ملخص: في عدد شتاء 2024 من مجلة ستانفورد للابتكار الاجتماعي، كتبنا مقالاً ندعو فيه القطاع الخيري إلى أن يصبح أكثر تصميماً على بناء العلاقات، لأن العلاقات الغنية بالثقة في المجال الاجتماعي يمكن أن تشكل عاملاً تحويلياً في حل المشاكل. طرحنا 3 توصيات للمساعدة في تحقيق هذا الهدف المتمثل في "العمل الخيري القائم على العلاقات" وهي: 1) الالتزام بتعزيز العلاقات الهادفة التي توحد الأطراف بدلاً من تفريقها؛ 2) تبنّي ممارسات تعزز التعلم المشترك والتحسين المستمر؛ 3) وضع معيار سلوكي للعمل الخيري. تساعد هذه العناصر الثلاثة مجتمعةً في سد الفجوة الموجودة في قدرة العمل الخيري على تخصيص الوقت والموارد لبناء العلاقات.
من الضروري التعمق في التوصية الأولى عندما نستكشف أسباب العمل الخيري القائم على العلاقات وأساليبه. لمعرفة السبيل إلى الالتزام بتعزيز العلاقات الهادفة علينا أن نجري دراسة دقيقة للطريقة التي نعرّف بها المجتمع في مجال العمل الخيري. إذ يمكننا التوصل إلى حلول طويلة الأجل أو تفويتها من خلال الاهتمام ببعض العلاقات دون غيرها في العمل الخيري.
كانت العقبة الأساسية لبناء العلاقات عبر حدود الاختلافات هي تحدّث الناس بعضهم إلى بعض دون تواصل فعلي. يتراجع الحديث شيئاً فشيئاً وتتضاءل فرص التعاون عبر حدود الاختلافات، وهكذا لن تتبقى فرص للتواصل. وبدلاً من التواصل نرى زيادة في "المحادثات المغلقة" حيث تجري دعوة مجموعات محددة في مراحل محددة للغاية من التخطيط. ثمة ارتفاع في عدد الجهات التي تعتمد على 3 محاور رئيسية تقوّض التواصل، وهي التنسيق الانتقائي، والتخطيط ضمن حلقة مغلقة، والاعتماد المفرط على الإجماع. ويظهر ذلك في شكل اجتماعات منظمة بعناية لا تدعو فيها المؤسسات الخيرية المجموعات إلى الحوار إلا عندما تكون قادرة على التحكم في النتيجة (التنسيق الانتقائي). تظهر محادثات الحلقة المغلقة على شكل عمليات تخطيط تعتمد على مجموعة صغيرة من المؤثرين المتفقين مسبّقاً على فكرة جديدة مهمة. ويظهر الاعتماد المفرط على الإجماع على شكل اجتماعات مبنية حول قيم مشتركة تفرض الوحدة والانسجام بحيث يشعر من يملك جرأة التعبير عن وجهة نظر متعارضة بالضغط لأنه خارج عن الثقافة السائدة في الغرفة.
يمكن للعمل الخيري سد الفجوة هنا من خلال إظهار القيادة التي تركز على العلاقات دون التخلي عن التعددية المتأصلة في وجهات النظر المتنوعة. فبدلاً من محاولة تصميم الاجتماعات والتجمعات لتجنب الخلاف، يمكن للعمل الخيري جلب شرائح واسعة من المجتمع إلى طاولة الحوار للعمل جنباً إلى جنب والمثابرة على تجاوز الخلافات لبناء علاقات أقوى نحل فيها المشاكل معاً بدلاً من تجاهل الاختلافات. نستعرض فيما يلي توصياتنا لكيفية التحول إلى بناء علاقات وطيدة.
تعريف المجتمع على أنه دائرة وليس هرماً
نادراً ما يكون ثمة جانبان فقط لحل القضايا في العمل الخيري الاستراتيجي. إن القضايا التي تجري معالجتها معقدة للغاية وتتضمن متغيرات متعددة ودرجات من التعقيد. تعرف المؤسسات الخيرية الاستراتيجية أنها لا تستطيع حل القضايا بمفردها إذا أرادت حلاً جوهرياً ومستداماً. علينا أن نحدد من سيعمل معنا ولماذا.
بالنسبة لأي قضية تقريباً، ثمة 3 مكونات على الأقل في المجتمع سنذكرها بعد قليل. نحن حريصون على عدم استخدام مصطلحات مثل "القواعد الشعبية وقيادات المجتمع" أو "الخطوط الأمامية والأبراج العاجية" لأننا نعتقد أنه ليس من المفيد تعريف أفراد المجتمع بطريقة هرمية. نرى مخطط فين أو طيفاً من المجموعات الموضحة أدناه حيث تندمج المصالح وتتداخل.
حراس المجتمع. لتحديد هذه المجموعة، قد نطرح أسئلة مثل مَن هم الأكثر تأثراً بهذه المشكلة؟ من هم الذين تتأثر حياتهم بشدة بهذه القضية المستمرة؟ من هو أول من سيشعر بالتغيير إذا حدث؟ إذا كان الهدف من عملك الخيري الاستراتيجي هو إنعاش الحي، على سبيل المثال، فقد يكون حراس المجتمع هم الذين يعيشون حالياً في الحي. إذا كنت تعمل في مجال قضاء الأحداث، فقد يكون حراس المجتمع هم الأطفال والعائلات داخل نظام قضاء الأحداث.
بوابات المجتمع. من المحتمل أن تكون ثمة مجموعة قائمة أو مجموعات متعددة، منظمة بطريقة رسمية أو غير رسمية، في جدول أعمال القضية التي تهتم بها. الأسئلة التي يجب طرحها في تحديد هذه الفئة من المجتمع هي: من الذي يقدم حالياً خدمات مباشرة للمستفيدين المعنيين؟ من الذي يعمل حالياً على نحو غير مباشر، من خلال المناصرة أو إعادة توزيع الموارد أو الأموال، لصالح المستفيدين المعنيين؟. إذا أخذنا مثال إنعاش الأحياء، يمكن أن تكون البوابات المجتمعية هي جمعيات الأحياء، وفي حالة قضاء الأحداث، يمكن أن تكون مؤسسات تنمية الشباب وتوجيههم.
مؤثرو قضايا المجتمع. الأسئلة التي يجب طرحها عند تحديد هذه الفئة من المجتمع هي: من لديه رأس مال اجتماعي أو رأس مال اجتماعي كبير يؤثر سلباً أو إيجاباً في هذه القضية؟ من لديه الأدوات اللازمة لإحداث تغيير حقيقي في هذه القضية؟ في مجال إنعاش الأحياء، قد تشكل الجهات الحكومية المحلية وقادة الأعمال والمؤسسات التي تركز على الأحياء هذه المجموعة. بالنسبة لقضاء الأحداث، ربما يكون للمدعين العامين والمحامين والمسؤولين الحكوميين والمؤسسات المعنية تأثير كبير على طريقة صياغة القضايا والتعامل معها.
بعض المناقشات في العمل الخيري اليوم لا تدرج هذه المجموعة ضمن تعريف المجتمع. نحن نؤكد أن ذلك خطأ فادح في تصميم الحلول ويتعارض مع العمل الخيري القائم على العلاقات لأنه في بعض الحالات يؤسس لعلاقة خصومة مسبّقة قبل أن يبدأ أي عمل.
الخروج عن الأنماط التي ترسّخ الانعزالية المجتمعية
ثمة بعض العادات البالية في مجال العمل الخيري تعمل على إشراك مجموعات فرعية محددة من المجتمع على نحو انتقائي يفاقم الانقسام. فيما يلي بعض الأمثلة على الأنماط التي لا تخدم العمل الجماعي:
- إشراك "القاعدة الشعبية" في التنفيذ وليس التصميم. يظهر ذلك على شكل اجتماعات مخططة مسبّقاً تعرض خطة شبه جاهزة لخلق صورة من التعاون. في هذه المرحلة المتأخرة، يكون من الصعب جداً الاعتراف بأن الخطة لا تعالج المشاكل الأساسية أو تستفيد من إمكانات المجتمع.
- إشراك مجموعة مختارة من قادة المؤسسات غير الربحية ومقدّمي الخدمات المجتمعية. يظهر ذلك على شكل اجتماعات حيث تجلس قلة مختارة لها علاقات قائمة مسبّقاً وقدرة على الوصول إلى طاولة النقاش لصياغة مبادرة ما. إن إلقاء نظرة متأنية على مشهد مقدّمي الخدمات يكشف في كثير من الأحيان عن مجموعات مهملة لكنها على دراية عميقة من المؤسسات غير الربحية والمجموعات المجتمعية والناشطين الذين لا يكونون مرتبطين بشبكة من الأعمال الخيرية ولكن لديهم علاقات مجتمعية عميقة.
- إشراك الأفراد الذين يفتقرون إلى الخبرة الحياتية القريبة من المشكلة ولديهم تجارب منتقاة بعناية. وهؤلاء غالباً من قادة الأعمال والقادة المحليين أو الممولين أو واضعي السياسات الذين يمكنهم جلب النفوذ والأفكار والعلاقات، مثل الرؤساء التنفيذيين الذين تجري دعوتهم إلى حلقة نقاشية معدة مسبّقاً بدلاً من دعوتهم للانضمام إلى جلسة عمل يكون الهدف منها إبراز أوجه القصور في المشروع التجريبي. يكمن الخطأ هنا في أنه من خلال تهميش هؤلاء الأفراد في أدوار أكثر تنظيماً، فإننا نفوّت فرصة التعلم المشترك وفهم المؤثرين وتشكيل "مجمل" العمل.
نحن لا نرى أنه علينا إشراك كل فرد أو مجموعة في المجتمع في مراحل المبادرة جميعها. بناء العلاقات صعب ويستغرق وقتاً طويلاً، فإذا وسّع المرء عدد المشمولين في المناقشة، فقد يشعر الأفراد الذين اعتادوا المشاركة بالقلق وعدم الارتياح. وإذا لم يتوخَّ المرء الحذر، فإنه سيقضي وقتاً ثميناً في جمع الأطراف على فكرة هامشية مدعومة بإجماع الآراء بدلاً من فكرة تحويلية صاغها أصحاب المصلحة عبر نقاشات وحوارات قوية.
نحن نقترح على المؤسسات الخيرية الاستراتيجية أن تجد طريقة لتحقيق التوازن بين هذه الأطراف، لأن الأمر يستحق دراسة من يجب أن يشارك في العمل في كل مرحلة من مراحله وطرح السؤال: أين يمكن أن نطور تفاهمات وعلاقات جديدة إذا وسّعنا المشاركة؟
تعميق التأثير من خلال العمل الخيري القائم على العلاقات
بمجرد النظر في مَن يجب أن يشارك في العمل بنظرة موسّعة لتعريف المجتمع -وجلب الذين يعملون في مسارات منفصلة ليتعاونوا- يمكننا تعميق تأثيرنا من خلال إطلاق العنان لقوة هذه العلاقات الجديدة. ثمة 3 طرق أساسية لتعميق التأثير في العلاقات بهذه الطريقة:
- تشجيع الفهم المشترك للمشكلة. عندما تفكر المؤسسة الخيرية الاستراتيجية في طريقة التعامل مع مشكلة ما، فإن تحليل البيانات الرئيسية وتجميعها من مجموعة متنوعة من المصادر المتعلقة بالمشكلة أمر بالغ الأهمية لتحديد ماهية المشكلة أو الفرصة. عندما تشارك في النقاش شريحة أشمل من المجتمع، شجع تبادل وجهات النظر. ابدأ العمل بتحديد الفرصة أو التحدي بالتعاون مع الأطراف جميعها. ابتعد عن المحادثات المنمقة وشجع طرح وجهات النظر المتضاربة. أوضح نيتك لدراسة الأفكار المتضاربة لتصل إلى فهم أدق ومشترك للقضية المطروحة أمامك.يتسم مجال حل المشاكل الاجتماعية في كثير من الأحيان بالعزلة في العمل. يمكن أن يؤدي تجاوز هذه الانقسامات عبر الجمع بين أطراف المجتمع لتبادل المعلومات إلى التوصل إلى أساليب لم يتصورها أحد من قبل.
- حشد الموارد بطريقة استراتيجية. إن القدرة على استيعاب رؤوس الأموال من كل الأنواع وتوظيفها هي عنصر أساسي في الحلول الاجتماعية. فلدى الذين قدموا خدمات مباشرة أو غير مباشرة ذات صلة بالمشكلة أفضل قدرة على حشد الخبرات والشراكات المجتمعية. ولدى من يملك القدرة على الوصول إلى رأس المال المالي أفضل قدرة على جمع التمويل وتوفير رأس المال الصبور بالإضافة إلى حشد الموارد الأخرى.إن العمل الخيري مليء بقصص النوايا الحسنة التي فشلت بسبب الإخفاق في الحشد الاستراتيجي للموارد، ولكن نادراً ما نسمع عنها. تخيل ممولاً يقدم أجهزة كمبيوتر محمولة مجانية لأطفال المدارس لاستخدامها في المنزل ولكنه لا يدرك أن معظم المنازل لا تتوافر فيها خدمة واي فاي، أو منظومة تنشئ برنامجاً للدخل الأساسي للأمهات صاحبات الدخل المنخفض، ثم يتبين أن غالبية المستفيدات لا يملكن حسابات مصرفية للوصول إلى الأموال. يمكن تفادي هذه المشكلات من خلال منظور شامل وموسّع للمجتمع.
- بناء شراكات وتحالفات لتوسيع نطاق الوصول وتعزيز الاستدامة. يهدف العمل الخيري الاستراتيجي دائماً إلى استدامة النتائج الجيدة. تزداد احتمالية الاستدامة مع التخطيط والعمل على مستوى المجتمع كله والاعتماد على من يستطيع الربط بين الناس والموارد والمعرفة. وهي فرصة للتفكير على نحو أوسع في كيفية منح المبادرات الجديدة مزيداً من القوة. نعم، قد يعني ذلك دعوة أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات بوصفهم باحثين مجتمعيين، وقد يعني أيضاً تمويل المؤسسات غير الربحية والناشطين المجتمعيين بوصفهم شركاء في مجتمع التعلم حيث تضبط خبراتهم البرنامج والبرامج التجريبية في الوقت الفعلي. عندما نحدد أطراف مجتمعنا بطريقة مصطنعة فإننا نفوّت فرصة ترسيخ الحلول القادرة على الصمود في اختبار الزمن.
كلمة أخيرة حول التحرر من تعريف المجتمع باعتباره تسلسلاً هرمياً
تشكل نماذجنا الفكرية الطريقة التي نتفاعل بها مع العالم من حولنا. إن النموذج الهرمي للمجتمع الذي يضع "القواعد الشعبية" في القاع و"قيادات المجتمع" في القمة يجلب معه مجموعة من السلوكيات التي تشكل عقبات أمام العمل الخيري القائم على العلاقات. إذ تُشرك المؤسسات الخيرية قمة الهرم في المراحل الأولى من تصميم المشروع للحصول على مباركتها أو موافقتها، في حين تستبعد القاعدة من الشراكة الفكرية في المراحل الأولى و"تدعوها" للتنافس على الموارد لتنفيذ الأعمال. يتطلب العمل الخيري القائم على العلاقات أن نبني نماذج فكرية جديدة للمجتمع ونعيش فيها، نماذج فكرية تبدو أشبه بشبكات من الدوائر المتصلة. نوصي بالبدء برسم خريطة للمواقع المختلفة لرؤوس المال الاجتماعية والعلائقية والفكرية والمالية الضرورية لدفع عجلة العمل في قضية معينة. ينبغي تنشيط مجموعة رؤوس المال وإشراكها وحشدها بتناسق وترابط، وليس في مسارات عمل منفردة.
يمكن للعمل الخيري القائم على العلاقات المطبّق بتعريف واسع للمجتمع أن يساعدنا على إشراك موارد المجتمع جميعها وزيادة فرص النجاح. ندعو الذين يتبعون أساليب جديدة في العمل الخيري إلى إشراك جوانب المجتمع جميعها التي تؤثر على القضية المطروحة من خلال منظور أوسع وأقل هرمية. سننجح في التوصل إلى حلول هادفة ومستدامة عندما نطور عادات منضبطة في توسيع نطاق المشاركين في العمل وربط الأفراد والمجموعات، هذه هي القيادة الشجاعة، وهي تتطلب منا أن نقدم أفضل ما لدينا لبناء عقلية جماعية مرنة تحتضن اختلافاتنا وتفعّلها لخدمة العمل الجماعي الأفضل.