ملخص: تمثّل مشكلة هدر الغذاء تحدياً عالمياً مُلحاً ومعقداً لأنها مرتبطة بشبكة من الجهات الفاعلة وسلسلة من العمليات التي تبدأ بالإنتاج وتنتهي بالاستهلاك. في هذا المقال، تتحدث الأمينة العامة للجنة المبادرة الوطنية للحد من فقد وهدر الغذاء "نعمة" والرئيسة التنفيذية للاستدامة في مؤسسة الإمارات، خلود النويس، عن منهجية المبادرة في حل مشكلة هدر الغذاء القائمة على 4 محاور رئيسية: 1) وضع خط أساس لقياس نسبة الهدر واستخدام التكنولوجيا لتتبع البيانات، 2) رفع مستوى الوعي وتغيير الممارسات المسببة للهدر، 3) وضع التشريعات والمبادئ التوجيهية لتفعيل الممارسات المستدامة، 4) التعاون مع القطاعات المختلفة عبر سلسلة الأمن الغذائي.
يرتبط ملف الأمن الغذائي بقضايا جوهرية مثل الفقر والجوع وتغير المناخ، ففي الوقت الذي يعاني فيه 828 مليون شخص حرماناً غذائياً على المستوى العالم، يجري هدر 1.3 مليار طن من الغذاء سنوياً، كما أن النظام الغذائي الحالي مسؤول عن ثلث إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة، ما يجعل تركيز دول وحكومات متقدمة كثيرة منصبّاً على خلق نظام غذائي مستدام والحد من هدر الغذاء. وتتطلع دولة الإمارات إلى تَصدُّر مؤشر الأمن الغذائي العالمي بحلول عام 2051، وهي ملتزمة بخفض نسبة هدر الغذاء بنسبة 50% بحلول عام 2030 من خلال تطوير منظومة متكاملة لتقليل نفايات الطعام ضمن سلاسل التوريد.
من هذه الرؤية، انطلقت المبادرة الوطنية للحد من فقد وهدر الغذاء "نعمة" عام 2022 ولتعزيز الممارسات المستدامة عبر سلسلة الإمداد الغذائي. وبينّت الأمينة العامة للجنة مبادرة نعمة والرئيسة التنفيذية للاستدامة في مؤسسة الإمارات، خلود النويس لستانفورد للابتكار الاجتماعي، أن هدر الطعام يمثّل فرصة اقتصادية ضائعة للدولة، إذ تستورد الإمارات نحو 80% من حاجاتها الغذائية، ويتم هدر ما يقارب 35% من الغذاء، وتشير التقديرات إلى أن هدر الطعام يكلف اقتصاد الدولة نحو 13 مليار درهم سنوياً.
لذا تتبنى مبادرة نعمة نهجاً تكاملياً ومنظماً للحد من فقد وهدر الغذاء وترتكز استراتيجيتها على وضع خط الأساس من أجل قياس نسبة الفقد والهدر، واستخدام التكنولوجيا الحديثة لتتبع البيانات الخاصة بالهدر، ورفع مستوى الوعي لتغيير سلوك الأفراد المؤدي إلى الهدر، بالإضافة إلى وضع التشريعات والمبادئ التوجيهية لتفعيل الممارسات المستدامة، والتعاون مع القطاعات المختلفة عبر سلسلة الأمن الغذائي.
القياس الدقيق والموثوق لحجم الهدر
ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته أو وضع الحلول الصحيحة له، لذا بدأت مبادرة نعمة بإجراء دراسة لمعرفة التحديات ونوع السلوكيات التي تؤدي إلى الهدر في كل قطاع، وكان من أهم هذه التحديات عدم وجود خط أساس (Baseline Study) يقدم البيانات أو الإحصائيات الفعلية لنسبة الهدر في الإمارات.
وتحاول مبادرة نعمة اليوم بناء البيانات من خلال العمل مع كل القطاعات والمؤسسات الحكومية الأخرى المعنية بالمشكلة من أجل البدء بالقياس الفعلي لمستويات الهدر والفقد وإعداد تقارير عن هذه البيانات ضمن منصة تابعة للمبادرة لتحديد الأوقات أو الأماكن التي تسجل أعلى نسب هدر للطعام.
تغيير السلوكيات المؤدية للهدر
تشكّل غالبية السياسات أداة قوية في الوصول إلى الأفراد على نطاق واسع، ولكن بعضها غالباً ما يعجز عن ربط مفهوم النظام الغذائي المجرد بالحياة اليومية للأفراد، وبالتالي فإن هذه السياسات غير قادرة على تحفيزهم لتغيير عادات استهلاكهم للغذاء.
لذلك، تركز مبادرة نعمة على تغيير السلوكيات المؤدية إلى هدر الطعام وتحويلها إلى ممارسات جديدة إيجابية، حيث يتميز الشعب الإماراتي بكرم الضيافة خصوصاً في المناسبات مثل حفلات الزواج وشهر رمضان، وبحسب مركز دبي المتميز لضبط الكربون، يبلغ إنتاج الفرد من بقايا الطعام 2.7 كغ يومياً، وتتضاعف هذه الكمية لتصل إلى 5.4 كغ يومياً في رمضان.
وعملت مبادرة نعمة مع عدد من الفنادق والمطاعم والمقاهي على مشاريع تجريبية للحد من كمية الهدر، أبرزها استخدام أكياس شفافة بدلاً من الأكياس السوداء لجمع النفايات، بحيث يتمكن الأفراد من ملاحظة كمية الطعام المهدر، ما يرفع الوعي لديهم وفي الوقت نفسه يساعد على الفرز وتسهيل القياس، حيث لا يجري عادةً فصل حجم نفايات الطعام عن إجمالي حجم النفايات في الدولة.
ومن التجارب التي أجرتها نعمة مع أحد الفنادق هي استبدال بالأطباق الكبيرة الحجم أخرى أصغر حجماً، حيث أثبت العديد من الدراسات أن تقليل حجم أطباق الطعام يقلل الهدر، ومنها دراسة في قطر توصلت إلى أن انخفاض قطر الطبق بمقدار 2 سم يمكن أن يؤدي إلى خفض متوسط هدر الطعام بنسبة 30% للشخص الواحد.
وذكرت النويس أن أول تجارب المبادرة في تعديل السلوك عبر تنفيذ هذه المداخلات نجحت في تقليل نسبة الهدر في فندق جميرة إلى 44%، وكان للمبادرة تجربة أخرى مع فندق هيلتون تمثّلت في إلغاء سلة المخبوزات من قائمة الإفطار، ووضع النوع الذي يفضله الزبون فقط، وأسهمت هذه الخطوة بتقليل الهدر بنسبة 60%.
بعد ذلك بدأت مبادرة نعمة توسيع نطاق هذه المداخلات وحثّ الجهات العاملة في قطاع السياحة والضيافة على اعتماد الممارسات المستدامة، حيث قدمت لهم المبادرة التدريبات اللازمة لتطبيق المدخلات خطوة بخطوة.
وفي السياق نفسه، تعمل مبادرة نعمة باستمرار على رفع مستوى الوعي في المجتمع بأهمية تغيير السلوكيات المؤدية للهدر، ونظمت حملة توعوية ترسل من خلالها رسائل عبر حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي حول خطوات بسيطة يمكن اتخاذها للحد من هدر الطعام.
ومن جهة أخرى، تشكّل الأطعمة غير المثالية؛ مثل الفواكه والخضروات التي تحتوي على عيوب طفيفة أو لا يلبي شكلها متطلبات المقاييس الصارمة لمحلات السوبر ماركت، جزءاً كبيراً من مشكلة هدر الطعام، وعادةً يقبل تجار التجزئة نحو 60 إلى 80% فقط من منتجات المزارعين لأسباب تتعلق بالشكل. وفي بعض الأحيان، يتخلى المزارعون عن محاصيل جيدة لكنها غير مثالية لتتعفن في الحقول أو يلقيها الموزعون في النفايات.
ولكن يمكن أن يؤدي الاقتصاد الدائري دوراً مهماً في حل هذه المشكلة، حيث تعمل مبادرة نعمة على إعادة تدوير نفايات الطعام وتحويلها لمنتجات جديدة مثل الأسمدة وعلف الحيوانات وتحاول خلق قيمة اقتصادية دائرية للوصول إلى صافي هدر، ففي مطلع شهر رمضان 2024 نفّذت المبادرة برنامج إنقاذ الغذاء بوصفه جزءاً من حملة "صون النعمة، فهي دائمة لمن يحفظها" ونجح البرنامج في إنقاذ 185.7 كغ من المنتجات المحلية الطازجة الفائضة، وتوزيعها في 18.4 ألف صندوق وتقديمها إلى أكثر من 5,000 أسرة محتاجة.
وشارك في تنفيذ البرنامج أكثر من 300 متطوع وسجلوا نحو 10 آلاف و300 ساعة تطوعية. وتمكّن البرنامج من تحقيق آثار بيئية واقتصادية جيدة، إذ أسهم في الحد من 472 ألف كغ من انبعاث الغازات الدفيئة، في حين وصلت قيمة الغذاء المُنقذ إلى نحو 1.4 مليون درهم.
توظيف التكنولوجيا للخروج بحلول مبتكرة
أحد الأركان الأساسية التي تعزز جهود مبادرة نعمة هو التعاون مع الشركات الصغيرة والمتوسطة التي لديها ابتكارات جديدة أو حلول خاصة بالهدر تعزز كفاءة النظام الغذائي.
وتعاونت مبادرة نعمة في رمضان مع 16 فندقاً وعدد من الشركات مثل شركة بترول أبوظبي الوطنية "أدنوك" لتنفيذ مشروع ثلاجات نعمة المجتمعية، الذي يقوم على جمع الأطعمة الفائضة من وجبات الإفطار وإعادة توزيعها على الأشخاص ذوي الدخل المحدود من خلال وضع ثلاجات ذكية في الأماكن المزدحمة بالمحتاجين، حيث جرى إنقاذ نحو 5 آلاف كغ من الطعام الفائض وتوزيع 11.5 ألف وجبة على المحتاجين.
بيئة ممكنة لتوسيع الأثر
يمثل الجانب القانوني والتشريعي جزءاً مهماً من حل مشكلة هدر الطعام، حيث فرضت اليابان وكوريا الجنوبية مثلاً غرامة على كل كغ من الطعام الذي يرميه المواطن في القمامة.
ويشكّل العمل على تشريعات وقوانين ومبادئ توجيهية أحد المحاور المهمة التي تعمل عليها مبادرة نعمة لخلق بيئة ممكّنة تساعدها على توسيع أثرها، وتدرس مع الجهات المعنية مثل وزارة تغير المناخ والبيئة، وهيئة البيئة- أبوظبي السياسات التي تساعد على تحقيق تأثير أكبر في مشكلة هدر الطعام.
الدروس المستفادة لحل المشكلات المجتمعية الكبرى
تتمثل أوجه الاستفادة من تجربة مبادرة نعمة في الإدارة الناجحة للمشاريع التي تسهم في حل المشكلات الاجتماعية الكبرى في النقاط الآتية:
- التعاون والعمل المشترك، لأن حل المشاكل المعقدة يتطلب مشاركة العديد من المساهمين لتحقيق التأثير الجمعي، وهنا يبرز دور الحكومات في تسهيل التعاون بين القطاعات المختلفة وإصدار التشريعات اللازمة لحل المشكلات.
- تنسيق الجهود وتوحيدها بين القطاعات المختلفة، فعند وضع أسس ومقاييس موحدة ومشاركة البيانات والموارد لتوظيفها في مبادرات وبرامج ذات أهداف واضحة، سيتضاعف الأثر الإيجابي في المجتمع.
- وضع أطر عمل للمساعدة على التفكير بأسلوب أكثر منهجية، على سبيل المثال يمكن توظيف الإدراك الكامل للارتباط الوثيق بين البشر والبيئة والأنظمة الغذائية وتأثير هذا الارتباط على الصحة والرفاه والعدالة الاجتماعية وسبل العيش لتحقيق آثار إيجابية أعمق في الأنظمة الغذائية والاستدامة عموماً.
- الاستفادة من تجارب الماضي في كيفية معالجة التحديات الحالية، إذ يمكن العودة للتاريخ والبحث في الممارسات والسلوكيات الفعالة في مواجهة المشكلات المجتمعية بالتوازي مع استخدام التكنولوجيا الحديثة للتوصل إلى حلول مبتكرة.