خلال العقد الماضي، أدى التنسيق الإضافي بين حلول التنمية الدولية، وطرق كسب الرزق لدى المستهلكين، وعادات إنفاقهم، إلى إحداث ثورة في الوصول إلى السلع والخدمات الأساسية في الأسواق الناشئة؛ إذ تعتمد معظم العائلات التي تنتمي إلى قاعدة الهرم الاقتصادي؛ أي التي تكسب أقل من 2.50 دولاراً في اليوم، على العمل باليومية، ويكسب أفرادها أجورهم وينفقونها يومياً، لذلك عملت بعض الشركات والمؤسسات الاجتماعية على تكييف حلولها لمطابقة أنماط الإنفاق هذه، وبالتالي التغلب على العقبات المتعلقة بعدم القدرة على تحمل التكاليف التي حالت في السابق دون اتساع نطاق التقنيات الجديدة ذات الكلفة المرتفعة؛ مثل مواقد الطهي النظيف والإنارة بالطاقة الشمسية.
يتجلى هذا بصورة أكبر في قطاع الإنارة بالطاقة الشمسية؛ الذي تستخدم شركاته نظام الدفع المسبق (pay-as-you-go)، حيث يدعم نموذج العمل هذا «التمويل متناهي الصغر»؛ أي حصول الأفراد على المنتجات والخدمات مقابل مبالغ مالية صغيرة يومية، في الحالات التي يكون فيها التمويل التقليدي- وحتى التمويل الصغير- مكلفاً جداً أو غير ممكن بالنسبة إليهم. يمكن للعملاء سداد القروض بمبالغ صغيرة؛ تصل إلى 50 سنتاً، من خلال هواتفهم المحمولة، وعندما يتوفر لديهم المال اللازم لذلك، وقد قدمت شركات الإنارة بالطاقة الشمسية التي تستخدم نظام الدفع المسبق؛ بما في ذلك «إم كوبا» (M-KOPA) و«غرين لايت بلانيت» (Greenlight Planet) و«إنغازا» (Angaza) و«فينيكس» (Fenix) و«بي بوكس إكس» (BBOXX)، منتجات وخدمات جديدة لأكثر من 8 ملايين شخص لم يكن بإمكانهم الوصول إليها، إلا أن أكبر فرصة لنظام الدفع المسبق لم تأتِ بعد، إذ يتوسع اعتماده بسرعة ليشمل قطاعات أخرى، وقد حان الوقت اليوم لتطبيقه من قِبل شركات أخرى.
مجالات تطبيق أخرى
من المهم التأكيد على أن مفهوم نظام الدفع المسبق لا يقتصر فقط على الإنارة بالطاقة الشمسية، فهو أيضاً لا يحتاج إلى استخدام تقنيات هندسية رقمية عالية للعمل؛ على سبيل المثال، بدأت شركات مثل «يونيليفر» و«نستله» عام 2002 في تقديم منتجات النظافة الشخصية الأساسية؛ مثل الصابون والشامبو، في عبوات صغيرة جداً لجعلها ميسورة التكلفة ويمكن الوصول إليها - حتى في المناطق الريفية النائية - وقد كان ذلك أكبر مساهمة في مبيعات كلا الشركتين عبر أفريقيا.
من ناحية أخرى، جعلت شركات؛ مثل «جيبو» (Jibu)، الوصول إلى المياه النظيفة أمراً مريحاً وبكلفة معقولة للعائلات ذات الدخل المنخفض في رواندا وأوغندا؛ حيث تقدم الشركة خدمة توصيل المياه النظيف إلى المنازل مقابل دولار واحد لكل 20 لتراً، وهذا يكفي حوالي ثلاثة أيام من الاستخدام، ونجحت الشركة في بيع 96 مليون لتر من المياه عبر 75 وكيل معتمد محلي. في نيروبي، كينيا، تعتمد شركة «سانرجي» (Sanergy) هذا النظام في الصرف الصحي من خلال دورات مياه تعتمد نظام الدفع مقابل الاستخدام، وتخدم حالياً 90 ألف عميل في المناطق الحضرية يومياً، كما أطلقت شركة «إنفايروفت» (Envirofit) تقنية العدادات الذكية؛ التي تمكّن العائلات ذات الدخل المنخفض من الدفع المسبق مقابل الحصول على الغاز للطهي.
نجحت شركات الطاقة والمياه والصرف الصحي في تقديم دراسة جدوى للسلع والخدمات القائمة على نظام الدفع مقابل الاستخدام؛ التي كانت تعتمد في السابق على التبرعات والإعانات، أو لم تكن متاحة ببساطة بسبب انعدام القدرة على تحمل التكاليف، واليوم، توجد فرص كبيرة للشركات الأخرى والحكومات والمؤسسات غير الربحية لتبنّي هذا النموذج أو الدخول في شراكة مع الشركات التي تطبقه بالفعل.
ثلاث فرص لإقامة الشراكات
يتمثل أحد التحديات الرئيسية؛ التي تواجه فرص حدوث المزيد من التبني لنظام الدفع المسبق، في أنه بينما تعمل القطاعات المختلفة على تطوير هذا النظام في صورة متزامنة، يُعدّ تبادل المعرفة بينها محدود. في مقالة «لماذا نواجه عوائق أمام توسيع نطاق الحلول المثبت جدواها» (Why Proven Solutions Struggle to Scale Up)، يشير كل من كريس ديغلميير وأماندا غريكو إلى أنه «لكل قطاع مجموعته الخاصة من الموارد والقواعد والحوافز والمعرفة والشبكات، وأدى ذلك لأن تكون المعرفة العملية المتبادلة محدودة، والتنسيق الهادف غير شائع». هذا لا ينطبق فقط على التعاون بين القطاعات العامة والخاصة والاجتماعية والاستثمارية، ولكن أيضاً بين الشركات والمؤسسات العاملة في القطاع ذاته، سواء الطاقة أو الزراعة أو الصحة العامة، لكن تخيل إذا ما كان بإمكان مؤسسات مثل «إنفايروفت» و«جيبو»؛ اللتين تستثمران في الموارد ورأس المال لنماذج التوصيل إلى المنازل، مشاركة منصات الدفع، وخفض تكاليف التسليم؛ من خلال تجميع العديد من المنتجات والخدمات.
الخبر الجيد هو أن بعض نماذج أعمال الدفع المسبق بدأت بالاستفادة من بعضها، فقد حان الوقت للشركات والمؤسسات الأخرى المشاركة من خلال توسيع نطاق تقنيات الدفع المسبق الحالية، لدعم المنتجات والخدمات الجديدة، بالإضافة إلى أن هناك فرصاً للعمل مع شركات قائمة تتبنى نموذج الدفع المسبق لتوسيع قاعدة عملائها، وإمكانية خلق المزيد منها للتعاون عبر القطاعات.
1. توسيع نطاق التقنيات الحالية لدعم المنتجات الجديدة
يمكن للعملاء الذين يفضلون نظام الدفع المسبق الوصول إلى منتج أو خدمة مثبّتة في منازلهم؛ بحيث تقوم الشركات بتشغيلها أو إيقافها مثل المنافع العامة، ويدفع العملاء مسبقاً مقابل المقدار الذي سيحتاجون إليه، وعندما ينفد رصيدهم تنطفئ الإنارة أو ينقطع الغاز أو المياه، لتذكيرهم بإجراء دفعة أخرى، ويكون عمل الآلية بهذه الطريقة أشبه بعمل وكيل القروض من ناحية المتابعة. يمكن للمؤسسات التي تطبق هذا النموذج أن تتشارك مع المؤسسات الأخرى لإضافة منتجات وخدمات جديدة؛ مثل الأدوية أو الرسوم المدرسية، وبالتالي المساعدة على توفير التمويل للسلع والخدمات الصغيرة جداً؛ والتي كان يصعب تمويلها في السابق، أو لم يتم تقديمها عادة من خلال التمويل، والفائدة الأخرى من هذا النظام هي أنه يمكن للعملاء إنشاء سجل ائتماني للمساعدة على تمويل مشتريات أكبر في المستقبل؛ كما هو الحال مع التمويل الصغير.
بينما تعمل معظم نماذج الدفع المسبق بمعزل عن غيرها، بدأت الشركات الأكثر خبرة في تنويع خدماتها؛ على سبيل المثال، عملت شركة «إم كوبا» على توسيع منصة نظام الدفع للإنارة بالطاقة الشمسية الخاصة بها لدعم القروض المدرسية للعائلات في كينيا، حيث يمكن لعملاء الشركة الحاليين؛ الذين سددوا مستحقات خدمة الإنارة، الحصول على المال من خلال حساباتهم المالية على الهاتف المحمول؛ والذي يمكن سداده باستخدام التمويل التكميلي اليومي المخصص للإنارة، وانضمت شركتا «ماستر كارد» و«إنغازا»؛ اللتان تقدّمان وسائلَ للاستفادة من الطاقة الشمسية، معاً في فبراير/شباط 2019 لإطلاق حلول دفع رقمية جديدة لمضخات المياه.
بالإضافة إلى ما سبق، تم تصميم نماذج أعمال شركتَيّ «إنفايروفت» و«جيبو» لتقديم خدمة التوصيل للوجهة النهائية؛ والتي توفر خدمات مثل غاز الطهي والمياه النظيفة إلى المنازل في المناطق الحضرية، حيث يزور الفنيون؛ الذين يقدمون الخدمات في هذه الشركات، المنازل شهرياً أو حتى أسبوعياً، ويمكنهم بسهولة- وفي الوقت ذاته- نشر معلومات الصحة العامة أو بيع الأدوية الأساسية؛ مثل أدوية منع الحمل، أو مراقبة تناول مرضى السل للأدوية، وبهذه الطريقة، يمكنهم استخدام الخدمات التي دُفع مقابلها مسبقاً؛ مثل الغاز والمياه والكهرباء، لبيع منتجات بصورة مباشرة؛ مثل الأدوية الوقائية التي لا تؤدي عادة إلى خفض ميزانية العائلة.
على الرغم من أن معظم تقنيات الدفع المسبق متاحة حالياً على مستوى العائلة فقط، يمكن أن يؤدي تطويرها من أجل خدمة مجتمعات بأكملها إلى توسيع استخدامها في قطاعات أخرى، وعند تطبيقها على قطاع الزراعة الضخم، على سبيل المثال، يمكن أن تساعد هذه التقنيات في جعل الشبكات الصغيرة ومضخات الري وتجهيزات المعالجة الزراعية في متناول المزارعين.
2. العمل مع الشركات القائمة لتوسيع قاعدة العملاء
يمكن أن تتخذ الشراكات التي توسع قاعدة العملاء عدة أشكال؛ على سبيل المثال، يمكن للشركات الكبيرة أو المستثمرين الدخول في شراكة مع الشركات الصغيرة لتمكين التوسع. عام 2018، استحوذت شركة «إنجي» (ENGIE)؛ وهي إحدى أكبر شركات الطاقة في العالم، على شركة «فينيكس»؛ وهي شركة تستخدم نظام الدفع المسبق في أوغندا، لتوسيع عملياتها، كما تعدّ الشراكات مفيدة أيضاً ضمن نطاق الحلفاء الإقليميين؛ مثل تلك الشراكة القائمة بين حكومة توغو وشركة «بي بوكس إكس» الناشئة التي تستخدم النظام ذاته، حيث تقدم الحكومة إعانة شهرية بقيمة 3.50 دولار للعائلات الريفية التي تخدمها الشركة لجعل الانتقال من الإنارة باستخدام زيت البرافين إلى الطاقة الشمسية أكثر سهولة.
تقدم نماذج التوصيل المتكررة بطبيعتها؛ مثل خدمات توصيل المياه الأسبوعية، للمؤسسات غير الربحية والشركات التي تدير عمليات خدمة التوصيل للوجهة النهائية فرصة لكسب الدخل، إذ غالباً ما يكون لدى هذه المؤسسات والشركات علاقات طويلة الأمد وموثوق بها ضمن شبكات المجتمع؛ التي قد تكون عملية بنائها مكلفة لتطويرها بمفردها؛ وبالتالي يمكنها أن تكسب عملاء جدد مقابل رسوم.
3. خلق المزيد من الفرص للتعاون عبر القطاعات
تتمثل إحدى طرق تشجيع التعاون بين الشركات والمؤسسات؛ التي تستخدم نظام الدفع المسبق، في الهبات التي تتطلب من المؤسسات عبر القطاعات والتخصصات أن تعمل معاً، وغالباً ما يكون تمويل الهبات ضرورياً للبحث والتطوير، فضلاً عن تكييف التكنولوجيا للشراكات الجديدة أو المواقع الجديدة أو المدخلات الإضافية، فإذا خصص المزيد من الممولين هبات لدعم الابتكار الجديد بين الشركاء الذين يعملون على إيجاد حلول للتحديات المختلفة، ستحدث المزيد من الشراكات بين القطاعات والصناعات. تطبق «مؤسسة هلمان» (Hellman Foundation) هذا على نطاق صغير، وتقدم هبات لدعم التعاون في المراحل المبكرة واللاحقة، وتهدف إلى تطوير استراتيجيات جديدة تتعلق بتغيير النظم.
تنطوي الفرصة الثانية للتعاون على تبادل المعرفة، ونظراً لأن معظم المؤتمرات وأنشطة القطاع الواحد مدفوعة بالقضايا بدلاً من الابتكار، يتم فصل اللجان حسب المسألة المعنيين بها. في مجال الطاقة على سبيل المثال، لا يوجد تداخل تقريباً بين الإنارة والطهي النظيف، على الرغم من أن كلا القطاعين يعملان على تحقيق «أهداف التنمية المستدامة» ذاتها، ويتنافسان على ذات الهبات والجوائز، وقد يهتم المنظمون بمسألة واحدة من المسائل المطروحة في المؤتمر السنوي لـ«أسواق رأس المال الاجتماعي» (SOCAP)؛ الذي يتم تنظيمه أساساً حول محاور كثيرة تؤثر على قطاعات متعددة. من خلال توسيع مواضيع النقاش، وضمان مشاركة ممثلين من مجموعة من القطاعات والصناعات، وتبنّي الأنشطة أو الهبات أو الاستثمارات برعاية مشتركة، يمكن للهيئات التنظيمية المساعدة على الدفع نحو التعاون، وإلقاء الضوء على كيفية عمل قطاعات مختلفة على إيجاد حلول لتحديات مماثلة.
مستقبل نظام الدفع المسبق
يُعدّ نظام الدفع المسبق طريقة فاعلة لمواءمة أنماط الكسب والاستهلاك لدى المستهلكين في قاعدة الهرم الاقتصادي. في الواقع، تعتمد نماذج هذا النظام بطبيعتها على الخدمة ويمكنها ابتكار حلول طويلة الأجل من شأنها تحسين حياة العديد من الأشخاص وبعدة طرق مختلفة، وحتى المؤسسات التي لا تركز على التكنولوجيا، لديها فرصة رائعة للعمل على امتداد سلسلة القيمة لنموذج عمل الدفع المسبق. هناك مجال للنمو؛ سواء كان الأمر يتعلق بتكييف التكنولوجيا الحالية لاستيعاب المنتجات والخدمات الجديدة، أو التعاون مع الشركات القائمة لتطوير القدرة على التوسع، أو المساعدة على تعزيز الابتكار عبر القطاعات. في النهاية، يُعتبر نظام الدفع المسبق مستقبل التنمية في الأسواق الناشئة، لكن النجاح الحقيقي لن يكون ممكناً إلا من خلال الابتكار والتعاون عبر القطاعات والصناعات.
اقرأ أيضاً: شريان الحياة و قصة تحويل الأموال رقمياً في بنجلادش.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.