نحن نعيش في مرحلة يغلب عليها الطابع الرجعي؛ إذ يشعر العديد من الممولين والمنظمين بأن التقدم نحو تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية، الذي كان يبدو ثابتاً على الرغم من صعوبته، بات اليوم أشبه بتوقف مفاجئ في منتصف الطريق وبمحاولة يائسة لمنع التراجع إلى الوراء. في ظل الأزمات المتتالية والقرارات والإجراءات القاسية، قد يصبح فقدان الأمل أمراً طبيعياً. ولكن من المهم ألا ننشغل بالتحديات القصيرة المدى بحيث نغفل عن رسالتنا والأهداف التي نعمل على تحقيقها على المدى الطويل.
بصفتي المديرة التنفيذية لمعهد الاقتصاد العادل، وهو برنامج زمالة وشبكة تجمع الممولين والمنظمين المجتمعيين ورواد الأعمال الاجتماعيين، فإنني أتمكن من الاطلاع على ما يحدث على أرض الواقع. كما ألاحظ تزايد المجتمعات التي تعمل على ابتكار المبادرات التي تحدث تحولاً في تدفق رأس المال وتوزيع السلطة ودعمها بطرق مهمة وملموسة. يتطلب الأمر بذل الكثير من الجهود، ولا يزال الناس يواصلون العمل بوعي كامل يالواقع والتحديات الحالية وباهتمام وتركيز على بناء مستقبل أفضل.
لفهم هذه الفرص والإجراءات بطريقة أفضل، تحدثت إلى شخصيتين مؤثرتين في مجال التمويل حول ملاحظاتهما والإجراءات التي تتخذانها لتعزيز العدالة الاقتصادية في الوقت الراهن، وهما الرئيسة التنفيذية لمؤسسة كاتالي فاونديشن، نواماكا أغبو، ومؤسِّسة مبادرة بوسطن إمباكت والمؤسِّسة المشاركة لصندوق أنلوك أونرشيب فاند، ديبورا فريز.
هل نبذل الجهود الكافية؟
نيلسون: تحدث البعض عن أن الناس لا يبذلون جهوداً كبيرة وكافية في الوقت الحاضر، ولكنني أرى العكس تماماً؛ إذ ألاحظ أن الأفراد والمجتمعات يعملون على تصفية استثماراتهم والانسحاب من الاقتصاد الاستخراجي، والاستثمار في الاقتصادات التجديدية. ما هو رأيكما؟
فريز: أعتقد أن الناس يعملون بطريقة فعالة ويتكاتفون ويشكلون تحالفات في الوقت الذي نحتاج فيه إلى التعاون فيما بيننا أكثر من أي وقت مضى. ومن الأمثلة على ذلك الإجراءات التي تتخذها مؤسسة فريدوم إيكونومي، وهي تحالف يضم المستثمرين والاختصاصيين القانونيين، لمساعدة المستثمرين المؤثرين على التعامل مع البيئة الحالية، بالإضافة إلى الجهود التي تبذلها خبيرة التمويل الاجتماعي أوني باتون باور من خلال مبادرة التمويل الابتكاري، التي تسعى إلى إعادة تصور كيفية تصميم رأس المال وتوظيفه وقياس أثره على الصعيدين المحلي والدولي. في كثير من الأحيان، لا يشارك العاملون في المجال المالي خبراتهم أو معرفتهم بسهولة مع الآخرين، ولكن ضمن هذه التحالفات يختلف الوضع تماماً؛ إذ يشارك الأفراد المعلومات والخبرات التي يمتلكونها بشفافية وسخاء.
استضافت مبادرة بوسطن إمباكت اجتماعاً لخريجي دفعتنا مؤخراً، تضمن جلسة مع المحامين للحديث عن كيفية التعامل مع الاستثمار في العدالة العرقية في الوقت الحالي. وقد أثار إعجابي حديثهم عن أهمية البدء بتقييم القدرة على تحمل المخاطر. إذا كنت تعمل ضمن مؤسسة ذات قدرة محدودة على تحمل المخاطر على سبيل المثال، إذا كانت تمتلك أصولاً وقدرات محدودة، فمن المنطقي اتباع نهج دفاعي ومتحفظ. أما إذا كانت مؤسستك تتمتع بقدرة عالية على تحمل المخاطر، فيجب عليك التفكير في اتخاذ زمام المبادرة واتخاذ إجراءات فعالة. ركز جهودك على تعزيز العدالة والمساواة في العالم. من وجهة نظري، يشمل ذلك معظم المؤسسات والصناديق الاستشارية للمانحين. يجب على أي شخص حصل بالفعل على إعفاء ضريبي أن يتخذ زمام المبادرة ويؤدي دوراً فعالاً في مواجهة التحديات.
أغبو: أولاً، يجب أن ندرك أن ما نشهده حالياً هو فوضى مصطنعة تهدف إلى استنزاف وقتنا وطاقتنا وتشتيت انتباهنا عن أهدافنا الأساسية. تحمل الانتقادات الموجهة إلينا حول عدم بذل جهود كافية في طياتها توقعاً بضرورة تفاعلنا المباشر مع السياسات أو القرارات أو الأحداث التي تجري في العاصمة واشنطن.
أدعو الجميع إلى الابتعاد عن التركيز المفرط على الرسائل الصادرة من الحكومة، والتفكير بدلاً منها فيما يمكننا تقديمه وفي رسالتنا ورؤيتنا التي نحاول التعبير عنها، بالإضافة إلى التفكير في كيفية دعم المجتمعات وتوفير الموارد اللازمة وكيف نعيد تزويد المجتمعات بالموارد اللازمة للبناء والتطوير خارج نطاق ما يصدر من الحكومة في واشنطن.
يتمثل نهجنا في مؤسسة كاتالي في البقاء على المسار الصحيح ومواصلة عملنا بجدية. للأسف، لاحظنا أن بعض شركائنا في مجال الأعمال الخيرية يمارسون ما يسمى "الامتثال المسبق". بدأت بعض الجهات الممولة بتغيير خطابها بطريقة استباقية لإبعاد نفسها عن الجهود المرتبطة بالتنوع والمساواة والشمول. لذلك، نقول إن التهرب أو الانسحاب لن يفيد، فالتضامن الحقيقي والعميق هو السبيل لحماية أنفسنا وحماية الآخرين.
نحن ندرك ضرورة توفير مزيد من الموارد لدعم سلامة شركائنا المستفيدين وأمنهم. نفضل عدم التحدث كثيراً عن إحباطنا من الحكومة لأنهم في الحقيقة لا يبدون أي اهتمام. فهم لا يلتزمون بالقانون، ولا يهتمون بمدى الضرر الذي يلحقونه بأي مجتمع. نحن نولي اهتماماً أكبر بكيفية تعزيز التضامن مع زملائنا في مجال العمل الخيري الملتزمين بتوجيه تدفق رؤوس الأموال لدعم الحركات الاجتماعية.
أرى أن العديد من الأشخاص سيظهرون قدرتهم على تحمل المسؤولية ومواجهة هذا التحدي. وأعتقد أن الذين سيواجهون صعوبة هم الذين يتصرفون من منطلق الخوف أو الارتباط العميق بأنظمة القمع مثل النظام الأبوي والرأسمالية والتمييز العرقي، وغيرها من الأمور المشابهة. كما أعتقد أن الذين يركزون على التواصل الإنساني وبناء العلاقات العميقة وتعزيز التكافل سيحققون نجاحاً باهراً. سيساعدنا التكاتف وتضافر الجهود، سواء من الناحية المادية أم العاطفية أم الروحية، خلال هذه المرحلة على تجاوز التحديات.
الإجراءات الفعالة
نيلسون: ما هي الأساليب التي تحقق نجاحاً فعلياً في المجتمعات؟ وهل يوجد نهج معين تعتقدان أنه واعد ويحمل إمكانات كبيرة للنجاح؟
أغبو: لقد اكتشفنا أن المشاريع أو المبادرات التي تعتمد على الأرض بوصفها مورداً أساسياً لتحقيق أهدافها، لا سيما في هذه المرحلة، قادرة على دعم المجتمعات؛ إذ يتيح توفر الأرض تأمين المأوى والسكن والغذاء وتوفير أماكن الحماية واللجوء للأفراد.
نحن ندعم أيضاً عدداً من مؤسسات العدالة المناخية التي تعمل على إنشاء مبادرات تديرها المجتمعات للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة والتفكير بطريقة إبداعية في كيفية تعزيز قدرة المجتمعات على تأمين الحماية والرعاية المتبادلة في حالات الكوارث المناخية. وقد كانت هذه الجهود مؤثرة ومثيرة جداً.
يتبادر إلى ذهني أيضاً الجهد الذي تبذله كوندا ماسون في مؤسسة جوبيلي جاستيس، التي تساعد مزارعي الأرز من ذوي البشرة الداكنة على العودة إلى ممارساتهم الزراعية التقليدية وتعزيز علاقتهم بالأرض من خلال استخدام نموذج تعاوني لإنتاج الأرز وطحنه. ثمة العديد من الجهود العظيمة التي تستحق الدعم لأنها تساعدنا على تحقيق الاستدامة.
فريز: في الوقت الراهن، أعتقد أن النهج الأكثر إقناعاً يرتكز على قيم الديمقراطية الاقتصادية، التي تدعو إلى توزيع الملكية والسلطة الاقتصادية وعدم حصرها في أيدي عدد قليل من الأشخاص. وهذا يعني أن ثمة جهود تهدف إلى إعادة تنظيم أماكن العمل بحيث يكون للقوى العاملة نصيب أكبر في الملكية ودور أكبر في الحوكمة. تركز الجهود على إعادة هيكلة ملكية المنازل والعقارات التجارية والأراضي وطرق الإشراف عليها بحيث يتمكن سكان تلك الأماكن ومالكوها من تحقيق الثروة والمساهمة في وضع خطط التنمية.
من وجهة نظر استثمارية، قد يتجلى هذا الأمر في الاستثمار في الجمعيات التعاونية المملوكة للعمال والصناديق الائمانية ذات الغرض الدائم وصناديق الأراضي المجتمعية وصناديق الأحياء ذات الدخل المختلط، وهو بالضبط ما نهدف إلى تحقيقه في صندوق أنلوك أونرشيب فاند.
التحرر من حالة الركود
نيلسون: أعلم أنكما تواجهان التحديات بثبات، ولكن كيف تغيرت رؤيتكما حول الفرص المتعلقة بتحقيق العدالة الاقتصادية؟
فريز: خلال احتجاجات جورج فلويد في عام 2020، كنا نستضيف أول مجموعة من صناديق الاستثمار المجتمعية التابعة لمبادرة بوسطن إمباكت التي تركز على سد فجوة الثروة بين الأعراق في المجتمعات المحلية. وفجأة، حظيت جهود هذه الصناديق بدعم واسع شمل تقديم منح أولية وتعهدات استثمارية. تساءلنا جميعاً عن النتيجة النهائية لهذا الدعم؛ رأى المتفائلون أن هذه هي اللحظة الحاسمة التي ستشهد فيها الولايات المتحدة تغييراً حقيقياً، في حين اعتقد المتشائمون أنها مرحلة مؤقتة ويجب الاستفادة من الفرصة المتاحة حالياً بسرعة.
للأسف، بدا أن وجهة نظر المتشائمين صحيحة، فقد كان هناك الكثير من الوعود والتصريحات الرنانة عن الالتزام بتحقيق العدالة العرقية والاقتصادية، ولكن لم يتحول ذلك إلى أفعال ملموسة. ولكن المهم هو أن الجانب المظلم من النظام الاقتصادي الأميركي أصبح مكشوفاً وواضحاً للجميع، فهو نظام متطرف وظالم؛ إذ إنه لا يخدم الغالبية العظمى من الأميركيين، والآن يجب علينا اتخاذ القرار المناسب؛ يجب أن نثبت أننا نهتم بمصالحنا المتبادلة، وإذا كان الأمر كذلك بالفعل، فيجب علينا أن نصمم نظاماً اقتصادياً مختلفاً يشملنا جميعاً ويضمن المساواة. والخبر السار هو وجود نماذج وأمثلة مذهلة توضح كيفية تحقيق ذلك في العديد من المجتمعات في أنحاء هذا البلد كافة.
أغبو: يتمثل جزء مما نشهده، في الولايات المتحدة على الأقل، على الرغم من أنني أعتقد أن الأمر مشابه في الأنظمة الاستبدادية حول العالم، في تحويل الحكومة الفيدرالية إلى وسيلة لسحب الثروات من المجتمعات ومعظم دافعي الضرائب وتحويلها إلى جيوب الأفراد والشركات الخاصة من خلال عقود وصفقات مشبوهة وغير أخلاقية بصورة صارخة. قد يكون التفكير في المخاطر التي تواجه بلدنا والعالم محبطاً جداً، لا سيما عندما ندرك الآثار الحقيقية والملموسة التي تطال الفئات السكانية الضعيفة.
ولكن بدلاً من الاستسلام لشعور اليأس والإحباط، أدعو الجميع إلى الاستفادة من هذه المرحلة بوصفها فرصة للتفكير بعقلانية وعمق في الإمكانات المستقبلية وما يمكن تحقيقه. إذا لم يكن القطاع العام يقدم لنا الدعم اللازم الذي يجب أن يقدمه أو الذي وعدنا بأنه سيقدمه، فما هي الفرص المتاحة التي يمكن استثمارها للتكاتف والتعاون وتقديم الدعم المتبادل؟
أتذكر في هذا السياق جائحة كوفيد-19. اعتمد بعض المجتمعات على المساعدة المتبادلة منذ وقت طويل جداً، ولكن الجائحة كشفت عن اعتماد العديد من المجتمعات عليها ليس على نطاق واسع، ولكن بدرجة معينة. فقد لجأ الناس إلى جيرانهم للحصول على الغذاء ومستلزمات الوقاية الشخصية، وقد أنشأ بعض المستفيدين من منحنا صناديق لتقديم مبالغ نقدية للأشخاص الذين فقدوا وظائفهم.
والآن نتساءل عن كيفية إعادة تفعيل شبكات المساعدة المتبادلة تلك، بالإضافة إلى طريقة تعزيز الملكية المجتمعية وحوكمة الأصول لتوفير السكن والدعم المتبادل وطريقة توضيح رؤيتنا للعالم الذي نرغب فيه بغض النظر عن نتائج أي انتخابات.
ربما تمثل هذه اللحظة فرصة استثنائية لإعادة تنظيم الأمور بالكامل قبل أن تتدخل القوى المعارضة وتفرض القيود. يتطلب الأمر الانضباط والتركيز والدقة والاستعداد للبناء والإبداع، وأعتقد أن هذه الأزمة تحمل في طياتها فرصة حقيقية.