في عام 1992، طالت مؤسسة يونايتد واي أوف أميركا (United Way of America) الخيرية فضيحة فساد كبيرة؛ إذ أدين رئيسها التنفيذي ويليام أراموني (William Aramony) بالاحتيال وسوء الإدارة المالية، وتوالت بعدها فضائح الفساد في المؤسسة، وكان آخرها في عام 2019، عندما اتُهم نائب رئيس تكنولوجيا المعلومات، عمران الراعي (Imran Alrai) بسرقة 6.7 مليون دولار في الفترة من عامي 2012 إلى 2018.
تسلط هذه القصة الضوء حول كيفية تأثير مشكلات الجودة على سمعة المؤسسات العاملة في القطاع الخيري وأدائها، وتتجاوز التداعيات، إلى حد بعيد، الخسارة المالية وفقدان المكانة لتصل إلى معاناة إنسانية للعملاء، وربما مواجهة دعاوى قضائية لعدم اتباع السياسات المتعلقة بالجودة.
استراتيجيات إدارية حديثة لمواكبة التغيرات
تفرض التحديات الناتجة عن التغيرات الاقتصادية العالمية على الشركات، اتباع استراتيجيات إدارية حديثة لمواكبة هذه التغيرات، مثل الاستراتيجية القائمة على الجودة الشاملة. والمؤسسات الخيرية ليست بمنأى عن ذلك، إذ أصبحت مثل هذه الاستراتيجيات عاملاً أساسياً لتقييم أداء هذه المؤسسات وتطويره؛ خصوصاً في ظل عدم قدرتها على تقديم خدمات مبتكرة وتلبية توقعات المستفيدين ورغباتهم. إذ أكدت دراسة أجراها الباحثون السعوديون عبد الله حسن عبد الله آل مشاري، وعبدالعزيز صالح سعد آل قدان، ونايف عبدالوهاب سعيد آل غشام بعنوان: الجودة الشاملة ودورها في تحسين أداء منشآت القطاع الخيري، حالة دراسية بمنطقة عسير شملت 297 من العاملين في منشآت القطاع الخيري، العلاقة بين أبعاد إدارة الجودة الشاملة المتمثلة في التركيز على المستفيد، والتزام القيادة بالجودة، ومشاركة العاملين؛ وتحسين أداء منشآت القطاع الخيري في منطقة عسير.
دعت الدراسة منشآت القطاع الخيري إلى متابعة شكاوى المراجعين وحلّها، والتزام المرونة في الهيكل التنظيمي ليتلاءم مع متطلبات الجودة ما يسهم في توسيع نطاق الإشراف والعمل وفق التمكين والتفويض الإداري، وكذلك حل مشكلات الموظفين العاملين وتفعيل دورهم.
أهمية الجودة لاستدامة المؤسسات الخيرية
يعاني العديد من مدراء المؤسسات الخيرية من نفس الضغوط الاقتصادية التي تواجه نظرائهم في القطاع الربحي، ويديرون هذه المؤسسات من وجهة نظر تجارية أكثر منها اجتماعية، وغالباً ما يبدون اهتماماً أقل باحتياجات العملاء واتخاذ قرارات عقلانية يمكن أن تضر بأداء المؤسسة.
وتعتمد استمرارية المؤسسات الخيرية على تقديم خدمات عالية الجودة لضمان ولاء أصحاب المصلحة والعاملين، ولتكون قادرة على المنافسة في:
- الحصول على المنح الحكومية والمؤسسية وبالتالي عدم التعرض لأزمة تمويل.
- استقطاب الكفاءات في صفوف الإدارة؛ فالأشخاص المهنيين لديهم استعداد للتبرع بوقتهم وخبرتهم للعمل في مجالس إدارة مؤسسات خيرية جيدة السمعة.
- التواجد عبر وسائل الإعلام لمساعدة المؤسسات الخيرية في الترويج لجمع التبرعات وتشجيع العملاء على الاستفادة من خدماتها، وتحسين معنويات الموظفين.
- جذب الموظفين المؤهلين في ظل المناخ الحالي لانخفاض معدلات البطالة؛ إذ تجد المؤسسات الخيرية عالية الجودة أن معدل دوران الموظفين لديها أقل، وأنه من السهل جذب الموظفين لملء الوظائف الشاغرة والتوسع.
في الحقيقة، معيار الجودة مهم للمؤسسات غير الهادفة للربح، وعليها توخي الحذر من عواقب إهمال هذا المعيار من خلال احترام السرية، وتقديم الخدمات في الوقت المحدد، والحفاظ على كرامة المستفيدين، وتقديم حل للشكاوى المشروعة، وتوفير الخدمات في بيئة آمنة ومكان يسهل الوصول إليه، وكذلك الاستفادة من التقدم التكنولوجي لتحسين التواصل بين المؤسسة وعملائها.
تلبيةً لاحتياجات الأفراد المتجددة؛ تبنت المؤسسات الخيرية العديد من الاستراتيجيات الحديثة، ولعل أبرزها، إدارة الجودة الشاملة (Total Quality Management. TQM) التي تقوم على عدة أبعاد، أهمها، التركيز على تحسين العمليات، وتعريف الجودة من قبل المستهلك، وتمكين الأفراد من اتخاذ القرارات، وإسناد القرارات إلى حقائق ونتائج محددة، والتزام الإدارة العليا بالجودة الشاملة.
وتسهم الجودة الشاملة في رفع كفاءة عملية اتخاذ القرارات، من خلال الاهتمام بكم المعلومات ذات العلاقة بموضوع القرار، وإيمان الإدارة بالمشاركة والتشاور في عملية اتخاذ القرار، فضلاً عن أنها تزيد قدرة المؤسسات على الاستجابة للتغيرات البيئية والتكيف معها، واستثمار الفرص وتجنب المخاطر، ما يساعدها على تحسين أدائها، إذ أكدت دراسة جزائرية بعنوان: دور إدارة الجودة الشاملة في تحسين أداء العاملين في المؤسسة الاقتصادية الجزائرية أن إدارة الجودة الشاملة تؤدي دوراً مهماً في تحسين أداء العاملين في المؤسسات الاقتصادية، وأن تحوُل القناعات والممارسات في المؤسسة ضروري لمواجهة تغيرات البيئة المحيطة.
مبادئ إدارة الجودة الشاملة
تقوم إدارة الجودة الشاملة على جملة من المبادئ، أبرزها:
- تحديد رؤية المؤسسة ورسالتها وأهدافها ووضع خطة استراتيجية شاملة بالاعتماد على تحليل نقاط القوة والضعف.
- التركيز على رضا الجمهور الداخلي والخارجي عن خدمات المؤسسة.
- تحسين أنشطة المؤسسة باستمرار، والتركيز على العمليات وإيجاد الحلول للمشكلات التي تعترض سبيل الخدمات المقدمة.
- المشاركة الجماعية في أداء المهام، وتفادي الأخطاء قبل وقوعها، واستخدام معايير مقبولة لقياس جودة الخدمات.
- توظيف خبرات منتسبي المؤسسة لتطوير العمل وإشعارهم بأنهم جزء أصيل من المؤسسة يساهم في تحقيق أفضل النتائج.
- اتخاذ القرار المبني على الحقائق؛ إذ تتبنى إدارة الجودة الشاملة مفهوم مؤسسي وتشاركي لحل المشكلات.
بالمحصلة، تطبيق استراتيجية الجودة الشاملة يساعد مؤسسات القطاع الخيري في توظيف مواردها وعلاقتها بفاعلية، وتوجيه برامجها ومبادراتها وفق احتياجات المستفيدين وأصحاب المصلحة، ما يضمن استمرارية دورها في تنمية المجتمع.
هذا المقال نُشر بناءً على أبحاث من منصة "ساهم".