يمثل موسم الحج تجربة روحية استثنائية لملايين المسلمين حول العالم، وعند التدقيق فيها نلاحظ كيف تغيرت وتطورت على مدار عقود، ففي السابق كانت أرض الوقفة الكبرى "عرفات" منطقة مفتوحة يتجمع فيها الحجاج دون تنظيم دقيق، يفترشون الأرض أو يتفيؤون ظلال الأشجار القليلة. وكان الوصول إليها شاقاً، والمساحات غير مجهزة بالمياه والمرافق الصحية. أما اليوم فقد تغير المشهد كلياً، فهي الآن مجهزة بالكامل ضمن تخطيط شامل يضم ساحات فسيحة منظمة لاستيعاب ملايين الحجاج وبرج مراقبة مركزياً لتنظيم الحشود ومنصات للخطب المترجمة لأكثر من 10 لغات ومناطق للضيافة والخدمات الطبية والطوارئ.
وفي محيط عرفات نشهد الآن طرقاً سريعة تربط بين منى ومزدلفة وعرفة لسهولة التفويج، وقطار المشاعر الذي تبلغ سرعته 80 كيلومتراً في الساعة، ليقطع المسافة بين منى وعرفات خلال قرابة 20 دقيقة، وبناء مستشفى طوارئ جديد في المشاعر المقدسة في 30 يوماً فقط بطاقة استيعابية تتجاوز 180 سريراً.
وفي موسم الحج الماضي، استخدمت الهيئة العامة للطرق طائرات مسيرة بهدف التأكد من سلامة وجودة الطرق المؤدية للمشاعر المقدسة. كما استخدمت التكنولوجيا الحديثة في طلاء الطرق ومسالك المشاعر المقدسة بهدف خفض درجة حرارة السطح بنحو 30 درجة مئوية.
ولأول مرة في موسم الحج لهذا العام، عملت المملكة على إدخال الطائرات المسيرة والطائرات العمودية ضمن منظومة الإمداد الطبي، حيث تعمل الطائرات من دون طيار على إيصال المستلزمات الطبية إلى نقاط محددة بدقة عالية، في حين تستخدم الطائرات العمودية في نقل الفرق الطبية والمعدات إلى مواقع يصعب الوصول إليها براً، لتقليص زمن الاستجابة وإنقاذ الأرواح.
وفي هذا الإطار، جرى الكشف عن طائرة من دون طيار مخصصة للإطفاء باسم "صقر"، معززة بالذكاء الاصطناعي، لاستخدامها في حالات الإطفاء والإنقاذ في الأماكن المرتفعة أو صعبة الوصول. تتمتع الطائرة بقدرة تشغيلية تمتد حتى 12 ساعة متواصلة، مع حمل معدات يصل وزنها إلى نحو 40 كيلوغراماً.
والطائرة مزودة بإمكانية البث المباشر للمواقع مع قابلية الربط اللحظي بمركز القيادة والتحكم، ما يتيح سرعة التعامل مع المستجدات وتقديم صورة دقيقة لصناع القرار ميدانياً.
تعكس هذه الخطوات المبتكرة تطور منظومة الحج واستثمار التقنيات الحديثة في خدمة ضيوف الرحمن وتحسين كفاءة إدارة الحشود خلال موسم الحج، فأمام التطور التقني وارتفاع سقف تطلعات الحجاج، تزداد ضرورة رفع مستوى جودة التجربة لضيوف الرحمن بجهود لا تكل ولا تمل من مختلف المؤسسات والجهات المعنية بالمملكة، وكذلك من قبل شركات القطاع الخاص التي تنظم رحلة الحج للمسجلين معها في مختلف دول العالم.
وفي ظل وفرة الخيارات وتعدد التجارب، يتزايد الاهتمام من قبل هذه القطاعات بتنمية وتطوير الابتكارات في العمليات أو الابتكارات التقنية والاجتماعية في سبيل تذليل المصاعب أمام الحجاج. ولا تقف رحلة الابتكار في الحج أمام خط السير الأول لبدء الرحلة من قبل الشركات المنظمة لرحلات الحجاج، بل هي تجربة متكاملة غنية بالحكايات التي يكون الحاج جزءاً حياً منها، كما أنها لا تخلو من بعض التحديات.
الابتكار في رحلة ضيوف الرحمن
بما أن الحج تجربة متسلسلة المراحل يمر بها الحاج، فسأتطرق هنا لأحد المفاهيم التي نمت خلال السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ عام 2010: "تجربة العميل". فلم يعد يكفي أن تقدم الجهات والشركات منتجات وخدمات بجودة عالية، بل أصبح من الضروري توفير تجربة جيدة وفريدة تجعل الشركات سباقة في مجالها في سوق شديدة التنافسية. وهنا في نموذج الحج لا يعد الحاج عميلاً عادياً تحرص الجهات على خدمته وفق أعلى معايير الجودة وبأفضل سبل الراحة وتهتم لتذليل أي عقبات قد تصادفه برحلته، بل "ضيفاً" لا بد من إضفاء تسهيلات وقيم مضافة أكثر لتجربته الروحية العظيمة. ويتمثل مفهومنا للضيف بالشخص الذي يجب إكرامه وإنزاله منزلته والتأكد من راحته طوال فترة نزوله، فأولئك الذين تخدمهم الجهات هم "ضيوف الرحمن" الذين جاؤوا ملبين النداء ساعين لأداء فريضة الحج، فكان لزاماً ضرورة التأكد من أن تجربتهم تسير وفقاً لأفضل السبل وبأحسن المعايير، ويجري تحسينها دورياً متناولة كل جديد يحيط بهذا العالم من التقنيات والمنتجات والخدمات، ليحظى ضيوف الرحمن بأمثل التجارب وأكملها.
في خضم تناولنا لتسلسل الرحلة لضيوف الرحمن، نجد أن ما ندعوه بـ "نقاط التلامس مع الضيف" تبدأ حتى قبل وصولهم إلى مكة لأداء المناسك، فبدءاً من وجودهم في بلدانهم، ومبادرة "طريق مكة" التي تتيح للحجاج إنهاء الإجراءات الرسمية جميعها داخل مطارات بلدانهم، تتشكل هذه النقاط التي يتقاطع بها الحاج تقاطعاً مباشر مع التجربة، وتتعاقب الرحلة بدءاً من رسائل التوعية التي قد تصلهم من شتى المصادر بلغات مختلفة وآلية التواصل مع الجهات المعنية في سبيل الحصول على تصريح الحج وآلية اختيارهم للشركة التي سيخوضون الرحلة معها، ومروراً بكل الفصول المباشرة في رحلة الحج بمكة المكرمة، وانتهاء بما يلي هذه الرحلة من التحلل والذبح وختام الرحلة والخدمات اللاحقة والعودة إلى الديار.
من هنا نجد أن خط الابتكار لا يلمس جزءاً ضيقاً في تجربة الحج، بل يوظف على نطاق واسع المدى ومتعدد الوجهات والسبل، فقد يصنع رائد الأعمال ابتكاراته النوعية في الخدمات التقنية لتوعية الحاج، أو يسهم ابتكار في صناعة الأثر الحقيقي من خلال الابتكار في العمليات التي ستقلل من تعقيد الخطوات التي يمر بها الحاج في سبيل الوصول إلى معلومة أو خدمة أو منتج، وقد تكمن الفرصة أيضاً في جزئية وجودهم في الحج وبمكة من رحلة تبدأ بالنية وتمر بالميقات وطواف القدوم والسعي بين الصفا والمروة ثم المبيت في منى والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والتوجه إلى منى لرمي جمرة العقبة ثم ذبح الهدي والحلق أو التقصير وطواف الإفاضة ورمي الجمرات وطواف الوداع.
وقد تتخلل آخر خطوات رحلتهم ابتكاراً يسهم في ذبح الأضاحي وفق الطرق السليمة، وابتكاراً يعزز الانتماء والأثر لما بعد عودة ضيوف الرحمن إلى ديارهم، وابتكاراً يسهم في تعزيز التجربة في السياحة الثقافية الدينية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأهم الخدمات التي تقدم إلى الحجاج لإثراء تجربتهم الغنية أكثر. ولهذا نماذج حية غنية نراها متواترة كل عام تواكب كل جديد وتهتم بضيوف الرحمن بفضل الجهود المكثفة من وزارة الحج والعمرة بالمملكة.
حلول مستدامة لخدمة الحجاج
في شهر رمضان من عام 2019، أطلق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود برنامج خدمة ضيوف الرحمن ليسهم في نقلة نوعية جديدة في خدمة الملايين من ضيوف الرحمن من جميع بقاع العالم، عبر تحليل دقيق لجميع نقاط رحلة الضيف منذ أن تبزغ فكرة زيارته للبقاع المقدسة، وحتى عودته إلى بلاده بانطباع جيد. عمل البرنامج بالتعاون مع عدد كبير من الهيئات الحكومية والقطاع الخاص والقطاع غير الربحي ليضمن تمتع ضيوف الرحمن بتجربة ثرية ومتكاملة من خلال تسيير وتسهيل أداء المناسك، وذلك في إطار تحقيق هدف رؤية السعودية 2030 لتمكين أكبر عدد من المسلمين من أداء فريضة الحج ومناسك العمرة.
وإحدى سبل هذه الابتكارات أيضاً التي تقدمها وزارة الحج والعمرة "تحدي الحلول المستدامة لضيوف الرحمن"، الذي انطلق عام 2023 بمدينة جدة ضمن فعاليات مؤتمر الحج والعمرة، والذي يوفر منصة لرواد الأعمال والمبتكرين لتنفيذ حلولهم المبتكرة لمعالجة التحديات التي يواجهها الحجاج والمعتمرون، مع التركيز على تحديات النقل والمعيشة والضيافة والمحتوى والبناء ومجالات أخرى متعددة. ويهدف التحدي إلى تعزيز الأفكار العملية والمؤثرة لرحلة حج أو عمرة أكثر سلاسة وإثراء وإلى إنشاء حلول مستدامة لذوي الحاجة. وكانت نسخته الأولى بمشاركة أكثر من 200 شركة ناشئة وأكثر من 300 فكرة من 25 دولة حول العالم.
ويتجلى أثر مثل هذه التحديات التي يشارك فيها الجميع من مختلف الفئات والثقافات حول العالم في تشجيع الإبداع والابتكار لدى الشباب والمطورين مع التركيز على الاستدامة، وتقديم حلول جديدة لتطوير خدمات الحج والعمرة وتحسينها، وكذلك الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة والناشئة في تعزيز قطاع الحج والعمرة، ولا يتوقف الأثر هنا، إذ تتخذ خطوات مستدامة لبناء وتأسيس شركات ناشئة تسهم في تطوير خدمات الحج والعمرة وتحسينها، وفي تنمية اقتصاد وطني قائم على المعرفة.
وفي ظل مشاركتي مؤخراً، بصفتي مستشارة للابتكار، في "تحدي الحلول المستدامة لضيوف الرحمن" مع وزارة الحج والعمرة، ألهمني الهدف المشترك الذي يجمع الجهات والشركات الناشئة ورواد الأعمال والفرق المتنوعة ثقافياً من مختلف دول العالم، كما ألهمني تعاونهم في سبيل خلق تجربة أفضل لضيوف الرحمن سواء كانت في جزئيات (ما قبل التجربة - في أثناء التجربة - بعد التجربة) متناولين جميع نقاط الألم التي عايشوها من تجاربهم، وعرض الحلول وتحسينها وفقاً لما تقتضيه الحاجة، وبلورة الأفكار والابتكارات والتقنيات لتتوافق مع التطلعات وتتناسب مع الواقع الحالي، فثمة ابتكارات عديدة تبنى بأفضل الحلول التقنية وتضخ لها ميزانيات ضخمة وتعمل عليها فرق متميزة، لكن مصيرها يكون الفشل لأنها لم تختر منذ البداية فئتها المستهدفة الحقيقية، ولم تدرس الاحتياج الحقيقي لهذا الابتكار، وهل كان فعلاً يشكل تحدياً أو مشكلة أو نقطة ألم حقيقية.
وهنا لمست قيمة "تحدي الحلول المستدامة"، إذ يضمن أن تبنى الأفكار وتوجه الابتكارات نحو ما يلمس الأثر الفعلي ويصب أخيراً في إثراء تجربة ضيوف الرحمن بمراحلها كافة. لذا يجب على المبتكرين ورواد الأعمال اختيار تحدياتهم ومشاكلهم بعناية، ومن المهم استشارة المتخصصين، وإن بدا ذلك مكلفاً بالبداية فإن الفشل المبكر للأفكار الخطأ هو ربح مؤجل.
وفي ظل الابتكارات التي نجدها تتنامى مؤخراً، والاهتمام المتزايد بتحسين تجربة العملاء وتطويرها، أجد أن إحدى أهم تجارب العملاء نراها اليوم في موسم الحج وكذلك في العمرة لرفع مستوى رضا ضيوف الرحمن، وهذا من أهم الركائز التي كانت وما زالت تعنى بها المملكة العربية السعودية ورؤيتها على مدى عقود.