كيف نعيد بناء المسارات المهنية في عصر الذكاء الاصطناعي؟

10 دقيقة
مسار مهني جديد

يحدث الذكاء الاصطناعي التوليدي تحولات عميقة في بيئات العمل، فقد استحوذ على المهام الروتينية التي كانت تمنح الموظفين الجدد فهماً أولياً لطبيعة العمل، ما أدى إلى اتساع "فجوة الخبرة" وتراجع الفرص أمام الداخلين الجدد لسوق العمل، في الوقت الذي تتزايد فيه قيمة المهارات الدينا…

يؤدي التوسع المستمر في استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي داخل بيئات العمل إلى ظهور مفارقة عجيبة بالنسبة إلى الموظفين المبتدئين. فالمهام التي كان الموظفون الجدد يكتسبون خبراتهم الأساسية من خلالها، مثل تلخيص الاجتماعات ومعالجة البيانات الأولية وصياغة المذكرات، بات الذكاء الاصطناعي التوليدي يحل تدريجياً محل البشر في أدائها. وهذا يعني أن وظائف المبتدئين باتت تتطلب خبرة مسبقة لم تعد تلك الأدوار قادرة على توفيرها أصلاً.

استحوذ الذكاء الاصطناعي على المهام الروتينية المنخفضة المخاطر التي كانت تعلم الموظفين الجدد كيفية العمل داخل المؤسسات المعقدة. ومع اختفاء هذه الدرجات الوظيفية الأولى، بات الطريق إلى فرص عمل أفضل شديد الوعورة، بل مستحيلاً بالنسبة إلى الكثيرين. وهذه ليست مشكلة ظرفية عابرة؛ فالذكاء الاصطناعي يعيد هيكلة العمل، ويعيد تشكيل المعرفة والمهارات المهمة، ويحدد شكل المعرفة والمهارات التي ينبغي للموظف اكتسابها والطريقة التي يفترض به اكتسابها من خلالها.

تتجاوز آثار هذه التحولات بدايات المسارات المهنية الفردية لتطال جوهر الوعد الأميركي بالارتقاء الاقتصادي والاجتماعي؛ ذلك الوعد الذي يشمل الثروة المالية، وكذلك الثروة الاجتماعية الناتجة من شبكات العلاقات والروابط التي نبنيها. ومع ذلك، فالتكنولوجيا نفسها التي تزيد تعقيد الحصول على الوظيفة الأولى قادرة على مساعدتنا في ابتكار طرق جديدة لاكتساب الخبرة وإثباتها وتوسيع نطاقها. وإذا أحسنا استخدام الذكاء الاصطناعي لتوسيع، لا تضييق، الوصول إلى التعليم والتدريب وإثبات المعرفة والمهارة، فسنتمكن من بناء سلم وظيفي أقوى يفتح الطريق أمام الوصول إلى الطبقة المتوسطة وما بعدها. ويتمثل جزء أساسي من تحقيق هذه الغاية في إعادة تصميم منظومة التعليم والتدريب وعمليات التوظيف.

وعلى حد تعبير رئيس معهد برننغ غلاس، مات سيغلمان: "الذكاء الاصطناعي لا يؤتمت الوظائف، بل يؤتمت المهام. ويختلف أثر هذا التحول تبعاً لطريقة استثمار هذه الأتمتة؛ فقد تتيح للموظف التفرغ لمهام أعلى قيمة أو تطلق بفضل كفاءتها طلباً كامناً يمكن أن يخلق فرصاً جديدة أو تدفع الشركات إلى الاحتفاظ بما تحققه من وفورات. وذلك كله رهن بمجموعة من العوامل وتظهر نتائجه تدريجياً مع مرور الوقت. وللشروع في ذلك، نحتاج أولاً إلى منظومة يسهل وصول الجميع إليها".

الوظائف في بداية المسار المهني

لطالما أدت الوظائف في بداية المسار المهني دورين أساسيين: إنجاز العمل وتوفير التدريب المهني. ومع تولي الذكاء الاصطناعي تنفيذ المهام الروتينية، مثل تنظيم جداول المواعيد وإجراء التحليلات الأساسية وعمليات التواصل الداخلية، أصبح الموظف يبدأ من مستوى أعلى. غير أن هذا المستوى الجديد يفترض أن الموظف لديه إلمام مسبق بسير العمل والأعراف والأدوات التي كان الموظفون يتعلمونها سابقاً في أثناء أداء مهامهم، وهو ما يحرم عدداً كبيراً من الموظفين الجدد من الفرص.

يخلق هذا الواقع ما يسمى فجوة الخبرة: فالحصول على وظيفة يحتاج إلى خبرة، واكتساب الخبرة يحتاج إلى وظيفة. كما أن جهات التعليم والتدريب، مثل المدارس الثانوية أو الكليات، نادراً ما تكون مصممة لمواكبة التكنولوجيا المتسارعة في بيئات العمل. وإلى جانب ذلك، قلصت الشركات برامج التدريب داخلها، بينما تفرز خوارزميات التوظيف السير الذاتية بصورة آلية بحثاً عن "أصحاب الإنجاز المثبت". وهكذا أصبحت الدرجات الدنيا في السلم الوظيفي شحيحة اليوم، بعد أن كانت وفيرة في السابق.

يعيد الذكاء الاصطناعي أيضاً تشكيل مفهوم الخبرة وقيمتها. فندرة المهارة لم تعد مرتبطة بالمعرفة الثابتة، أي بما تعرفه فعلياً، بل بالقدرة الديناميكية، أي كيفية استخدام الأدوات لحل المشكلات والتحقق من النتائج ومراعاة السياق الملائم. ويزداد تقدير الشركات للأفراد القادرين على التعاون مع الذكاء الاصطناعي من خلال تحديد المشكلات وتنظيم البيانات والنماذج والتحقق من موثوقية النتائج وتقديمها للآخرين.

يتطلب ذلك مزيجاً من المهارات التحليلية والاجتماعية والقدرة على التكيف، وهي مهارات نادراً ما يكتسبها المرء من خلال قاعات الدراسة وحدها؛ لذلك لم يعد السؤال المطروح: ما هي الشهادة التي تحملها؟ بل: ما الذي تستطيع إنجازه بإتقان، وهل تستطيع إثبات ذلك؟ فالأولوية في هذا العالم للأدلة العملية، لا الشهادات الدراسية. وأصبحت سجلات الإنجازات والمشروعات وتمارين المحاكاة ومهام الأداء مؤشرات أقوى من قوائم المقررات الدراسية والشهادات التقليدية للمدارس الثانوية والجامعات.

وعند استخدام الذكاء الاصطناعي على نحو صحيح، يمكن إتاحة اكتساب الخبرة على نحو أكثر عدلاً وانفتاحاً للجميع. فهو قادر على مساعدة الطالب الجامعي في تحليل البيانات أو تمكين الموظف في قطاع التجزئة من توليد رموز برمجية قابلة للتنفيذ أو إتاحة الفرصة أمام خريج الثانوية لإنتاج مواد تسويقية بمستوى احترافي. كما يكشف الذكاء الاصطناعي ما يطلق عليه المحللون "الخبرة الكامنة"، أي القدرات التي لا تعكسها الشهادات الحالية. وإذا بحثت الشركات عن مثل هذا الدليل، فستكتشف المزيد من المواهب.

معضلة الشهادات

تواجه الشركات صعوبة في تجاوز الاعتماد على الشهادات والدرجات العلمية في غياب بدائل موثوقة. وعلى الرغم من تزايد الشهادات بمختلف أنواعها، يبقى السؤال: ما الذي تعنيه فعلاً؟ وكيف يمكننا بناء سوق عمل قادرة على رؤية المعرفة والمهارات ورصدها؟

حددت مؤسسة كردنشالز إنجن ما يقرب من 1.1 مليون شهادة مختلفة في الولايات المتحدة، موزعة على 18 فئة، تقدمها 4 أنواع من الجهات المانحة للشهادات:

  • المؤسسات التعليمية بعد المرحلة الثانوية، وتصدر ما يقرب من 350,500 درجة وشهادة.
  • الجهات المختصة بتقديم الدورات الجماعية الإلكترونية المفتوحة المصدر، وتقدم أكثر من 13,000 شهادة إكمال دورة تدريبية وشهادات مصغرة ودرجات جامعية عبر الإنترنت صادرة عن جامعات أجنبية.
  • الجهات غير الأكاديمية، وتصدر ما يقرب من 656,500 شارة مهارية رقمية وشهادة إكمال دورة تدريبية ورخصة وشهادة مهنية وبرنامج تدريب مهني.
  • المدارس الثانوية، وتمنح أكثر من 56,100 شهادة من المدارس الثانوية الحكومية والخاصة، وشهادات بديلة صادرة عن المدارس الثانوية، وشهادات معادلة للثانوية العامة.

ويشدد تقرير المؤسسة على ضرورة تعزيز الشفافية بدرجة كبيرة في سوق الشهادات، بما يسهم في دعم الحراك الفردي والنمو الاقتصادي الوطني. على سبيل المثال، كيف ترتبط الشهادات الصادرة عن مؤسسات التعليم العالي بالشهادات والدرجات العلمية الأخرى ضمن مسار تراكمي واحد، سواء من خلال البناء عليها أو معادلتها أو استكمالها؟ وكيف تستخدم الشارات لتمثيل هذه الشهادات وغيرها؟ وكيف نصنف برامج منح الشهادات المختلفة على نحو يعكس بدقة الزمن المطلوب لاجتيازها وقيمتها في سوق العمل؟

قدر تقرير آخر صادر عن مؤسسة كردنشالز إنجن أن إجمالي الإنفاق السنوي الذي تتحمله المؤسسات التعليمية والشركات وبرامج المنح الفيدرالية والولايات والجيش على هذه البرامج المختصة بمنح الشهادات والاعتمادات يتجاوز 2.1 تريليون دولار. ويشير هذا الإنفاق الضخم إلى جدية سوق الشهادات والحاجة الملحة إلى إقرار عمليات أكثر فعالية للمساءلة وصناعة القرار.

يثير هذا الإنفاق السنوي على هذه الشهادات تساؤلات حول قيمة كل منها على حدة والنتائج التي تحققها، وخاصة أيها يحقق تقدماً ملموساً في المسار المهني ويسهم في زيادة الأجور. وفي هذا السياق، تشير دراسة أجراها معهد برننغ غلاس بالاشتراك مع معهد إنتربرايز الأميركي إلى أن "نحو 12% فقط من الشهادات تتيح زيادات كبيرة في الأجور لم يكن من الممكن أن يحصل عليها أصحابها لولا هذه الشهادات، وأن 18% فقط من الحاصلين على الشهادات مرشحون للحصول على زيادات في أجورهم لا يحظى بها نظراؤهم". وقد ابتكر معهد برننغ غلاس أداة إلكترونية باسم "متصفح مؤشر القيمة المهنية"، تتيح معلومات مفصلة عن النتائج التي تحققها الشهادات المهنية كلها تقريباً في الولايات المتحدة، ومنها زيادات الأجور وفرص التقدم الوظيفي، إضافة إلى أكثر من 20,000 شهادة أخرى غير أكاديمية.

منظومة التعليم والتدريب في عصر الذكاء الاصطناعي

لا يمكن التعويل على زيادة الميزانيات وحدها لمواجهة الذكاء الاصطناعي. وتلخص إحدى الدراسات الوضع على النحو التالي: "أثبتت برامج التدريب المهني إخفاقها عبر الزمن؛ فأقل من نصف المستفيدين من منح برنامج دعم المتضررين من التجارة الدولية يجدون عملاً، من دون أي دليل على أن الوظائف التي حصلوا عليها جيدة الأجر. وبالمثل، كشفت الدراسات المتعلقة بالتدريب المهني أن أثره الفعلي محدود للغاية".

ومن هنا، نحتاج إلى نموذج جديد يعيد تصميم منظومة التعلم، ويجعل من بيئة العمل ساحة رئيسية للتعلم، ويثبت قدرة الفرد استناداً إلى الأدلة، ويساعده على مواصلة التقدم بعد حصوله على وظيفته الأولى. وفيما يلي 10 مبادئ تصميمية لإعادة ابتكار منظومة للتعليم والتدريب في عصر الذكاء الاصطناعي:

  1. إنشاء مؤسسات هجينة تمحو الحدود الفاصلة. يتيح إنشاء مؤسسات تعمل عبر مراحل التعليم المختلفة، بدءاً من التعليم الأساسي وصولاً إلى كليات المجتمع ومقدمي التدريب الآخرين والشركات الباحثة عن موظفين، انتقال المتعلمين داخل منظومة واحدة متكاملة، بدلاً من التنقل بين أنظمة متباعدة لا يجمع بينها رابط. على سبيل المثال، يشكل طلاب المرحلة الثانوية حالياً ما نسبته 21% من إجمالي الملتحقين بكليات المجتمع. وقد أسهمت مؤسسة جوبز فور ذا فيوتشر وغيرها في ترسيخ هذا النهج الهجين تحت مسمى "طمس الحدود"، وهي رؤية تدعو إلى إزالة الخط الفاصل بين التعليم والتدريب في المدارس الثانوية والكليات ومقدمي التدريب الآخرين والشركات.
  2. جعل التعلم المبني على العمل هو القاعدة العامة، لا الاستثناء. يجب أن تكون الخبرة العملية المدفوعة الأجر والمنظمة محور الإعداد للمسار المهني في مراحله الأولى. ويشمل ذلك برامج التدريب المهني للشباب والبالغين وبرامج التعليم التعاوني والتدريب الطبي والمعسكرات التدريبية المكثفة التي تستضيفها الشركات وترتبط مباشرة بمسارات التوظيف. وحيثما أمكن، ينبغي تنظيم البرامج، مثل برامج التدريب المهني، على نحو يتيح تحمل مسؤوليات متزايدة تدريجياً مقابل أجور ترتفع على مراحل مع اتساع نطاق المسؤوليات. أما في الأدوار المتقدمة، فينبغي توسيع نماذج شهادات التلمذة المهنية التي تدمج بين العمل والتوجيه والاعتماد الأكاديمي، بحيث يتمكن المتعلم من الحصول على شهادة معترف بها في أثناء تطوير كفاءته المهنية من خلال الخبرة العملية المباشرة.
  3. بناء مسارات مهارية بين القطاعات المتجاورة لتسريع الانتقال الوظيفي. لا يبدأ معظم العاملين من نقطة الصفر؛ لذا ينبغي تحديد المعارف التي يمتلكونها والمهارات التي يستطيعون إثباتها، ثم مواءمتها مع متطلبات الوظائف الجديدة في القطاعات المتجاورة وبناء جسور تعليمية وتدريبية تربط قدراتهم الحالية بمتطلبات تلك الوظائف. ويمكن استخدام وحدات تدريبية موجهة لتحويل الخبرات السابقة إلى قدرات قابلة للتسويق خلال أسابيع أو أشهر، لا سنوات. كما ينبغي مساعدة الموظفين المبتدئين على الوصول إلى الوظائف التأسيسية للانطلاق المهني، وهي 73 وظيفة، مثل الفنيين الطبيين في خدمات الطوارئ ومشغلي محطات الطاقة، تدفع الأفراد نحو مسارات مهنية توفر أجوراً جيدة وأمناً وظيفياً وفرصاً حقيقية للترقي. ومن شأن هذا النهج تقليص الزمن المطلوب لاكتساب الكفاءة وخفض التكلفة على المتعلمين والشركات على حد سواء.
  4. وضع التوظيف القائم على الأداء في صميم العملية. ينبغي تجاوز السير الذاتية والاعتماد بدلاً منها على مهام مرتبطة فعلياً بالوظيفة، مثل نماذج العمل المنظمة وتمارين المحاكاة والمشروعات التجريبية الخاضعة للإشراف والمعايير الموحدة التي يمكن دمجها، حيثما كان مناسباً، مع آليات تقييم مدعومة بالذكاء الاصطناعي. على سبيل المثال، يجب على المتقدمين لوظائف تحليل البيانات أن يثبتوا قدرتهم على تنظيف البيانات غير المنظمة وبناء نموذج أساسي والتحقق من موثوقيته وشرح الجوانب التي ينبغي الموازنة بينها للمدراء أو لأصحاب المصلحة الذين لا يمتلكون خبرة تقنية. ومن شأن التقييم القائم على الأداء أن يعزز الثقة ويوسع دائرة الفرص لتشمل المواهب غير التقليدية.
  5. الدعم المستمر والتنقل المهني بعد التوظيف. إن الحصول على وظيفة ليس نهاية الرحلة، بل محطة على الطريق. فكثير من العاملين الذين فقدوا وظائفهم يحتاجون أولاً إلى وظيفة انتقالية توفر قدراً من الاستقرار، وهي خطوة أولى يمكن أن تتحول إلى محطة مؤقتة في مسارهم المهني. ومن الضروري رصد موارد مالية مخصصة ووضع خطط تمتد إلى ما بعد التعيين، تشمل أشكالاً متعددة من الدعم، مثل التدريب الفردي ومجموعات الأقران والمشروعات العملية داخل بيئة العمل والمخصصات الدراسية أو المنح الموجهة لصقل المهارات، إضافة إلى الحوافز التي ترتبط بوصول الفرد إلى مستوى معين من الأجر، بحيث يتيح بلوغ هذا المستوى فرصاً جديدة تدفعه إلى التقدم خطوة أخرى على السلم الوظيفي.
  6. شهادات معيارية قابلة للاستخدام عبر مختلف المنصات وقابلة للقراءة آلياً ومرفقة بأدلة إثبات. يجب تصميم كل شهادة بأسلوب معياري مجزأ إلى مكونات يمكن دمجها بسهولة في أنظمة التوظيف لدى الشركات. وحيثما أمكن، ينبغي إرفاق أدلة موثوقة تثبت الكفاءة الفعلية، مثل ملفات الرموز البرمجية ولوحات المتابعة والتقييمات الطبية وتقديرات المشرفين التي توضح مستويات الإتقان بدقة. وتمثل شبكة تي ثري إنوفيشن نتوورك، المدعومة من غرفة التجارة الأميركية، مثالاً على هذا التوجه، وكذلك السجل الرقمي الموحد أتشيفمنت وولت التابع لجامعة ويسترن غفرنرز. وهذه القابلية للاستخدام عبر مختلف المنصات تتيح للموظف الاحتفاظ بـ"سجل مهارات" يمكنه تقديمه بسهولة إلى مختلف المنصات والشركات.
  7. إقرار مؤشرات الجودة وآليات المساءلة منذ البداية. ينبغي استخدام أدوات قائمة على الأدلة، مثل مؤشرات قيمة الشهادات المشار إليها سابقاً، للفصل بين المؤشرات الحقيقية والضجيج المعلوماتي. ويجب توجيه التمويل الحكومي وتمويل الشركات إلى مزودي البرامج الذين يبرهنون بالأدلة أن ما يقدمونه يحقق نتائج حقيقية في سوق العمل، مثل الوصول إلى "الوظائف التأسيسية للانطلاق المهني" وزيادات الأجور ومعدلات التقدم الوظيفي والاستبقاء. كما يجب إلزام مزودي البرامج والشركات بتقديم تقارير شفافة عن النتائج التي يحققونها، بما في ذلك تبني نهج توظيف يستند إلى المهارات أولاً. وبعد ذلك، ينبغي توسيع نطاق المبادرات الناجحة ومعالجة مواطن القصور في غيرها.
  8. تحديث شبكة الأمان بحيث تتماشى مع التعلم. يجب تحديث برامج التأمين ضد البطالة والمزايا المرتبطة بها بحيث تدعم تطوير المهارات بسرعة في أثناء البحث عن عمل. وينبغي تجربة نماذج من حسابات تعلم شخصية مرنة يمكن استخدامها عبر جهات متعددة، والاستثمار في مراكز إقليمية تجمع بين التعلم والعمل، وتضم المؤسسات الهجينة التي أشرنا إليها سابقاً. ويجب أن تتيح هذه المراكز للأفراد الوصول إلى الإنترنت العالي السرعة وأدوات الذكاء الاصطناعي والموجهين والبرامج التي تدعمها الشركات، ضمن مكان واحد يلبي احتياجات التعلم والعمل معاً.
  9. عقد شراكات مع الشركات الباحثة عن موظفين لإعادة تصميم وظائف المبتدئين. يجب تشجيع الشركات الباحثة عن موظفين على إعادة هيكلة وظائف المبتدئين بحيث تجمع بين الإنتاج والتعلم في الوقت نفسه. وينبغي أن تتضمن هذه الوظائف المعاد تصميمها مشروعات مخصصة تتيح وقتاً كافياً للتعلم والتوجيه، وأن تعتمد مسارات ترقية واضحة تستند إلى الكفاءات المثبتة. وتمثل نماذج التلمذة المهنية وبرامج الحصول على درجات أكاديمية عبر التلمذة المهنية قالباً جاهزاً يمكن البناء عليه؛ إذ يتعاون في تصميم الأدوار وتحديد نتائجها كل من أقسام الموارد البشرية والوحدات التشغيلية والمؤسسات التعليمية، بحيث يتقاسم الجميع مسؤولية تطوير هذه الأدوار وتحقيق أهدافها.
  10. إنشاء هيكل بيانات يركز على المهارات الفعلية بدلاً من الوقت الدراسي. يجب تصميم خرائط متكاملة تربط بين مهام الوظيفة والكفاءات ونتائج التعلم، بحيث تتواءم المناهج الدراسية، ومنها دورات التلمذة المهنية، مع المتطلبات الحقيقية للعمل. وينبغي مشاركة بيانات النتائج مع مزودي البرامج بصورة مستمرة، ما يتيح تحسين المسارات التعليمية والمهنية على نحو دائم.

خلاصة القول: إن نموذج التعليم والتدريب الملائم لواقع عصر الذكاء الاصطناعي هو الذي يربط التعلم بالعمل الفعلي، ويثبت ما يستطيع المرء إنجازه، ويضمن استمرار الدعم طوال المسار المهني حتى بعد الحصول على الوظيفة الأولى. ومثلما يشير رايان كريغ في كتابه "أمة التلمذة المهنية" تمثل برامج التلمذة المهنية المسار الأوضح والأكثر قابلية للتوسع لجعل هذا النموذج واقعاً فعلياً.

لماذا يكتسب هذا الأمر أهميته الآن؟

أصبح الذكاء الاصطناعي واقعاً حاضراً يغير طريقة إنجاز العمل. ويطرح هذا سؤالاً بسيطاً: هل سيمحو الذكاء الاصطناعي الدرجات الأولى في السلم الوظيفي، أم سيساعدنا على بناء درجات جديدة فيه؟ يمكننا اختيار الاحتمال الثاني من خلال الجمع بين مؤشرات جودة موثوقة، مثل مؤشر قيمة الشهادات والأدوات المشابهة له، وبين منهجيات التوظيف القائمة على الأداء؛ ومن خلال توسيع نطاق البرامج المجتمعية الراسخة التي تبني على المهارات في القطاعات المتجاورة وتستفيد منها؛ وكذلك عبر تمويل أشكال الدعم بعد التوظيف التي تساعد الفرد على مواصلة الترقي بعد الحصول على وظيفته الأولى. وعند تنفيذ هذه العناصر مجتمعة، يتحول نهج "المهارات أولاً" من مجرد شعار إلى واقع فعلي. ويحصل العامل على سجل موثق يثبت قدراته، بينما تكتسب الشركة ثقة أكبر عند اختيار موظفيها من شبكة أوسع من المواهب.

التداعيات هنا حقيقية. فإذا استخدمنا الذكاء الاصطناعي لمجرد التخلص من المهام وتقليص أعداد الموظفين، فسوف تتركز المزايا في أيدي شريحة محدودة. أما إذا أعدنا تصميم الأدوار بحيث يعزز الذكاء الاصطناعي القدرات البشرية، فسيتمكن عدد أكبر من الأطراف من أداء أعمال ذات أثر حقيقي في وقت أبكر. ويؤدي ذلك إلى سوق عمل قادرة على رؤية المهارات، ونظام تدريبي يحترم ما يمتلكه الفرد فعلياً من معرفة، وثقافة تعكس بوضوح الدافع وراء بذل الجهد الجاد. وهكذا نستطيع التخلي عن المستوى الوظيفي المبتدئ الذي يوشك على التلاشي وإحلال نقطة انطلاق أفضل محله، وتحويل الزعزعة التي يسببها الذكاء الاصطناعي إلى سلم وظيفي أكثر عدلاً ويتيح الوصول إلى الفرص على نحو أسرع.

 

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أن المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.                      

المحتوى محمي