باتت ربّة المنزل الأردنية شادية أبو عيسى مطمئنة على ابنها حين يذهب برفقة أصدقائه إلى شارع مكة في عمّان، بعد أن كان ضمن أكثر الشوارع خطورة في العاصمة، إذ أقيمت على امتداده ثلاثة جسور للمشاة، وأحيط بسياج حديدي ليجبر المارة على استخدام هذه الجسور، وأمام بوابة مدرستيْ اليرموك والشونة الأساسيتين أقيم سياجاً لمنع اندفاع الطلاب في أثناء خروجهم من البوابة، وجعلِهم في دائرة انتباه السائقين، وقبل البوابات وضِعت مطبات لتجبر السيارات على التوقف، ولافتات مرورية تحدد السرعة عند 30 كم في الساعة.
تعتبر هذه المشاريع جزءاً من جهود مبادرة حكمت للسلامة المرورية لجعل الطرقات أكثر أماناً على مستوى المملكة الأردنية الهاشمية ككل، إذ تسعى مثل هذه المبادرات إلى المعالجة الجذرية لأسباب الحوادث المرورية والحد من عدد الإصابات والوفيات الناجمة عنها.
وبحسب بيانات منظمة الصحة العالمية، تتسبب حوادث المرور بوفاة نحو 1.3 مليون شخص سنوياً حول العالم، فيما يتعرض نحو 20 إلى 50 مليون شخص آخر لإصابات غير مميتة، وينتهي المطاف بالبعض إلى الإصابة بالعجز نتيجة هذه الحوادث، وعلى مستوى المنطقة العربية، كشفت إحصاءات الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب، أن عدد حوادث المرور في 12 دولة عربية بلغ 639,805 حادثاً مرورياً، أدى إلى وفاة 16,631 شخص.
وانعكاساً لهذا الواقع، أصبح فقدان أحد أفراد الأسرة جرّاء الحوادث المرورية القاسم المشترك بين شعوب الدول، وفيما يلي مبادرتين من الأردن وأخرى من تونس تثبتان ذلك.
حكمت للسلامة المرورية
من رحم الألم تولد الإنجازات، في 5 يناير/كانون الثاني عام 2008 تلقى رائد الأعمال الاجتماعي الأردني ماهر قدورة خبر وفاة ابنه حكمت عن عمر 17 عاماً بسبب حادث مروري، فقرر هو وزوجته رندة تخطي هذه الأزمة بمساعدة الآخرين لتفادي حوادث السير، وأطلق مبادرة حكمت للسلامة المرورية بعد فترة من الحادثة.
وجاءت المبادرة في إطار مؤسسة الجود التي أنشأها قدورة عام 2000 لتقديم الرعاية العلمية ومساعدة الشباب في تحقيق الاكتفاء المالي الذاتي، ومثّلت هذه المؤسسة أولى تجارب ماهر قدورة في توظيف خبرته بالقطاع الخاص لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها شباب الأردن، أسهمت معرفته بالاستشارات الإدارية في تعزيز قدرته على توسيع أثر المبادرة والتعاون مع أصحاب المصلحة لإحداث التغيير المستدام في نظام السلامة المرورية.
وأصبحت حكمت للسلامة المرورية من أوائل المبادرات التي تستهدف خفض معدلات الوفيات والإصابات جراء حوادث المرور في الأردن، خاصة بين فئات الأطفال والشباب، ونشر الوعي حول حوادث المرور والوقاية منها من أجل تغيير سلوكيات السائقين.
كان الارتكاز على البيانات أساس عمل المبادرة واستمراريتها، إذ اعتمد الفريق على إحصاءات إدارة السير المركزية لتحديد أخطر مواقع الحوادث المرورية والفئات الأكثر عرضة لها في الأردن، ثم البدء بتحسين البنية التحتية في هذه المناطق المزدحمة المحيطة بالمدارس، مثل وضع لافتات السلامة المرورية، وإنشاء مطبّات للحد من السرعة والقيادة المتهورة.
حققت المبادرة عدة إنجازات منذ انطلاقها وحتى عام 2020، إذ بدأت بتحسين البنية التحتية في أخطر 100 منطقة مدرسية، ثم توسعت لتشمل 265 منطقة من أكثر المناطق المدرسية عرضةً للحوادث، وكانت هذه المدارس تفتقر لوجود سياج يحمي الأطفال من المركبات، ومطبّات أو لافتات مرور تحث السائقين على التخفيف من سرعتهم، فضلاً عن تنظيم حملات توعية في المدارس حول قواعد السلامة المرورية.
وانتقلت المبادرة بعد ذلك من المناطق المدرسية الأكثر خطورة إلى الأحياء السكنية التي يتجمع فيها الأطفال للعب. وبفضل تبرعات المانحين الأفراد والشركات، واستخدام موارد عامة مثل شاحنات الشرطة لنقل مستلزمات البنية التحتية، تمكّن فريق عمل المبادرة من تحسين ملاعب في مختلف أنحاء الأردن لجعلها أكثر أماناً للأطفال.
وبعد التحسينات في المناطق المدرسية وملاعب الأطفال، ركّز فريق عمل المبادرة على تنظيم حملات توعية حول السلامة المرورية موجهة للأطفال والشباب، والتي لا تزال الفئة الأكثر تضرراً في الحوادث المرورية، إذ شكلت الفئة العمرية ما بين 18 و35 عاماً نسبة 47.5% من ضحايا حوادث السير، ومن أبرز هذه الحملات التي تطوع فيها الشباب للمساهمة في نشر التوعية:
- حملة سلامة الشباب: استمرت هذه الحملة على مدار عام 2017، وتعاونت فيها المبادرة مع نادي السيارات الملكي الأردني وشركة زين للاتصالات لتفعيل دور الشباب في السلامة المرورية، وانضم إلى الحملة 50 متطوعاً و800 مشارك، واستطاعت التأثير في حياة 1400 شخص، وفي إطار الحملة، استضافت زين فعاليات مقهى الشباب، وهي عبارة عن لقاءات شهرية للشباب يعرض خلالها فيديوهات عن السلامة المرورية ومحاضرات في الإسعافات الأولية وأساليب الوقاية من الحوادث وغيرها، ومن جانبه عمل نادي السيارات على تعليم الأطفال من عمر 7 حتى 12 عاماً كيفية عبور الشارع بأمان ضمن إطار حملة قف، أنظر، سلّم.
- حملة أنا ملتزم: استهدفت هذه الحملة تغيير نمط التعامل مع الشخص المخالف لقواعد المرور، واتباع أسلوب يجمع بين التوعية والردع في نفس الوقت، إذ عمل الشباب المتطوعون ومسؤولو إدارة السير المركزية على إيقاف السائقين المخالفين لقواعد المرور وتحرير مخالفات وهمية في حقهم كإجراء تنبيهي، وبالمقابل، منحوا السائقين الملتزمين بقوانين السير بطاقات تهنئة تشجيعاً على الاستمرار بالالتزام.
وضمن محور التعليم والتدريب، أبرمت مبادرة حكمت للسلامة المرورية اتفاقية تعاون مع الجامعة الألمانية الأردنية لتأسيس مركز التميز للسلامة المرورية؛ بهدف تنظيم ورش وجلسات توعية حول السلامة المرورية لمختلف أصحاب المصلحة، ويتعاون المركز أيضاً مع الجهات الحكومية لتحسين قوانين المرور وإنفاذها بفعّالية، فضلاً عن إدماج مفاهيم السلامة المرورية في المناهج الدراسية.
لم تكن بداية مسيرة مبادرة حكمت للسلامة المرورية سهلة بل واجهت عدة تحديات، تمثلت بجعل قضية السلامة المرورية أولوية وطنية، ثم كسب ثقة الرأي العام وتغيير السلوكيات المرتبطة بالسلامة على الطرقات، وعليه، منح اتحاد النقل الجوي الدولي (IATA) عام 2010 جائزة الإنجاز الخاص لمؤسسة حكمت للسلامة المرورية تقديراً لجهودها في نشر الوعي بقوانين السير وترسيخ مبادئ السلامة المرورية في الأردن.
جمعية سفراء السلامة المرورية
دفعت فاجعة ماهر قدورة بوفاة ابنه إلى تحويل معاناته إلى عمل إنساني مؤثّر، ونتيجة أقدار مماثلة أسست عفاف بن غنية جمعية سفراء السلامة المرورية في تونس عام 2013، إذ توفي شقيقها عن عمر 38 عاماً إثر حادثٍ مروري خلّف لديها معاناة كبيرة قررت تجاوزها من خلال التوعية بخطورة حوادث المرور والتنبيه لارتفاع عددها، وحث أصحاب القرار على إيجاد حلول لضمان السلامة على الطرقات.
واستطاعت الجمعية استقطاب عاملين ومتطوعين من مختلف مجالات الأعمال والتخصصات المهنية، وانضم إليها مشاهير في مجالات الإعلام والرياضة والفن للتوعية بمخاطر حوادث السير، والمشاركة في الحملات التي تنظمها الجمعية من أجل إيصال الصوت للمسؤولين والمواطنين.
وأطلقت الجمعية منذ إنشائها عدة حملات توعوية ناجحة، منها حملة حول مخاطر استعمال الهاتف المحمول في أثناء السياقة تحت شعار البرتابل (الهاتف المحمول) يوصل الصوت موش (ليس) للموت، نظمتها الجمعية عام 2019 لمدة شهرين وبالشراكة مع الشركة الإيطالية إيتال كار (ITALCAR) للمركبات الإلكترونية، وشركة نقل تونس (TRANSTU) للتأكيد أنّ استخدام الهاتف في أثناء السياقة ولو لبضع ثوانٍ يؤدي إلى الوفاة، وبحسب إحصاءات المرصد الوطني للمرور لعام 2021، تسبب السهو وعدم الانتباه بوفاة 118 شخصاً وإصابة 1200 آخرين.
بادرت سفراء السلامة المرورية أيضاً بحملة توعوية للتعريف بأهمية حزام الأمان في خفض من مخاطر الصدمة بنسبة 75% للمقاعد الخلفية و50% للمقاعد الأمامية، وكان لها دور في حث أصحاب القرار على تفعيل قانون إجبارية وضع حزام الأمان على السائق والراكب الأمامي للسيارة داخل المناطق السكنية وخارجها، والذي دخل حيز التطبيق يوم 27 أبريل/نيسان 2017، وطُبّق على راكبي المقاعد الخلفية ابتداءً من أبريل/نيسان 2018، وتوّجت جهود سفراء السلامة المرورية، في هذا الإطار، بالحصول على جائزة فيديكس للسلامة المرورية خلال الملتقى العالمي للسلامة المرورية المنعقد في أبريل/نيسان عام 2019 تقديراً لدورها في التأثير في السياسات الوطنية والرأي العام لضمان السلامة على الطرقات في تونس.
وفي أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2021، أعلنت منظمة الصحة العالمية، عن بدء تنفيذ خطة عِقد العمل من أجل السلامة على الطرق 2021-2030، الهادفة إلى الحد من عدد الوفيات والإصابات على الطرقات بمختلف دول العالم بنسبة لا تقل عن 50%، وفي هذا الإطار دعت مؤسِسة الجمعية، الجهات المعنية في تونس إلى الانخراط في صلب هذا البرنامج العالمي، بهدف تطوير الخطط والأهداف الوطنية والمحلية للحد من حوادث الطرقات في البلاد.
ختاماً، العاطفة يمكن أن تلهم الأشخاص، لكن العمل المنظّم يساعدهم في تحقيق هدفهم، إذ استطاع كلٍ من ماهر قدورة وعفاف بن غنية أن يصنعا من ألم الفقْد عملاً اجتماعياً مؤثراً، والتعويض عن الكلام بالفعل المستدام الذي يساهم في إنقاذ حياة العديد من الأشخاص.