عند طرح مشروع إنشاء خط أنابيب شرق إفريقيا للنفط الخام الذي يبدأ من أوغندا ماراً عبر تنزانيا، لجأ نشطاء حماية البيئة المحليين إلى بوابة الخرائط العالمية، أطلس الوقود الأحفوري (Fossil Fuel Atlas)، لتوضيح آثاره المحتملة. ولولا توفر هذه الخرائط، لبقيت تحذيرات المنظمات المحلية المدافعة عن البيئة مجرد فرضيات نظرية غامضة يصعب شرحها. ومع ذلك، تمكّنت هذه المنظمات معاً من إعداد خرائط تُظهر بوضوح الأضرار الفادحة التي ستلحق بأكبر بحيرة في إفريقيا، بحيرة فيكتوريا، جرّاء هذا المشروع الذي يجتاز منطقة نشطة زلزالياً وينتهك اتفاقية رامسار الدولية للأراضي الرطبة (Ramsar Convention on Wetlands). وقد عززت هذه الخرائط المصوّرة موقف الحركة المناهضة للمشروع، وساعدت على دق ناقوس الخطر لدى المستثمرين الدوليين والمجموعات المحلية وصنَّاع السياسات.
في الوقت نفسه، يعمل مركز الطاقة والبيئة والتنمية (CEED) في الفلبين على حماية مثلث الشعاب المرجانية (Coral Triangle) الذي يمثل منطقة غنية بالتنوع البيولوجي البحري تُعرف باسم "أمازون البحار"؛ إذ تتعرض هذه المنطقة للتلوث النفطي الناتج عن تسرُّب النفط من آبار البترول المتهالكة وحوادث غرق ناقلات النفط وإفراغ المياه الملوثة بالزيوت والشحوم في عرض البحر، وهو تلوّث يصعب رصده في المياه الدولية الشاسعة دون الاعتماد على تكنولوجيات متطورة للمراقبة.
وقد أبرم مركز الطاقة والبيئة والتنمية شراكة مع منظمة إيرث إنسايت (Earth Insight) ومنصة سيرولين (Cerulean) التابعة لمنظمة سكاي تروث (SkyTruth)، وهي أداة مدعومة بالذكاء الاصطناعي ترصد التلوث النفطي البحري، لتحليل مخاطر التوسع في استغلال الوقود الأحفوري في المنطقة، حيث تتداخل 16% من أصل أكثر من 600 منطقة بحرية محمية مع مناطق امتياز التنقيب عن النفط والغاز، معظمها في مرحلة الاستكشاف. وأثبتت نتائج التحليل أن ازدياد حركة ناقلات النفط وارتفاع احتمالات التسرّب النفطي قد يُلحقان أضراراً فادحة بالحياة البحرية والمجتمعات الساحلية، ما يعزز الجهود المستمرة لمناهضة التوسُّع في مشاريع النفط والغاز.
يوضح هذا الرسم البياني مناطق امتياز التنقيب عن النفط والغاز في مثلث الشعاب المرجانية؛ إذ تشير الأجزاء المُظلّلة باللون البرتقالي إلى المناطق التي دخلت مرحلة الإنتاج، بينما تشير الأجزاء المخطَّطة إلى المناطق التي لا تزال في مرحلة الاستكشاف، في حين تشير الأجزاء الرمادية إلى مناطق لم تكن حالتها معروفة حتى وقت نشر هذا المقال.
ومن الجدير بالذكر أن قطاع الوقود الأحفوري شهد طيلة عقود من الزمن ضخ أموال طائلة للوصول إلى أحدث تكنولوجيات المعلومات، واستعان بجيوش من جماعات الضغط وشركات العلاقات العامة والاستشارات الإدارية والمحامين، ما منحها ميزة كبيرة على الحركة البيئية (وهو ما يتجلّى بوضوح في حملة التضليل الإعلامي الممتدة لعقود بشأن العمل المناخي). لكننا نشهد اليوم ظهور حركة صاعدة من مزوّدي البيانات والتكنولوجيا تُسرّع وتيرة تعزيز جهود العمل المناخي، وتُسهم في محاسبة الجهات المسؤولة عن التلوث البيئي، وتميط اللثام عن مشكلات بيئية كانت خفية في السابق، وتجعل معالجتها ممكنة وفعّالة.
وعلى عكس البيانات الحصرية التي يحتكرها قطاع الوقود الأحفوري، فإن هذه المعلومات، بدءاً من التسرب النفطي وصولاً إلى انبعاثات غاز الميثان، متاحة مجاناً، وتُقدَّم مع إرشادات حول كيفية استخدامها لتحقيق أكبر أثر ممكن. لن تمتلك الحركة البيئية يوماً رأس المال الذي يملكه قطاع الوقود الأحفوري، لكن التطورات الهائلة في قدرات رصد أنشطة النفط والغاز عبر الأقمار الصناعية وأنظمة الذكاء الاصطناعي، إلى جانب الاستثمارات الخيرية وتطور أدوات جمع البيانات وتحليلها، أدت إلى رفع مستويات الشفافية بمعدلات غير مسبوقة وتقليص التفوق التكنولوجي والمعلوماتي الذي يتمتع به هذا القطاع تدريجياً.
الكشف عن التلوث الخفي
كان الخبراء يرصدون التسربات النفطية في المحيطات يدوياً، وكان كشف تسرّب نفطي واحد يستغرق أياماً، وربما أسابيع. أمّا اليوم، فأصبح الكشف عن التسربات النفطية الناتجة عن أنشطة النفط والغاز في عرض البحر شبه لحظي. على سبيل المثال، تعمل منظمة غلوبال فيشنغ ووتش (GFW) على رسم خرائط لمختلف الأنشطة البشرية في البحار، ومن بينها البنية التحتية النفطية البحرية وناقلات النفط، ما يتيح لمستخدمي منصة سيرولين التابعة لمنظمة سكاي تروث تحديد مصادر التسربات بسرعة باستخدام بيانات المنظمة. وتستخدم المنظمات المدافعة عن البيئة، مثل أوشيانا (Oceana)، هذه الأدوات لجمع البيانات وتعزيز جهودها القانونية والتوعوية لتسليط الضوء على المخاطر المرتبطة بالتوسع في مشاريع النفط والغاز.
وبالمثل، على الرغم من مسؤولية غاز الميثان بنسبة تبلغ نحو 30% عن ارتفاع درجات الحرارة على مستوى العالم، فهو غاز عديم اللون والرائحة، ويصعب رصده إلى حدٍّ كبير. لكن الأقمار الصناعية التي أُطلِقت مؤخراً ضمن مشروعي كاربون مابر (Carbon Mapper) وميثان سات (MethaneSAT) بدأت تكشف عن تسربات غاز الميثان الخفية من عمليات النفط والغاز حول العالم، حيث ترصد مصادر الانبعاثات الفائقة المسؤولة عن حصة كبيرة من الانبعاثات العالمية، كما كشفت بيانات مبادرة ميثان أير (MethaneAIR) لجمع البيانات عبر الطائرات عن تناقض صارخ مع ادعاءات قطاع الوقود الأحفوري بشأن إحكام السيطرة على انبعاثات الميثان أو تقليصها بدرجة كبيرة.
تحويل البيانات والتكنولوجيا إلى أدوات فعّالة لصناعة القرار
لا شك في أن البيانات والتكنولوجيا وحدهما لا تكفيان لإحداث أثر ملموس. ولتحقيق أقصى استفادة منهما، بدأ مزوّدو البيانات والتكنولوجيا إعادة توجيه جهودهم نحو التوعية وبناء القدرات وإقامة الشراكات لدعم نشطاء حماية البيئة، لا سيّما في المجتمعات الأكثر تأثراً بأضرار أنشطة النفط والغاز. وغالباً ما تكون هذه المجتمعات منخفضة الدخل ومهمّشة، وتتحمّل عبئاً مزدوجاً يتمثل في أنها أكثر الأطراف تضرّراً من التدهور البيئي وأقلها قدرة على الوصول إلى الموارد التي تمكّنها من مقاومة هذا التدهور.
تبدأ إتاحة هذه الموارد بضمان التواصل مع نشطاء حماية البيئة في المجتمعات الأكثر عرضة للتأثُّر بالأضرار البيئية، لا بد أيضاً من التواصل مع المنظمات المجتمعية وإبرام شراكات معها، خاصة أن أغلبيتها تفتقر إلى المعرفة بالأدوات والبيانات المتاحة لدعم جهودها. ومن هنا لا بدّ أن يبادر مزوّدو البيانات والتكنولوجيا إلى التواصل مع المجتمعات الأكثر تضرراً، ويضمنوا إتاحة الأدوات وسهولة استخدامها وتوفيرها بأشكال تلبي مختلف الاحتياجات. قد ينطوي ذلك على تصميم منصات تعتمد في المقام الأول على استخدام الأجهزة المحمولة أو تقديم الدعم بلغات متعددة أو إعادة تصميم واجهات المستخدم لتتلاءم مع ضعف الوصول إلى الإنترنت، وكلها خطوات تسهم في خفض الحواجز التي تحول دون الوصول إلى البيانات وتعزيز أصوات الفئات الأكثر تضرّراً.
قد يتعذَّر فهم البيانات حتى عند إتاحتها؛ فعلى مدى عقود، ظلت المعلومات المتعلقة بأنشطة النفط والغاز حبيسة ملفات تنظيمية وتقييمات بيئية وتقارير فنية. وغالباً ما يتطلب تحويل هذه البيانات إلى رؤى عملية دعماً مباشراً من خبراء متمرسين. وتستفيد الحملات البيئية ونشطاء حماية البيئة المستقلون من الدعم المباشر لفهم البيانات المعقدة وترجمتها بدقة إلى إجراءات هادفة، لكن يجب أن يراعي هذا الدعم الحساسيات الثقافية وخصوصية كل مجتمع، مع احترام المعارف والخبرات المحلية؛ إذ توفر التجارب الحياتية سياقاً ضرورياً لفهم البيانات، وهي رؤى تعجز الأقمار الصناعية والخوارزميات عن رصدها بالكامل، كما يُشكّل تحويل البيانات إلى قصص مقنعة خطوة محورية في تحفيز الأطراف المعنية على اتخاذ إجراءات ملموسة؛ فالإحصاءات المجردة والخرائط نادراً ما تخلق الحافز للتغيير، لكن عندما تُترجم إلى قصص مرئية جذابة بالتعاون مع الصحفيين والمسؤولين عن التواصل وقادة المجتمع، فإنها تكتسب قوة قادرة على تحفيز الأطراف المعنية على اتخاذ إجراءات ملموسة.
يسهم الاستثمار في البيانات والأدوات المجانية المفتوحة الوصول، إلى جانب تعزيز التوافق التشغيلي بينها، في تمكين نشطاء حماية البيئة من الربط بين مختلف أنواع البيانات بسهولة، مثل صور الأقمار الصناعية ورصد تسربات غاز الميثان واكتشاف التسرب النفطي، لصياغة رؤية شاملة حول آثار أنشطة النفط والغاز الواسعة النطاق.
أخيراً، يتيح نشر هذه التكنولوجيات فرصة لإعادة توزيع موازين القوة لصالح المجتمعات المتضررة، لكن تطوير الأدوات بمعزل عن هذه المجتمعات أو ضمن دوائر تكنولوجية مغلقة قد يُفضي دون قصد إلى تكرار الأنماط الضارة ذاتها التي نسعى إلى محاسبة القطاعات عليها. أما التشاور الفعلي مع المجتمعات المتضررة، إلى جانب الشراكات التي تحترم الخبرات المحلية، فهو ما يضمن قدرة هذه الأدوات فعلياً على تمكين الأطراف الأكثر تأثراً بالأضرار البيئية.
التحديات والتوجهات المستقبلية
بينما تمضي إدارة ترامب بقوة في التراجع عن إجراءات الحماية البيئية، من المتوقع أن يصل إنتاج الوقود الأحفوري إلى أكثر من ضعف الكمية المسموح بها للحد من الاحتباس الحراري العالمي بحيث لا يتجاوز ارتفاع درجة حرارة الأرض 1.5 درجة مئوية بحلول عام 2030، لكن زخم العمل المناخي يحتل مكانة يصعب زعزعزتها، ما يعني أن الحركة البيئية ستكون بحاجة إلى أدوات دقيقة ومجانية لرصد الأضرار الناتجة عن قطاع الوقود الأحفوري ومعالجتها. وعلى المؤسسات الخيرية البيئية ذات الموارد الوفيرة والمنظمات غير الحكومية وخبراء التكنولوجيا إعطاء الأولوية للاستثمار في البيانات والتكنولوجيات المجانية المتاحة للجميع وتمكين نشطاء حماية البيئة من الوصول إليها واستخدامها، فهم في أمسّ الحاجة إليها، عليهم أيضاً الاستثمار في الخبرات اللازمة لتفسير البيانات بدقة وتحويل هذه الموارد إلى أدوات قابلة للاستخدام ضمن الأطر القانونية والتنظيمية واستراتيجيات الدفاع عن البيئة.
وبزيادة فرص الوصول إلى المعلومات المحورية، نُسهم في تحقيق تكافؤ الفرص وتمكين المجتمعات من التحكم بمستقبلها. وفي هذا المنعطف الحاسم، ينبغي أن نستخدم مختلف الموارد المتاحة للبقاء يقظين ومصارحة أصحاب النفوذ بالحقيقة ومحاسبة الجهات المسؤولة عن التلوث البيئي.