في أكتوبر/تشرين الأول 2013، عندما كنتُ أستاذاً بالجامعة الأميركية في بيروت، كنت على موعد للقاء تاجر لشراء 3 عملات بيتكوين مقابل 500 دولار نقداً. وبينما كنت أنتظر وصوله، انتابني الخوف؛ إذ لم تكن القوانين تبيح تداول البيتكوين بالمطلق آنذاك، وكانت ثمة قصص متداولة بين الناس تفيد بأن كل مَن يحاول شراء هذه العملة أو بيعها سيقع على الأرجح ضحية للسرقة أو الاحتيال. لم يأتِ التاجر للقائي في الموعد المحدَّد، فشعرت بالارتياح.
تبلغ قيمة 3 عملات بيتكوين حتى كتابة هذه السطور (نوفمبر/تشرين الثاني 2024) نحو 300 ألف دولار، لكن التغيير الرئيسي لا يكمن في القيمة، بل في شبكة القيمة؛ فبوسعي الآن بيعها نقداً ولكن ليس لتاجر، بل لواحدة من منصات التداول الإلكترونية العديدة التي أصبحت متاحة وموثوقة (نسبياً) خلال هذه الفترة. تطورت العملات المشفرة بسرعة من ابتكار اجتماعي هامشي إلى خدمة مالية مشروعة. وفي تلك الأثناء، لفتت انتباهي ابتكارات اجتماعية مزعزعة كثيرة أخرى، مثل التمويل المتناهي الصغر وإقراض النظراء والتمويل الجماعي والاستثمار المؤثر.
بعد فترة وجيزة من فشل عملية شراء البيتكوين، انتقلت إلى لندن حيث وفَّر ازدهار قطاع التكنولوجيا المالية دراسات حالة جديدة ومثيرة تتناول تطور الخدمات المالية بهذه السرعة. وسرعان ما تغير السؤال من: "هل ثمة شيء يحدث في قطاع الماليات؟" إلى: "ماذا يحدث هناك؟".
الابتكارات الاجتماعية المالية السبعة
بدأتُ أرى أمثلة للابتكارات المالية ذات الأثر الاجتماعي في مختلف المجالات والسياقات، لذا فعلت ما يفعله أي أستاذ جامعي: أعددتُ مقرراً تعليمياً جديداً وبدأت إنشاء إطار منهجي يحدد كيفية التعامل مع هذه الابتكارات الاجتماعية المالية (FINSIs) لمساعدة طلابي على فهم هذه التطورات بدقة وبالتزامن مع حدوثها. حددتُ 7 ابتكارات اجتماعية مالية أثبتت قدرتها على الاستمرار فترة طويلة من الزمن وقابليتها للتطبيق في دول مختلفة لضمان أنها ليست مجرد تجارب محدودة النطاق تقتصر على بيئة محلية معينة. وبعد سنوات عديدة، نشرتُ مؤخراً كتاباً يوثق هذه الأبحاث.
الابتكار الاجتماعي المالي | تاريخ البدء | أمثلة نموذجية |
---|---|---|
التمويل المتناهي الصغر | السبعينيات | شركة أغورا (Agora) بالمملكة المتحدة، بنك باندهان (Bandhan) بالهند، شركة بلو أورتشارد (Blue Orchard) بسويسرا، بنك كومبارتاموس (Compartamos) بالمكسيك، بنك غرامين (Grameen Bank) ببنغلاديش، شركة بيرميكرو (PerMicro) بإيطاليا. |
إقراض النظراء | 2005 | شركة فاندينغ سيركل (Funding Circle) بالمملكة المتحدة، شركة ليندينغ كلوب (Lending Club) بالولايات المتحدة، شركة بروسبر (Prosper) بالولايات المتحدة، شركة فيرسنت (Faircent) بالهند، شركة سمارتيكا (Smartika) بإيطاليا، شركة زوبا (Zopa) بالمملكة المتحدة. |
التمويل الجماعي | 2006 | شركة أرتيست شير (ArtistShare) بالولايات المتحدة، شركة كراود كيوب (CrowdCube) بالمملكة المتحدة، شركة إكس بورو (Exporo) بألمانيا، شركة كيتو (Ketto) بالهند، شركة كيك ستارتر (Kickstarter) بالولايات المتحدة، شركة سيدرز (Seedrs) بالمملكة المتحدة. |
الخدمات المصرفية عبر الهاتف الجوال (دون فروع) | 2007 | شركة بي كاش (bKash) ببنغلاديش، شركة إم-بيسا (M-Pesa) بكينيا، شركة ويزيت (Wizzit) بجنوب إفريقيا. |
الاستثمار المؤثر | 2007 | مؤسسة أكيومن (Acumen) بالولايات المتحدة، مؤسسة بريدجز فينتشرز (Bridges Ventures) بالمملكة المتحدة، شركة أولتري فينتشر (OltreVenture) بإيطاليا، شركة سوشال إنفستمنت غروب (Social Investment Group) بالمملكة المتحدة. |
العملات المشفرة الرقمية | 2009 | بيتكوين (Bitcoin) بالولايات المتحدة، إيثيريوم (Ethereum) بسويسرا، لايتكوين (Litecoin) بالولايات المتحدة. |
سندات الأثر الاجتماعي | 2010 | ولاية ماساتشوستس بالولايات المتحدة، سجن بيتربورو بالمملكة المتحدة، بلدية روتردام بهولندا، سندات أوتكريشت (Utkrisht bond) بالهند. |
أكثر من مجرد أداة تعليمية
عندما ناقشت نتائج أبحاثي مع العشرات من خبراء القطاع، اتضح لي أنها أكثر من مجرد أداة تعليمية؛ إذ تعيد صياغة فهمنا للابتكار الاجتماعي المالي، فهي ليست تجارب منفصلة، بل ظاهرة عالمية مشتركة تتوسع بسرعة مدفوعة بالإبداع البشري، وينبغي معاملتها على هذا الأساس.
ظاهرة عالمية مشتركة
كان قطاع الماليات، ولا يزال، أرضاً خصبة للابتكارات المزعزِعة؛ فلطالما تعرَّض عدد كبير من المستهلكين المحتملين في مختلف دول العالم للحرمان من الخدمات المالية التقليدية، ومع ذلك كانت لديهم احتياجات لا بد من تلبيتها. استند بعض الابتكارات الاجتماعية المالية إلى احتياجات اجتماعية واضحة (مثل التمويل المتناهي الصغر أو إقراض النظراء أو سندات الأثر الاجتماعي)، في حين استند البعض الآخر إلى احتياجات يَغلُب عليها الطابع المالي (مثل العملات المشفرة أو التمويل الجماعي). وقد طورتها جميعاً مؤسسات معنية بتقديم خدمات غير مالية لتقديم الخدمات نفسها التي تقدمها المؤسسات المالية التقليدية لصالح الأطراف المهمشة وغير الراضية عن الخدمات المتاحة.
ثمة ظواهر يمكن فهمها على أفضل وجه ممكن عندما ننظر إليها إجمالاً من منظور شامل؛ فقد وقعت أحداث الاثنين الأسود عام 1987 والأزمة المالية عام 2008 وانهيار سوق الأسهم الصينية عام 2015 عندما تهاوت أسعار العديد من الأسهم بسرعة في وقت واحد، ويمكن فهم هذه الانهيارات بتحليل الأسباب التي دفعت كل مستثمر إلى بيع كل سهم بسعر منخفض في تلك اللحظة تحديداً، لكن من الأفضل فهم انهيارات الأسواق من منظور شامل باعتبارها ظواهر إجمالية لها أسباب وخصائص مميزة بدلاً من الاكتفاء بمحاولة فهم الأثر المُركَّب لانخفاض أسعار الأسهم الفردية.
ماذا يعني ذلك؟ يتعامل الخبراء مع ظهور التكنولوجيا المالية من هذا المنظور الشامل؛ إذ لا تنبع أهمية التكنولوجيا المالية من استثمار أصحاب رؤوس الأموال المغامرة الأفراد في شركات ناشئة منفصلة تنشر تكنولوجيات انتقائية لمعالجة مشكلات في مجال محدد بمناطق جغرافية معينة. بل ثمة إجماع على أن ظاهرة أوسع نطاقاً تحدث الآن، وهي الاستفادة من التكنولوجيات الرقمية بصورة منهجية لإحداث تغيير جذري في مجال الخدمات المالية، وهذا يتطلب إلقاء نظرة أشمل على هذه الظاهرة. تنطبق القاعدة نفسها على الابتكار الاجتماعي المالي؛ إذ تعمل المؤسسات المعنية بتقديم الخدمات غير المالية بصورة منهجية على تطوير حلول جديدة لتقديم الخدمات نفسها التي تقدمها المؤسسات المالية التقليدية لصالح الأطراف المهمشة وغير الراضية عن الخدمات المتاحة.
التوسع بسرعة
لم تنشأ الابتكارات الاجتماعية المالية إلا منذ عهد قريب نسبياً، لكنها نمت بسرعة كبيرة، ومن المسلَّم به أن مساراتها كانت متباينة أحياناً؛ فقد ظهر بعضها في البداية على الهامش قبل أن يصبح جزءاً من التيار السائد ثم شهد نمواً متسارعاً، مثل العملات المشفرة. وطُرِح بعضها وسط ضجة إعلامية كبيرة وتوقعات تناطح السحاب لكن تبنّيه وصل إلى مستوى معين من النمو دون أن يتجاوزه مطلقاً، مثل التمويل الجماعي. وحقق البعض الآخر مستويات عالية من النمو لكنه لم يلبث أن تطور وتحوّل إلى شيء آخر، مثل إقراض النظراء. وعلى الرغم من ذلك، فلا شك في وضوح المسار العام.
ماذا يعني ذلك؟ في مواجهة النمو المتسارع، تفقد عملية صناعة القرار بالطريقة التقليدية الحذرة فعاليتها، مثلما حدث في شركتي نوكيا وكوداك اللتين شهدتا نهاية مروِّعة، ومن ثم فتجاهل اتجاهات النمو السريع أخطر من اقتحامها في وقت مبكر جداً أو الاستثمار فيها أكثر من اللازم.
الاستناد إلى الإبداع البشري
يحكي كل ابتكار اجتماعي مالي قصة ابتكار تعكس إنجازات أفراد اتبعوا أساليب إبداعية لحل مشكلة مؤثرة في المجتمع الإنساني. على سبيل المثال، سندات الأثر الاجتماعي (Social Impact Bonds) ليست سندات بالمعنى التقليدي، لكنها تمثل هيكلاً تعاقدياً مبتكراً يتيح لمختلف الأطراف تحقيق أقصى قدر ممكن من العوائد الاجتماعية والمالية مع تقليل المخاطر. تضطلع الحكومة في هذا الإطار بدور الوكيل الأمين على الأموال العامة مع تقديم التسهيلات لتوفير التمويل اللازم للمؤسسات الاجتماعية من خلال هيكلية دفع مناسبة للمؤسسات الخيرية والجهات الاستثمارية الربحية على حدٍّ سواء، ويستطيع كل طرف في العقد المشاركة والاستفادة على نحو لم يكن ممكناً لولا سندات الأثر الاجتماعي.
تتميز هذه الابتكارات بميزتين أخريين على الأقل: الأولى أن إطلاقها لم يتطلب موارد مالية كبيرة، بل اعتمد على إشراك مجموعات متنوعة من أصحاب المصلحة؛ والثانية أنها نجحت في تكوين مجتمعات جديدة بقواعد جديدة للتفاعل والمشاركة.
ماذا يعني ذلك؟ عندما تكون المشكلة مؤلمة بدرجة كافية أو تكون الفرصة كبيرة بما يكفي وتؤثر في عدد كافٍ من الفئات المستهدفة، فلا بد من حلها (وهذا رأيي) وستُحَّل (وهذا ما أثبتته الابتكارات الاجتماعية المالية). هذا ليس اكتشافاً جديداً، على الأقل منذ أن شاعت نماذج الأعمال التي تستهدف الفئات ذات الدخل المنخفض في المجتمع، لكنه تذكير بسيط بأن هذه الفئات متعطشة أيضاً للخدمات المالية، وربما أكثر مما نتصور.
الابتكار الاجتماعي المالي مجرد أداة
الابتكار الاجتماعي المالي ظاهرة حديثة بامتياز، وقد ازداد تأثيره بفضل التكنولوجيا الرقمية التي أصبحت أكثر قوة وتطوراً؛ وبما أن التكنولوجيا بطبيعتها وسيلة للتواصل والربط، فهذا يساعد على توسيع نطاق الابتكارات الاجتماعية المالية لتصل إلى شريحة أكبر من الناس وتعزيز أثرها. وعلى الرغم من أن أبحاثي شملت 7 ابتكارات اجتماعية مالية فقط، فهي لن تظل محصورة في هذا العدد الضئيل جداً فترة طويلة. وقد ظهرت بالفعل مفاهيم جديدة يمكن اعتبارها لاحقاً ابتكارات اجتماعية مالية، مثل العملات التكميلية أو المؤسسات اللامركزية المستقلة، مثلما شهدنا في الآونة الأخيرة.
الابتكار الاجتماعي المالي ليس خيراً أو شراً في حد ذاته، بل مجرد أدوات ليست لها نتائج محددة سلفاً، وبمقدور المؤسسات الاستفادة منها على النحو الذي تراه مناسباً، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن استخدامها سيكون لتحقيق نتائج اجتماعية إيجابية دائماً؛ فقد وجّهت مؤسسات التمويل المتناهي الصغر تهديدات للمقترضين، ومارست جهات التمويل الجماعي أنواع الخداع، ونُفذت الاستثمارات المؤثرة بنوايا مشبوهة. ويمكن جمع معايير كل ابتكار اجتماعي مالي والدروس المستفادة منه لتحديد أفضل سيناريوهات استخدامه.
أنت المسؤول، إذاً، عن تحديد ما يجب فعله حيال الابتكار الاجتماعي المالي. إذا كنت رائد أعمال، فيمكنك دراسة دوافع الابتكار المالي لتحديد الفرصة المتاحة فيه، أو البحث عن طرق محسّنة لأداء الخدمات المالية للمستخدمين غير التقليديين. وبمقدور المؤسسات ذات الغاية الاجتماعية دمج الابتكار الاجتماعي المالي في حلولها، وبمقدور المؤسسات المالية التي قدمت منتجاتها الخاصة من خدمات التكنولوجيا المالية وأنشأت صناديق للاستثمار المنهجي في هذا المجال أن تفعل الشيء نفسه مع الابتكار الاجتماعي المالي، وبمقدور المستثمرين المؤثرين تخصيص أموال تحفيزية لدعم الابتكار الاجتماعي المالي أو توسيع نطاقه.