التغيير والتجديد من السمات الملازمة للعصر الحالي، والتحديات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي يشهدها العالم تتطلب اتباع توجهات ورؤى جديدة من أجل تحقيق التنمية المستدامة، والعمل الخيري اليوم بحاجة إلى نهج مبتكر يشجع أصحاب العطاء على الانخراط في المبادرات ذات الأثر المستدام.
ولا يزال العطاء الفردي متفوقاً على العطاء المؤسسي لكنه بحاجة لاهتمام أكبر، وأظهر تقرير المناخ العالمي للعمل الخيري للعام 2018 الذي أعدته مؤسسة المبادرات العالمية لدعم المانحين، أن قطاعات الصحة والتعليم تشكل أول وجهات التبرع في أميركا وأوروبا والشرق الأوسط، وأن الريادة الاجتماعية في المنطقة العربية تحتاج لممارسة عملية أكبر حتى تظهر نتائجها الإيجابية في المجتمع.
وعلى الرغم من تمسك أغلب أصحاب العمل الخيري بالتبرع لصالح القضايا الخيرية التقليدية، فهناك بعض المعطائين العرب يبحثون عن منهج جديد لتقديم إسهاماتهم وملاحظة أثرها في المجتمع، والتحول من أساليب العطاء قصيرة الأجل مثل مشاريع البنية التحتية إلى تبني الحلول المستدامة ذات الأثر طويل المدى، إذ كان العطاء في منطقة الشرق الأوسط متمثلاً في تبرعات الأفراد لصالح المؤسسات الخيرية والاستثمار الاجتماعي والتبرع عبر الرسائل القصيرة والإنترنت، والدعم المادي للاجئين وتطوير مشاريع لهم في بلادهم الأصلية، فيما يسعى أصحاب العطاء حالياً إلى الدخول في استثمارات خيرية استراتيجية تعالج جذور التحديات الحالية وتوجهها نحو تلبية الأهداف التنموية.
وتعد الشركات العائلية في المنطقة، وخصوصاً في دول الخليج، مصدراً مهماً للعطاء إذا ما اتبعت نهجاً مبتكراً في مشاريعها الخيرية، إذ تشير تقديرات شركة آند استراتيجي (Strategy&) الاستشارية في تقريرها الصادر عام 2017 بعنوان: من العمل الخيري التقليدي إلى التأثير الخيري: خلق إرث للشركات العائلية في الخليج (From Traditional to Impact Philanthropy: Creating a Legacy for GCC Family Bussinesses) إلى أن أكبر 100 شركة عائلية في الخليج تقدم ما لا يقل عن 7 مليارات دولار للأعمال الخيرية سنوياً، والتوظيف الفعّال لهذه المبالغ في العمل الخيري الاستراتيجي سيساعد في تنويع الاقتصاد وخلق فرص العمل، ومعالجة القضايا الملحّة في قطاعات رئيسية مثل التعليم والرعاية الصحية والبيئة.
ممارسات جديدة في العمل الخيري
ساهمت جائحة كوفيد-19 في الانتقال إلى نهج جديد من العطاء والعمل الخيري قائم على مكافحة الأمراض والأوبئة، والتأثير الاجتماعي، والشراكة والتعاون، والمشاريع الخضراء.
1- مكافحة الأمراض والأوبئة
يهتم أصحاب العطاء في المنطقة العربية بالمساهمة في حل المشكلات الصحية المتعلقة بالأوبئة والأمراض المزمنة، وتشكل إسهاماتهم في الحملات العالمية نقطة فارقة في مكافحة أمراض مثل شلل الأطفال، والملاريا، والأمراض المدارية المهملة التي تعاني منها المجتمعات الفقيرة، إذ تعد مساهمات دول مجلس التعاون الخليجي حجر الزاوية في جهود التحالف العالمي للقاحات والتحصين، غافي، (Global Alliance for Vaccines and Immunisation. GAVI) لإنقاذ حياة الأطفال والحفاظ على صحة الأفراد عبر زيادة تغطية اللقاحات في البلدان الفقيرة، وقدمت السعودية مبلغ 500 مليون دولار لمواجهة جائحة كوفيد-19، منها 150 مليون دولار لتحالف ابتكارات التأهب الوبائي (Coalition for Epidemic Preparedness Innovations. CEPI)، و150 مليون دولار أميركي للتحالف العالمي للقاحات والتحصين، و200 مليون دولار لمؤسسات وبرامج دولية وإقليمية صحية أخرى، ودعمت قطر جهود التحالف بمبلغ 20 مليون دولار.
ويعد معهد عبد اللطيف جميل لمكافحة الأمراض المزمنة والأوبئة والأزمات الطارئة (J-IDEA) من المؤسسات الفاعلة في هذا المجال، إذ يعتمد على خبرة جامعة إمبريال كوليدج (Imperial College) في علوم البيانات والاقتصاد والأوبئة من أجل الاستجابة للطوارئ الصحية، وتحديد سياسات عالية التأثير لحماية المجتمعات الأكثر عرضة لتفشي الأمراض المعدية، وتعزيز الشراكات وبناء القدرات، ويساعد المعهد أيضاً في تدريب الجيل المقبل من العلماء المتخصصين في الصحة العامة وتزويده بأحدث أساليب الاستجابة للأزمات الصحية.
وفي الإمارات، يعمل المعهد العالمي للقضاء على الأمراض المعدية، الذي تأسس بالشراكة مع مؤسسة بيل ومليندا غيتس (Bill & Melinda Gates Foundation)، على دعم الأبحاث العلمية والصحية للقضاء على أمراض شلل الأطفال والملاريا والعمى النهري والأمراض المدارية المهملة، مثل مرض الفيل، التي تؤثر في حياة ما يزيد عن 1.7 مليار شخص حول العالم.
وتحتل أبوظبي مكانة متقدمة في شؤون الصحة العامة عالمياً، وتقدم دعمها الدائم للشركاء العالميين والمبادرات متعددة الأطراف لحشد الدعم والتمويل بهدف حل القضايا الصحية، وفي يناير/كانون الثاني عام 2021 قدم حاكم أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد، 10 ملايين دولار إلى مركز كارتر بهدف القضاء على العديد من الأمراض وخاصة داء دودة غينيا.
2- التأثير الاجتماعي
يساعد تركيز الشركات على قيمة الأهداف الاجتماعية التي تتجاوز الأرباح، في تقديم حلول فعالة لمواجهة التحديات في المنطقة العربية، وتمكين القطاع الخيري من تحقيق إنجازات ملموسة، وعليه، تغيرت نظرة الشركات في المنطقة العربية إلى مفهوم المسؤولية الاجتماعية باعتبارها إحدى أبعاد التسويق، وبدأت تسعى للتخلي عن نمط العطاء التقليدي وربط وجودها بتحقيق الأرباح، وأصبح هناك توجه نحو العمل الخيري كممارسة أساسية تصب في مصلحة الأفراد والمجتمع.
وتعد مبادرة بيرل من الجهات التي تشجع الشركات في الخليج والشرق الأوسط على العمل الخيري الفعال والاستراتيجي، وتبني مفاهيم الشفافية والمساءلة والاستدامة، وهي مؤسسة غير ربحية أطلقها رواد أعمال خليجيين بقيادة الرئيس التنفيذي لمجموعة الهلال، بدر جعفر، وتقدم مجموعة من البرامج التي تهدف إلى توفير معلومات ورؤى متعمقة حول أهمية الحوكمة المؤسسية، وتنظيم مناقشات حول كيفية الارتقاء بممارسات الحوكمة المؤسسية وحث قادة الأعمال الحاليين والمستقبليين على فهم تلك المبادئ والممارسات وأهمية تنفيذها لتطوير قطاع الأعمال المجتمعية، وتمكنت المبادرة من تنظيم 222 فعالية في دول المنطقة، بمشاركة 12,541 شخص و512 متحدثاً اقليمياً.
واتجهت الأسواق المالية في المنطقة أيضاً نحو نماذج الأعمال الداعمة للبيئة والمجتمع؛ إذ انضمت كل من السوق المالية السعودية، تداول، وبورصة الكويت، وسوق دبي المالي، وسوق أبوظبي للأوراق المالية إلى مبادرة الأمم المتحدة أسواق الأوراق المالية المستدامة (Sustainable Stock Exchanges. SSE) بهدف تحفيزها لتطبيق مبدأ المسؤولية الاجتماعية.
3- الشراكة والتعاون
يساهم توحيد جهود العمل الخيري في التوصل إلى حلول مبتكرة من خلال تبادل الخبرات والعمل وفق رؤية واضحة، وإحداث تأثير على نطاق واسع عبر رصد المزيد من الأموال لحل المشاكل المجتمعية وتوسيع شبكة العلاقات بين رواد العطاء للخروج بتجارب جديدة تشارك فيها القطاعات المختلفة.
يرتكز العمل الخيري الاستراتيجي الجماعي اليوم على بناء قاعدة مشتركة تحفّز المانحين للعمل على هدف مشترك، ومعالجة أوجه القصور في مجال معين بالاعتماد على تطوير الكفاءات وتوسيع الركائز المعرفية، وبرز صندوق الشفاء كمثال على العطاء القائم على التعاون، إذ أسس كل من رجل الأعمال السعودي خالد الجفالي وزوجته سيدة الأعمال ألفت الجفالي الصندوق عام 2013، من منطلق أن العطاء الجماعي يحقق تأثيراً أكبراً في المجتمع.
ويقدم الصندوق منحاً مالية لمواجهة المشاكل الصحية في المنطقة مثل شلل الأطفال وأمراض المناطق المدارية المهملة، وتعاون في البداية مع مؤسسة بيل ومليندا غيتس (Bill & Melinda Gates Foundation) لفحص المنح وانتقائها، ويمول الصندوق المؤسسات التي تلبي الحاجات الصحية للنساء والأطفال في أوقات الصراعات والكوارث الطبيعية.
ومنذ عام 2013، دعم صندوق الشفاء 17 مشروعاً بمنح إجمالية تجاوزت قيمتها 15 مليون دولار، أثرت إيجابياً في حياة ما يزيد عن 21 مليون شخص، ومن الجهات الحاصلة على مِنح الصندوق، صندوق إنهاء الأمراض المهملة (End Fund)، وصندوق نثينغ بات نتس (Nothing But Nets)، والهيئة الطبية الدولية (International Medical Corps. IMC).
من جهة أخرى، انضم إلى تعهد العطاء سبعة مانحين من دول الخليج كان في مقدمتهم رجل الأعمال السعودي الأمير الوليد بن طلال بن عبد العزيز، وهي منصة أطلقها كلٍ من وارن بافيت وبيل غيتس، عام 2010، لجمع رواد العمل الخيري في منصة واحدة يتبادلون خلالها الأفكار والخبرات من أجل ابتكار أساليب جديدة لمحاربة الفقر، ورفع مستوى التعليم والصحة العامة، وإجراء الأبحاث لتطوير المجالات المختلفة.
4- المشاريع الخضراء
تعد أهداف التنمية المستدامة الأساس الذي تعمل وفقه الحكومات والشركات والمؤسسات غير الربحية لضمان سبل العيش الأفضل بحلول عام 2030، وتتجه الأنظار نحو المانحين للمساهمة في القضايا المتوافقة مع هذه الأهداف التي تُعنى بمجالات مختلفة انطلاقاً من القضاء على الفقر وتأمين بيئة نظيفة وصولاً إلى المساواة الاقتصادية وإتاحة التعليم للجميع.
وعن واقع التنمية المستدامة في المنطقة؛ وجد التقرير الذي أعدته شركة أوليفر وايمان (Oliver Wyman) الاستشارية عام 2015 بعنوان: عقد من العمل: تحقيق أهداف التنمية المستدامة في الخليج (A Decade of Action: Delivering Sustainable Development Goals in The Gulf)، أن دمج أهداف التنمية المستدامة في الخطط الحكومية وصنع السياسات والعمل الخيري سيخلق 5.4 مليون فرصة عمل في منطقة الشرق الأوسط، وسيضيف تحقيق المساواة المالية بين الرجال والنساء 3.1 تريليون دولار إلى المنطقة، وأن مواجهة التغير المناخي بجدية، ستُجنب العالم خسارة 26 تريليون دولار بحلول عام 2030.
سلطت جائحة كوفيد-19 وتبعات التغير المناخي، خصوصاً على المنطقة العربية، المتمثلة بالجفاف وشح المياه ونزوح المجتمعات المحلية، الضوء على ضرورة إعادة ترتيب أولويات العطاء والعمل الخيري لضمان استجابة فعالة لمثل هذه التحديات العالمية، وبالفعل بدأت تتغير توجهات العمل الخيري، وتتسع دائرة اهتمام الشركات والمانحين العرب بالشؤون البيئية وفي مقدمتها التغير المناخي، إذ عبر 75% من أثرياء الشرق الأوسط عن شعورهم بالقلق من تأثير تغير المناخ، وفق تقرير نايت فرانك (Knight Frank) للثروات لعام 2020.
وشهد العمل الخيري في المنطقة العربية، موخراً، تركيزاً أكبر على مشاريع الطاقة المتجددة بهدف الحفاظ على البيئة، إذ أعلن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، خلال العام 2021 عن مبادرتي السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، لمواجهة التغيرات المناخية، وأطلق صندوق التنمية الصناعية السعودي عام 2019 برنامج متجددة لتوفير قروض بقيمة 1.2 مليار ريال، ما يعادل 320 مليون دولار، لتمويل مشاريع إنتاج الطاقة المتجددة.
وفي الإمارات، تبرز شركة أبوظبي لطاقة المستقبل، مصدر، كمشروع مهم لتحقيق الاستدامة البيئية ودعم الابتكار في مجال التكنولوجيا النظيفة، ومنذ تأسيسها عام 2006، استثمرت الشركة في مشاريع الطاقة المتجددة بقيمة إجمالية بلغت نحو 20 مليار دولار.
بالمحصلة، يتحول العمل الخيري في المنطقة العربية اليوم إلى ثقافة العطاء المشتركة، والعمل الجماعي والتخطيط الاستراتيجي القائم على البيانات الدقيقة، وتوجيه جهود فاعلي الخير العرب نحو مبادرات مركّزة وموجهة لإحداث أثر دائم يساعد في بلوغ أهداف التنمية المستدامة بحلول العام 2030.