تقديم الرعاية الصحية المتخصصة عبر الصيدليات المحلية: تجربة من الهند

7 دقيقة
حلول مبتكرة في الرعاية الصحية
shutterstock.com/REDPIXEL.PL

كان أشوك (اسم مستعار حفاظاً على الخصوصية) طفلاً يبلغ من العمر 8 أعوام من بلدة نائية في ولاية جهارخاند الهندية يعانى مجموعة من الأعراض المزمنة؛ إذ كان يشعر بالغثيان باستمرار ويرفض تناول الطعام. وقد اصطحبه والداه مرات عديدة لمراجعة طبيب عام يبعد نحو 32 كيلومتراً عن منزلهما، لكن على الرغم من تلقيه أدوية بالحقن عدة مرات، لم تتحسن حالته. وأخيراً، وخلال زيارة لإحدى الصيدليات القريبة، علمت الأسرة بإمكانية استشارة طبيب متخصص في أمراض الجهاز الهضمي عبر منصة جيو (Jiyyo) الرقمية للرعاية الصحية. وقد شخّص الطبيب حالة أشوك بأنها أحد أشكال التهاب الكبد الفيروسي القابلة للعلاج، ووصف له أدوية عن طريق الفم أدت إلى تحسُّن حالته سريعاً.

وفي الوقت نفسه، كانت سافيتا (اسم مستعار) امرأة تبلغ من العمر 35 عاماً من ولاية أتر براديش في الهند تعاني متاعب مزمنة وآلاماً وتورماً في المفاصل؛ فسافرت إلى مستشفى يبعد أكثر من 800 كيلومتر عن منزلها، لكنها لم تتمكن من متابعة العلاج بسبب بُعد المسافة، ثم لجأت إلى طبيب محلي متخصص في الطب البديل، لكن حالتها لم تشهد أي تحسُّن. وأخيراً، وخلال زيارة لصيدلية بالقرب من منزلها، تمكَّنت من استشارة طبيب متخصص في أمراض الروماتيزم عبر منصة جيو الرقمية. شخّص الطبيب حالتها بأنها إصابة بمرض الذئبة الحمامية الجهازية، وهو مرض التهابي مزمن لا علاج له، لكن يمكن السيطرة عليه بالأدوية المناسبة. بدأت سافيتا رحلتها العلاجية بالفعل ولاحظت تحسناً ملموساً. ومن خلال المنصة، أصبحت تتواصل بانتظام مع طبيب أمراض الروماتيزم.

الهند ليست الدولة الوحيدة التي يعاني مواطنوها صعوبة الحصول على الرعاية الصحية المتخصصة؛ فهذه المشكلة منتشرة أيضاً في دول أخرى بجنوب آسيا ومعظم دول إفريقيا، غير أن حجم المشكلة في الهند أضخم من سواه؛ إذ يعيش أكثر من 900 مليون شخص، أي ما يزيد على 60% من السكان البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، في المناطق الريفية. وعلى الرغم من وجود مقدمي الرعاية الصحية الحكوميين في معظم تلك المناطق، فإن المشكلات الخدمية، مثل نقص الأدوية الأساسية وغياب الكوادر الطبية، تجبر المواطنين على البحث عن بدائل.

وفي الوقت نفسه، تعاني الهند مستويات حادة من تفاوت الدخل؛ إذ تشير التحليلات الحديثة إلى أن 10% من الهنود يتمتعون بدخل سنوي للفرد يقارب 1.4 مليون روبية هندية (17,500 دولار أميركي، أي ما يعادل 70,000 دولار أميركي في الولايات المتحدة وفقاً للقوة الشرائية) ويعيش معظمهم في المناطق الحضرية، ما يتيح لهم الوصول إلى المتخصصين حتى في الرعاية الروتينية، ومنها الطبابة عن بُعد. وتقدم منصات متميزة، مثل براكتو (Practo) و1 إم جي (1mg) وفارما إيزي (PharmEasy) ودوك أونلاين (DocOnline)، خدمات فعّالة إلى حدٍّ كبير للمرضى الذين يعيشون في المدن؛ فبمقدور هؤلاء المرضى التواصل المباشر مع الأطباء والمتخصصين عن بُعد باستخدام أدواتهم الرقمية الخاصة.

لكن 90% من سكان الهند الآخرين لا يتجاوز دخلهم السنوي 100,000 روبية هندية (أي ما يعادل نحو 1,250 دولاراً أميركياً)، ويعيش معظمهم في المناطق الريفية، ما يجعل من الريف الهندي سوقاً ضئيلة الحجم وعديمة الجدوى بدرجة لا تُحفّز شركات أو مؤسسات خدمات الرعاية الصحية التابعة للقطاع الخاص على الدخول إليها، كما أن الأطباء المؤهَّلين رسمياً يجدون أن العمل في هذه السوق غير مجدٍ اقتصادياً، حتى على المستوى الفردي. ونتيجة لذلك، يعتمد معظم سكَّان هذه المناطق على مقدمي الرعاية المحليين غير المؤهَّلين. وتشير الأدلة إلى أن مقدّمي الرعاية المحليين غير الرسميين قادرون على تقديم مستوى معقول من الرعاية الأولية، مثل علاج حالات السعال ونزلات البرد الموسمية، بل والمراحل المبكرة من الأمراض المزمنة، مثل مرض السكري وارتفاع ضغط الدم. بيد أن الحلول الفعلية لتوفير علاجات متقدمة للمرضى المنخفضي الدخل، مثل أشوك وسافيتا، لا تزال محدودة جداً.

تهدف منصة الرعاية الصحية الهندية التي تعمل عبر تقنيات الاتصال الحديثة، جيو إنوفيشنز (Jiyyo Innovations)، المعروفة أيضاً باسم عيادة جيو ميترا الإلكترونية (Jiyyo Mitra e-Clinic)، إلى سدّ هذه الفجوة من خلال اتباع نهج جديد قائم على التعاون الوثيق لربط الأطباء المتخصصين بالمرضى الذين يفتقرون إلى وسائل الرعاية المناسبة.

سد فجوة العلاج

في عام 2019، التقى مهندسان يتمتعان بخبرة واسعة في مجالي التكنولوجيا والعمليات التشغيلية، سيدهارث أنغريش وأفيل تياغي، لتأسيس نوع جديد من الخدمات الطبية.

ولاحظا أن معظم مبادرات الطبابة عن بُعد التي استهدفت الشرائح السكانية المنخفضة الدخل في الهند، على الرغم من حسن نواياها، عجزت عن الاستمرار بالزخم الذي بدأت به. ويعود ذلك أساساً إلى فشلها في اختيار الشركاء المناسبين وعدم إدراكها أن محاولة جذب المرضى إلى خدمات الطبابة عن بُعد أقل فعالية بكثير من تقديم هذه الخدمات في المواقع التي يقصدونها فعلياً لتلقّي الرعاية.

كشفت جولاتهما في الريف الهندي أيضاً أن أكثر من مليون صيدلية تهيمن على سوق الرعاية الصحية غير الرسمية، بل إن بعضها يعمل في التجمعات السكانية النائية، وتخدم أعداداً كبيرة من المرضى. وكان معظم أصحاب هذه الصيدليات راضين عن حجم أعمالهم الحالي، لكن الكثيرين منهم كانوا طموحين وأرادوا تنمية أعمالهم من خلال تقديم مجموعة أوسع من الخدمات لعملائهم. أدرك أنغريش وتياغي ما يلي: أ) أن الأساليب التقليدية، مثل بطاقات قياس الأداء (التي تقيّم الشركاء المحتملين وفق معايير مثل المؤهلات الأكاديمية وسنوات الخبرة والقدرات المالية)، لن تكون فعّالة في تحديد الصيدليات التي تمتلك أقوى الدوافع والقدرة على التوسُّع، ب) نظراً لضخامة السوق، فإن الوصول إلى هذه الصيدليات من خلال وسائل ميدانية مادية لن يكون مجدياً من حيث التكلفة. فقررا تطوير منصة جديدة، إلى جانب وضع خطة للاستفادة من شبكة الصيدليات بالهند في التوزيع، تتكوّن من 3 عناصر رئيسية: تحديد الشركاء المناسبين، وغرس مبادئ الاستدامة منذ البداية، وتمكين هؤلاء الشركاء.

تحديد الشركاء المناسبين

في البداية، ومن أجل استقطاب الشركاء الذين لديهم بالفعل قاعدة من المرضى ويشعرون بالحماس لتعزيز مشاركتهم وتوسيع نطاق خدماتهم، طوّر أنغريش وتياغي مجموعة من المنتجات لعرضها على الصيدليات ومقدّمي الرعاية، مثل الممرضين وممارسي أنظمة الطب الهندي، ومنها الأيورفيدا (Ayurveda) والسيدها (Siddha) والطب اليوناني (Unani)، وهم مجموعة من الأفراد أطلقوا عليهم اسم شركاء الصحة (HPs). كان من السهل فهم نهج المُنتَج الذي تميَّز بعروض واضحة، مثل تطبيق جيو، وقدَّم لشركاء الصحة فكرة واضحة عن القيمة المحتملة التي يمكن أن يجنوها من الشراكة مع جيو. وقد طوّرت جيو التطبيق والتقنيات المرتبطة به داخلياً، ثم حسّنتها تدريجياً استناداً إلى الملاحظات المستمرة من شركاء الصحة.

بعد ذلك، طلب فريق جيو من شركاء الصحة المحتملين شراء المنتج الأساسي، نظام عيادة جيو ميترا الإلكترونية، المتاح في نسختين: الأولى بسعر 35,000 روبية هندية (أي نحو 400 دولار أميركي)، والثانية بسعر 60,000 روبية هندية (أي نحو 700 دولار أميركي). توفّر النسختان مجموعة قياسية من المزايا، من بينها: الوصول مدى الحياة إلى تطبيق جيو للطبابة عن بُعد ومدير علاقات مخصَّص بين الصيدلي وشريك الصحة وندوات إلكترونية (Webinar) مستمرة للتوعية الطبية. أما النسخة الأعلى سعراً، فتشمل أيضاً شاشة كمبيوتر وطابعة لاستخدامهما مع التطبيق. كان استعداد شركاء الصحة وقدرتهم على الاستثمار في هذا العرض البسيط مؤشراً على جدّيتهم في استخدام تطبيق جيو واهتمامهم بتطوّره المستقبلي، كما وفّر ذلك للتطبيق منصة موحّدة في كل عيادة إلكترونية يمكن للشركاء لاحقاً أن يضيفوا إليها أجهزة أخرى، مثل جهاز تخطيط كهربية القلب المحمول والماسحات الضوئية، كما أن ارتباط المنتج الوثيق بعلامته التجارية أسهم في تعزيز ثقة المستهلكين وتعرُّفهم إليه بسهولة.

غرس مبادئ الاستدامة منذ البداية

بعد أن أدرك فريق جيو أن بناء الشبكة سيستغرق وقتاً، قرر إعطاء الأولوية للاستدامة المالية من خلال الحدّ من عدد نقاط التواصل مع الجمهور المستهدف. وبدلاً من إنفاق الأموال على اللوحات الإعلانية أو الإعلانات التلفزيونية، ركز الفريق على تعزيز ظهور عروضه لشركاء الصحة المحتملين عبر فيسبوك ويوتيوب، وهما منصتان تحظيان بانتشار واسع في الهند، بما في ذلك المناطق الريفية. وقد أدى ذلك إلى خفض تكلفة استقطاب الشركاء إلى حدٍّ كبير ومكّنهم من التواصل مع عدد كبير من مقدمي الخدمات في الوقت نفسه.

تمكين الشركاء

بعد أن حدَّد الفريق الصيدليات ومقدمي الرعاية الذين تعهدوا باستخدام المنصة، عمل بجد لتمكينهم. ونظراً لأن الرعاية الأولية في المناطق الريفية بالهند تحقق إيرادات منخفضة لكل مريض، فإن العديد من مبادرات الطبابة عن بُعد الموجَّهة مباشرة إلى المريض تبالغ في التركيز على الإحالات إلى المستشفيات كي تنال نسبة من الدخل الذي يجنيه المستشفى من علاج المريض. بالمقابل، يركز نهج جيو على تعزيز قدرات شركاء الصحة والعمل معهم لتقديم خدمات فعّالة لمرضاهم من خلال تقديم الرعاية الأولية والمتخصصة في موقع شريك الصحة. وخلال عملية إعداد شركاء الصحة يعمل مدراء جيو عبر الإنترنت على بناء علاقات وطيدة معهم والحفاظ عليها، ما يخلق مساراً للتعلم المستمر وتبادل المعرفة مع كل شريك. كما تقدم جيو لشركاء الصحة ندوات أسبوعية عبر الإنترنت تضم خبراء في مجالات مثل أمراض الرئة والاضطرابات النفسية والتطعيم وصحة الأم.

كما تربط جيو شركاء الصحة بشبكة مخصصة للطبابة عن بُعد تضم أطباء عامين ومتخصصين، يمكن لشركاء الصحة استخدامها لتقديم الخدمات لمرضاهم (وقد اكتسبت هذه الممارسات صفة قانونية بفضل المبادئ التوجيهية للطبابة عن بُعد التي أقرَّتها حكومة الهند خلال جائحة كوفيد-19). وتتميز شبكة جيو من الأطباء والصيادلة السريريين بإتقانهم للهجات المحلية، ما يجعل التواصل مريحاً بين شركاء الصحة ومرضاهم، كما يراقب فريق جيو من الصيادلة السريريين الاستشارات كلها بدقة متناهية، من حيث مدة المكالمة والتوثيق السليم لحالة المريض الصحية وسلوك مقدمي الخدمات المتخصصين وجودة الوصفات الطبية الصادرة عبر المنصة.

الأثر المتحقِّق وآفاق المستقبل

أسفرت عملية التطوير الفريدة هذه في النهاية عن منصة تشبه منصة روبيكون إم دي (RubiconMD) التي تتيح لمقدمي الرعاية الأولية في الولايات المتحدة الوصول عن بُعد إلى الاختصاصيين، ومن ثم إتاحتهم لمرضاهم، وتشبه أيضاً منصة إيكو (ECHO) التابعة لجامعة نيو مكسيكو التي تهدف إلى تعزيز قدرات مقدمي الرعاية الأولية مباشرة مع ضمان توفر الاختصاصيين عند الحاجة.

منذ أن بدأت جيو عملياتها، حصل نحو 1,500 شريك صحة على نظام عيادة جيو ميترا الإلكترونية. ويحمل 70% منهم شهادات معتمدة رسمياً في الصيدلة أو التمريض أو الطب غير الحديث أو الممارسات الطبية المعتمدة. وتنتشر المنصة الآن في أكثر من 200 مقاطعة في الهند، مع وجود أكثر من 90% من شركاء الصحة في ولايات بيهار وأتر براديش وماديا براديش وتشاتيسغار وراجستان وجهارخاند، وهي أفقر الولايات الهندية من حيث معدلات الدخل وأقلها حصولاً على خدمات الرعاية الصحية.

وقد أظهرت لقطة حديثة من يونيو/حزيران إلى أغسطس/آب 2024 أن 604 شركاء صحة بمنصة جيو قدّموا استشارة واحدة على الأقل لمريض واحد خلال الأشهر الثلاثة، وقدموا خدماتهم في المُجمَل لأكثر من 4,500 مريض شهرياً، أكثر من 70% منهم يعانون حالات طبية حرجة. ومن شركاء الصحة هؤلاء يعمل معظمهم (283 شريك صحة) مع جيو منذ عامين ونصف إلى 3 أعوام ونصف، بينما ينضم نحو 10 شركاء صحة جدد إلى الشبكة شهرياً.

وعلى الرغم من بطء نمو منصة جيو، فقد أثبتت قدرتها على تحقيق الاستدامة المالية، كما تهدف إلى تعزيز حضور منتجاتها وخدماتها لدى المزيد من الصيادلة الذين يزيد عددهم على مليون صيدلي وغيرهم من شركاء الصحة المحتملين. وإذا نجحت في هذا المسعى، فستُحدِث تغييراً جذرياً في طبيعة الرعاية الثانوية بالمناطق الريفية في الهند، كما يمكن استخدام بيانات المرضى الفورية التي تغفل هوياتهممن شبكة موثوقة مثل هذه في تعزيز مبادرات الرعاية الصحية الأوسع نطاقاً، مثل مراقبة الأمراض على المستوى الوطني التي تخدم الهند بأكملها، ومنهم المرضى ذوو الدخل المنخفض في المناطق الريفية من أمثال أشوك وسافيتا.

 

 

 

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.            

المحتوى محمي