هل يمكن للإنترنت إحياء اللغات المحلية؟

اللغات المحلية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يهيمن جزء بسيط من لغات العالم؛ البالغ عددها 7,000 لغة، على الإنترنت، إذ تتطلب المشاركة في العالم الرقمي أن يكون لدى المستخدمين فهم أساسي للغة الإنجليزية أو الصينية أو الإسبانية أو إحدى اللغات الأخرى المستخدمة عموماً للتواصل على نطاق العالم. ولكن ماذا عن اللغات المحلية؟

إذا أرادت الثقافات المَحَلّيّة أن تحيا وتزدهر، فإنها لا تزال بحاجة إلى استخدام لغاتها الأصلية. قال لي كاهن من جزيرة بالي ذات مرة باللغة الإندونيسية؛ وهي اللغة الوطنية هناك، بينما كان يستعد لإقامة طقوس أحد الاحتفالات: «لا يكفي أن تكوني قادرة على التواصل معنا لكي تفهمينا حقاً، بل عليك التحدث باللغة الباليّة». قال ذلك وهو يضع هاتفه الخلوي في جيب ردائه.

أدرك الكاهن سخرية الموقف، لقد فهم أنّ التكنولوجيا التي يحملها في جيبه كانت تُسرّع من زوال لغته الأم والهوية الثقافية للشعب البالي، ولكنّ ما لم يدركه هو أنّ هذه الأدوات الرقمية نفسها لديها القدرة على إحياء اللغات المَحَلّيّة؛ الأمر الذي بدأت المجتمعات المعنية واللغويين على مستوى العالم في ملاحظة أهميته بالحفاظ على اللغة والثقافة.

لا تكفي التكنولوجيا وحدها، ولو كان الأمر كذلك، فإنّ المساحة التي تم توفيرها بسخاء من قبل جوجل وفيسبوك وتويتر ويوتيوب وويكيبيديا وغيرها للغات المَحَلّيّة ستنجز المهمة. لقد بدأنا في فهم الأمور الأخرى التي نحتاجها للحفاظ على اللغات المَحَلّيّة حَيّةً في العصر الرقمي، ولكن من المهم أن ندرك أولاً المخاطر التي تواجهنا، والسياق الذي يجب أن تعمل فيه التكنولوجيا.

يرى اللغويون أن نصف لغات العالم تقريباً ستنقرض في القرن المُقبل مع نمو التواصل اليوم عبر البلدان والقارات. إذ يمكن لأقل من ربع سكان بالي التحدث بلغتهم الأصلية، وفي أميركا الشمالية، لا يزال هناك ثماني لغات متداولة فقط من أصل 165 لغة مَحَلّيّة.

إذا اختفت اللغة الباليّة تماماً، فلا يزال بإمكان الناس في بالي التواصل باللغة الوطنية أو الإنجليزية أو غيرها من اللغات، لكنّ فقدانها- كحال أي لغة مَحَلّيّة- من شأنه أن يجعل الجزيرة والعالم بأكمله مكاناً أشد فقراً. سيحد ذلك من فهم جيل المستقبل للثقافة الفريدة للجزيرة؛ بما في ذلك تقاليد الرقص والموسيقى الرائعة، فضلاً عن الممارسات الدينية التي توجّه الحياة اليومية. كما قد يخلق ذلك عواقب اقتصادية من خلال تقويض المعرفة المَحَلّيّة المتوارثة عبر عشرات الأجيال؛ مثل تلك المعرفة التي تنظّم الإدارة المستدامة لموارد المياه في الجزيرة لدعم الزراعة المنصفة والمنتجة للأرز؛ وهو المحصول الرئيسي المَحَلّي.

إنّ تجنُّب انقراض اللغة المَحَلّيّة يعني إبطاء تدهورها، ثم العمل على عكس المسار. في المقابل، يتطلب هذا إدراك أنّ التكنولوجيا هي مجرد عنصر واحد في النظام الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي المعقد الذي يفضل لغات الأغلبية على حساب اللغات المَحَلّيّة.

تعدّ القومية أيضاً جزءاً من هذه الصورة، وبطبيعة الحال، تسعى العديد من الدول؛ وخاصة البلدان الأحدث، إلى الترويج للغة واحدة تُوحِّد مواطنيها. على سبيل المثال، عَمِلَت الولايات المتحدة في البداية على حظر استخدام لغة هاواي في المدارس المَحَلّيّة عندما أصبحت هاواي ولاية. كان الهدف هو جعل الجميع يتحدثون الإنجليزية، لكنّ تلك القيود عرّضت لغة هاواي إلى خطر الانقراض. نجح الناشطون المَحَلّيّون في النهاية في إقناع الولاية بالاعتراف باللغة؛ الأمر الذي مهّد الطريق أمام المدارس العامة الداعمة للغة المَحَلّيّة وغيرها من البرامج لإنقاذها.

للعائلات أيضاً دور في ممارسة المزيد من الضغط على اللغات المَحَلّيّة؛ إذ بينما يتحدث العديد من الآباء لغاتهم المَحَلّيّة أمام أطفالهم، يتخلى الآخرون عن لغتهم الأم لصالح اللغة الإنجليزية أو الصينية أو بعض اللغات الدولية الأخرى في محاولة لمنح أطفالهم المزيد من فرص العمل، على الرغم من المزايا العديدة التي يمتلكها الشخص متعدد اللغات.

هناك عوامل داخلية أخرى تقوّض اللغات المَحَلّيّة، لأن تركيب بعضها؛ لا سيما التي تخضع للتراتبية بناءً على الحالة الاجتماعية (بمعنى أنك تستخدم كلمات مختلفة اعتماداً على الحالة الاجتماعية للشخص الذي تتحدث معه)، يمكن أن تجعل المتحدثين الأصغر سناً مترددين أو حتى خائفين من استخدام لغة مَحَلّيّة معينة خوفاً من التعرض للإساءة، وقد يفضل المتحدثون الأصغر سناً أيضاً شكلاً أكثر تقبلاً للتواصل. في الواقع، كيف يمكنك تطبيق هذه القواعد في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، عندما لا يمكنك قياس الحالة الاجتماعية النسبية لجمهورك؟

يمكن أن تساعد التكنولوجيا على الحد من الضغوط التي تواجهها اللغات المَحَلّيّة وإحيائها في العالم الحديث، ولكن فقط إذا طبقناها بالاقتران مع التدابير الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية لتغيير السلوك. فيما يلي أربعة إرشادات مستخلصة من تجربتي في بالي وأماكن أخرى حيث يتم دعم اللغات المَحَلّيّة:

  1. إشراك الجهات المعنية المَحَلّيّة.

بمجرد توفر الترميز الموحَّد للغة معينة؛ وهو معيار رقمي خاص بأحرف أو محارف اللغة يسهّل تحميل النصوص على الحواسيب، يقدّم الإنترنت وسيلة غير مكلفة نسبياً للمجتمعات للوصول إلى موارد باللغة المَحَلّيّة. تعمل الجامعات في جميع أنحاء العالم، و«مكتبة الكونغرس الأميركية» (US Library of Congress)، و«مؤسسة سميثسونيان» (Smithsonian Institution)، ونظم تخزين أخرى، على رقمنة مخزونها من المواد الثقافية المَحَلّيّة تدريجياً لضمان وصولها إلى السكان المَحَلّيّين. هذه العملية تستغرق وقتاً طويلاً وتعدّ مكلفة، واتضح أنّ التحدي الأكبر يتمثل في التعامل مع القضايا السياسية والثقافية والأخلاقية حول إذا ما كان ينبغي مشاركة المواد المَحَلّيّة عبر الإنترنت، وكيفية تحقيق ذلك.

أثار جان بندر شيلتر؛ وهو أستاذ التاريخ في «كلية غوشين» (Goshen College) الذي عمل طويلاً مع شعب مارا في تنزانيا، عدة أسئلة حول إمكانية رقمنة المواد المَحَلّيّة، ومنها: من لديه الصلاحية للسماح باستخدام المواد المَحَلّيّة؟ هل بعض المواد مقدسة للغاية بحيث لا يمكن تحميلها على الإنترنت؟ إلى أي مدى يمكن لأفراد مجتمع مارا فهم المجموعة الرقمية والوصول إليها والتعامل معها؟ هل سيجدون المواد مفيدة؟

تتطلب معالجة هذه المسائل، قبل أن تؤدي إلى نشوب خلافات، مشاركة مجموعة من العلماء المَحَلّيّين والفنانين وقادة المجتمع في تنظيم المواد الرقمية. ينبغي أن تتوفّر لدى هؤلاء الأشخاص الخبرة والشرعية لتطوير مواد سليمة ومناسبة ويسهل الوصول إليها من قبل المجتمع المَحَلّيّ.

للجهات الداعمة المَحَلّيّة القَدْر ذاته من الأهمية في تشجيع أفراد المجتمع على تَبنّي اللغة المَحَلّيّة والمشاركة فيها على أرض الواقع وعبر الإنترنت. يجدر بالشعراء والمصوِّرين والكُتّاب والمؤلِّفين وغيرهم تشجيع الناس على الانضمام لدعم اللغة بأي وسيلة تكنولوجية متاحة لهم، فمِن الأفضل نشر مشاركات الأوساط الأكاديمية وإظهار الحماس بذلك بدلاً من إجفال الناس.

تعمل الجهات المعنية المَحَلّيّة في بالي بنشاط على تطوير موقع ثقافي رقمي يسمح لأي شخص بإضافة المحتوى وتحريره؛ وهو عبارة عن مجموعة من الوسائط المتعددة تتضمن معجم وموسوعة تجمع وتخزّن وتشارك المعرفة باللغة والثقافة الباليّة. يعمل الموقع في أبسط صوره كمعجم «قابل للتطوير» للكلمات والعبارات باللغة الباليّة، والإندونيسية، والإنجليزية، وبعضها موضّح بمقاطع فيديو، ولكنه يعمل أيضاً كجامع للأدب الحديث والتقليدي، والتصوير الفوتوغرافي، والموسيقى، ويضم روابط لمصادر ثقافية أخرى. يعدّ هذا النوع من المواقع أداة قوية، ولكن فقط نتيجة الحافز النشط والإشراف من قبل مجموعة متنوعة من الخبراء المَحَلّيّين وقادة المجتمع وعشاق وسائل التواصل الاجتماعي.

  1. الوصول إلى المجتمعات والمنازل.

كما هو الحال مع معظم الابتكارات الاجتماعية، تعدّ المشاركة المجتمعية عنصراً جوهرياً للنجاح على المدى الطويل. وقد حققت المدارس؛ التي تُركِّز في مناهجها على اللغات المَحَلّيّة والتي يديرها أفراد من المجتمع، تقدماً في تقوية لغة هاواي واللغات المَحَلّيّة الأخرى؛ تماماً كما فعلت البرامج الإذاعية المقدمة باللغات المَحَلّيّة في مجتمعات أميركا الوسطى. تدفع القصص المُصوَّرة في كينيا المراهقين والشباب إلى التفكير والتحدث عن قضايا تُهمُّهم بلغة شنغ؛ وهي لغة مَحَلّيّة عامية تجمع بين اللغة السواحيلية والإنجليزية.

ينبغي أن يطال النجاح أيضاً قدرة التأثير على الحياة اليومية داخل الأسرة. أدرك إليعيزر بن يهودا؛ وهو أحد رواد إحياء اللغة العبرية الحديثة، مبكراً أنه لكي تزدهر اللغات المَحَلّيّة، يحتاج الناس إلى استخدامها باستمرار في سياق الحياة اليومية. والجدير بالذكر أنّ الجهود المبذولة لتجديد استخدام اللغة الإيرلندية والماورية (وهي لغة النيوزيلنديين الأصليين) ولغات أخرى قد استفادت من برامج مشاركة الأسرة. ما يجري داخل منازل أفراد المجتمع فيما يتعلق باللغة أمر مهم، لأنه يؤثر على المحيط الذي يتعلم فيه الأطفال التحدث، ويساهم في إحساسهم بالتقدير للغات المَحَلّيّة، لا سيما إن كانت هذه الخطوة مدعومة من قبل الآباء والأجداد. إنّ اللغة التي تُدرَّس فقط في المدارس أو ضمن سياق ديني معرضة لأن تصبح محصورة ضمن هذه الأوساط.

  1. إظهار قيمة اللغات المَحَلّيّة على المستوى العالمي.

«هل تهتمين باللغة الباليّة؟» يُطرح عليّ هذا السؤال كثيراً من قِبَل أشخاص من بالي عندما يعلمون بالجهود المبذولة لغاية دعم لغتهم؛ الأمر الذي يعكس اعتقاداً شائعاً بأنّ الغالبية العظمى من الناس لا تُقدٍّر سوى عدداً محدوداً من اللغات، وهذا بدوره يحبط الجهود المبذولة لاستخدام اللغات المَحَلّيّة ويقوضها. لكن في المقابل، عندما تشارك المجتمعات على مستوى العالم في مبادرات لإحياء اللغات المَحَلّيّة، فإنها تعطي انطباعاً مُشجِّعاً، وتُوفِّر الشرعية لمناصري الثقافة المَحَلّيّة.

يمكن لمنصة دولية للغات المَحَلّيّة أن تخدم الاحتياجات المَحَلّيّة، وتوضح أيضاً قيمة تلك اللغات على المستوى العالمي. علاوة على ذلك، فإنها تذكّر الآخرين بقيمة التنوع اللغوي والهوية الثقافية اللّذان يرافقانه.

ربما كان وارد كننغهام؛ وهو مبتكر مواقع الويكي الحديثة، لديه فكرة أنّ هذه المواقع ستكون واحدة من المنصات الدولية المستَخدَمة لدعم اللغات المَحَلّيّة. لقد صاغ بنفسه المصطلح التكنولوجي «ويكي» المقابل لكلمة «سريع» في لغة هاواي، وهي لغة تتعرض للضغوط ذاتها التي تواجهها اللغة الباليّة.

  1. تجنُّب المماطلة.

تُدرِج منظمة اليونسكو حالياً 2,500 لغة ضمن قائمة اللغات المهددة بالانقراض؛ وهذا يمثل 35% من لغات العالم البالغ عددها 7,000 لغة. بطبيعة الحال، تتركز الكثير من الجهود المبذولة عالمياً، والمعنية بحماية التنوع اللغوي، على الحفاظ على هذه اللغات. لكن ينبغي أيضاً العمل على تجنُّب الوصول إلى مرحلة تصبح فيها اللغة مهددة. أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي البدء مبكراً في اعتماد إجراءات تكنولوجية على مستويات مجتمعية؛ تكون مناسبة لتقوية اللغات المَحَلّيّة. كلما بدأنا مبكراً، زاد احتمال تأثيرنا على عدد أكبر من الناس لمواصلة استخدام لغاتهم المَحَلّيّة أو البدء في تعلُّمها.

قد تكون قوى السوق هي الدافع الأساسي وراء العمل الذي تُقدِّمه شركة تويتر وجوجل وغيرها من شركات التكنولوجيا المتقدمة، لكنّ هذا لا يمنع أنها تساهم بقوة في هذا المجال على صعيد اللغات المهددة بالانقراض وتلك المتداولة بقوة، حيث لا تزال هناك قاعدة متينة من المتحدثين بلغات مَحَلّيّة مهددة؛ والذين قد يختفون في غضون جيل واحد. إذاً، نحن بحاجة إلى اتّباع نهج تلك الشركات والمضي قدماً في أقرب وقت.

قد تساعد هذه الخطوات الأربع على مواجهة تهميش اللغات المَحَلّيّة؛ وهو أحد الآثار الجانبية المؤسفة لعصر الإنترنت. ومن خلال إعادة توجيه الأدوات الرقمية لخدمة اللغات المَحَلّيّة، يمكن أن تصبح التكنولوجيا مصدراً غنياً للتنوع اللغوي والثقافي.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.