة التي يعيش بها الأفراد في المدن تتغير يومياً بسبب ظهور تكنولوجيات وخيارات نقل بديلة جديدة؛ ما يخلق تحديات في التخطيط العمراني ويحفّز المدن على التفكير في نماذج جديدة للتنمية، ومع ذلك، تبقى الأماكن العامة أساس جودة الحياة في المدن، وتظل فضاءً للتبادل والتعايش للحفاظ على تماسك النسيج الحضري.
نُشر هذا المقال استناداً إلى بحثٍ مُقدّم من مركز "أبحاث الشباب العربي".