كيف تسعى النقابات العمالية لتحقيق العدالة الرقمية في ظل تحيز الذكاء الاصطناعي؟

أنظمة الذكاء الاصطناعي
shutterstock.com/Alexander Limbach
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في عام 2018، علم الشعب الهولندي أن سلطات الضرائب الهولندية تستخدم نظاماً يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتوجيه التهم زوراً بارتكاب جرائم احتيال تتعلق برعاية الأطفال منذ سنوات عدة. إذ توقف عشرات الآلاف من الأهالي عن تلقي دعم رعاية الأطفال، بالإضافة إلى تلقيهم رسائل تطالبهم بسداد آلاف اليوروهات. وفي وقت لاحق، قرر نظام آخر تتحكم به الخوارزميات أن دخل بعض الآباء لم يعد كافياً لإعالة أسرهم، وأُبعد ما يقرب من 1,700 طفل قسراً عن منازلهم. كما توصل تحقيق أُجري لاحقاً إلى أن نظام الذكاء الاصطناعي مارس تمييزاً منهجياً ضد المواطنين الهولنديين من ذوي البشرة غير البيضاء.

وفي العام نفسه، قضت محكمة أسترالية أن حكومتها اعتمدت بطريقة غير قانونية نظام صناعة قرار مؤتمت مليء بالعيوب لتحديد أهلية المواطن للحصول على مزايا الرعاية الاجتماعية المختلفة، بعد أن طُلب من قرابة نصف مليون أسترالي إعادة أموال الدعم الحكومي للإعاقة أو البطالة التي تلقوها في السنوات الماضية. وانتحر ثلاثة أشخاص على الأقل بسبب التوتر الناجم عن فضيحة نظام روبوديت (Robodebt).

تُظهر هاتان الحالتان في بلدين يقعان على طرفي العالم بوضوح قاسٍ كيف يمكن أن يؤدي الاستخدام غير المسؤول للذكاء الاصطناعي إلى الإضرار بالعمال وعامة الناس، وكيف تلحق التكنولوجيا غير المنظّمة في المؤسسات الضرر بالمجتمعات أيضاً. كما تُظهر أن حماية حقوق العمل أمر لا بد منه لحماية حقوق الإنسان والحقوق المدنية أيضاً.

إدارة الذكاء الاصطناعي في العمل وخارجه

مع تزايد اعتماد المؤسسات على التكنولوجيا، تُستخدم أنظمة الإدارة الخوارزمية لكل شيء، بدءاً من عمليات التوظيف والتدريب وصولاً إلى جداول الأعمال وتقييم الأداء، أضف إلى ذلك تنامي أتمتة المهام، إذ أصبح الذكاء الاصطناعي يؤدي وظائف كان يؤديها البشر بغض النظر عن مدى نقص الذكاء فيه.

تُوصف هذه الأنظمة غالباً على أنها تزيد الكفاءة والإنتاجية وتتخذ قرارات أكثر حيادية، وذلك عن طريق تحييد النظرة الذاتية البشرية. ولكن في كثير من الأحيان تكرر الخوارزميات عدم المساواة والتحيزات وتضخمها، وتؤدي إلى زيادة مطالبة العمال برفع إنتاجيتهم، واستخدام بيانات الموظفين بطرق سرية ومسيئة. ليس لدى العاملين اليوم أدنى فكرة عن البيانات التي تُجمع منهم أو كيفية استخدامها لتقييم أدائهم، لأن هذه التقييمات تجريها أنظمة مؤتمتة مملوكة لجهات خارجية لا تكشف عن آلية عملها الداخلية.

والنتيجة قرارات توظيف وفصل بناءً على اعتبارات غامضة. فُصل في عام 2011 أكثر من 200 معلم في واشنطن العاصمة بسبب الأداء الضعيف، على الرغم من حصول بعضهم على تقييمات مثالية من مدرائهم، وذلك بسبب استخدام نظام تقييم أداء خوارزمي أعطى أهمية لدرجات اختبار الطلاب أكثر من أي اعتبار آخر. لكن الخوارزمية كانت مليئة بالعيوب، إذ فشلت في مراعاة المتغيرات الخارجة عن سيطرة المعلمين، مثل الفقر أو صعوبات التعلم لدى الطلاب.

تميّز أنظمة الإدارة المؤتمتة الأخرى بين العمال أو المتقدمين للوظائف بطرق لن تكون قانونية إذا اتبعها الموظفون، مثل أنظمة تقييم الذكاء الاصطناعي التي تربط إنتاجية العمال بالخصائص الشخصية مثل النوع أو العِرق أو الوزن؛ أو أنظمة التتبع الصحي التي تستبعد المتقدمين الأكثر عرضة لخطر الإصابة بالمرض أو الحمل. عندما يعجز العمال عن الوصول إلى الخوارزميات التي تستخدمها الشركات، يكاد يكون من المستحيل إثبات حدوث التمييز.

لكن المشكلة تتجاوز الشركات، فقد شهدنا أمثلة كثيرة على تشابك مستقبل المجتمع وحقوق العمال، فالأنظمة الغامضة المستخدمة لتقييم العمال تُستخدم أيضاً لتقويض الخدمات الحكومية العامة وخصخصتها. مع قيام الحكومات في جميع أنحاء العالم بالاستعانة بمصادر خارجية مثل شركات التكنولوجيا الخاصة لتقديم الخدمات العامة، وهو الاتجاه الذي انتشر بكثرة خلال جائحة كوفيد-19، سمحت الحكومات للشركات الخاصة بالوصول إلى البيانات العامة وإدارتها. وهذا من شأنه أن يقوّض الصالح العام بطرق عديدة، مثل السماح باستخدام البيانات العامة لزيادة أرباح الشركات وليس لتحسين الرفاهة العامة؛ ووضع تطبيق السياسات العامة في أيدي القطاع الخاص؛ وزيادة عدم الاستقرار في العمل، حيث تُستبدل الأنظمة المؤتمتة بالموظفين.

ونحن نعتقد أن حل هذه الفوضى بيد القطاع العام، والنقابات على وجه الخصوص، التي أدركت منذ فترة طويلة أنه عندما يعاني بعضنا، فإننا جميعاً سوف نعاني في نهاية المطاف.

حماية العمال حماية للجميع

أحد المبادئ الأساسية للنقابات هو الشفافية في الأجور وظروف العمل. الخوارزميات المملوكة التي يستخدمها العديد من الشركات الآن تعمل على تقويض هذا المبدأ تماماً، وهو ما يؤثر في طرق استجابة النقابات. كخطوة أولى، يحتاج العمال والنقابات إلى فهم آلية عمل الشركات المرقمنة، أي ما أنظمة الذكاء الاصطناعي المستخدمة في الشركات؟ وما البيانات التي تُستخدم لتدريب تلك الأنظمة؟ وما البيانات التي تؤخذ من الموظفين؟ وكيف تؤثر في قرارات التوظيف؟

ولتحقيق هذه الغاية، اختتم اتحاد ببليك سيرفيسيز إنترناشيونال (Public Services International) أو اختصاراً بي إس آي (PSI) وشركة واي نوت لاب (Why Not Lab)، مؤخراً مشروعاً لبناء القدرات مدته ثلاث سنوات، تحت عنوان “مستقبلنا الرقمي“، لنقابات الخدمات العامة في جميع أنحاء العالم. ومن خلال هذا المشروع درّبنا قادة نقابيين ومسؤولي تفاوض وخبراء قانونيين. ووضعنا توصيات لحماية حقوق العمال ونزاهة الخدمات العامة، وأنشأنا مراكز إقليمية لتنظيم الحقوق الرقمية لنقل هذه المعرفة إلى النقابات المحلية.

كما أنشأنا عداً من الأدوات الأخرى لمساعدة العمال والنقابات، مثل مركز المساومة الرقمية (Digital Bargaining Hub) الخاص باتحاد بي إس آي، لمساعدة النقابات على الاستعداد للمساومة على الحقوق الرقمية للموظفين، ودليل حوكمة الأنظمة الخوارزمية (Governance of Algorithmic Systems Guide) الخاص بشركة واي نوت لاب، وهو قائمة مرجعية للنقابات للتحدث بفعالية مع الإدارة حول المنتجات الرقمية المستخدمة في الشركات واستخدام بيانات العمال. أنشأت شركة واي نوت لاب أيضاً أداة دورة حياة البيانات في العمل (Data Lifecycle at Work)، لمساعدة النقابات على فهم كيفية جمع البيانات واستخدامها من قِبل الشركات، ويدعم اتحاد بي إس آي النقابات الشريكة لتضمين بنود جديدة في الاتفاقيات الجماعية، مثل سياسة “حق الدخول الرقمي“، التي توسع حق النقابات في دخول الشركات ليشمل حقها في معرفة ما هي التكنولوجيا التي تستخدمها الشركات وكيف.

ويتعين على النقابات أيضاً أن تدرك أنها جزء من نضال مشترك واسع النطاق يشمل العديد من القطاعات المختلفة وفي مختلف أنحاء العالم، الذي يربط حقوق العمال بحقوق أفراد المجتمع مع الذين يعتمدون على الخدمات العامة. يجب ألّا تكتفي النقابات باكتساب السلطة والحقوق فيما يتعلق بالرقمنة في الشركات، عليها أن تعمل أيضاً على التأثير في السياسات لضمان أن يكون هدف الرقمنة في الخدمات العامة زيادة الجودة والقدرة على الوصول والفعالية، وليس النتائج النهائية فحسب. ويجب عليها إشراك الجمهور لكي يفهم الدور الذي تؤديه التكنولوجيا في الأنظمة الحكومية، ونشر فكرة مفادها أن البيانات العامة يجب أن تخدم المنافع العامة. يعمل اتحاد بي إس آي وشركة واي نوت لاب وغيرهما من شركاء المجتمع المدني على تحقيق هذا الهدف الأوسع أيضاً، وذلك من خلال تأسيس منتدى العدالة الرقمية العالمي (Global Digital Justice Forum)، الذي يروج لفكرة مفادها أن الحكومات يجب أن تكون مسؤولة عن تنظيم البيانات، وليس الشركات.

الحوكمة الشاملة من أجل العدالة الرقمية

في عام 2024، ستناقش قمة المستقبل التي ستعقدها الأمم المتحدة الميثاق الرقمي العالمي للأمم المتحدة وتعتمده، وذلك لتحديد المعايير العالمية لمسؤولية الشركات في الاقتصاد الرقمي. وفي هذا الصدد، قدَّم المنتدى العالمي للعدالة الرقمية (Global Digital Justice Forum) توصية إلى الأمم المتحدة في شهر مايو/أيار الماضي، ترفض النموذج الذي يسمح للشركات بوضع شروط الحوكمة الرقمية، وتدعو إلى إطار جديد يقوم على مبادئ حقوق الإنسان والديموقراطية والمساواة والدور الصحيح للحكومات في وضع السياسة الرقمية. تمثل عملية التفاوض على اتفاق العام المقبل فرصة لتحدي شركات التكنولوجيا الكبرى والكفاح من أجل عقد اجتماعي أكثر ديموقراطية ومسؤولية فيما يتصل بإدارة البيانات والحقوق الرقمية الكاملة للعمال والمجتمعات.

يجب إعداد سياساتنا وممارساتنا الرقمية لتحقق الفائدة للجميع، وليس لمجرد قلة من الشركات، ويبدأ ذلك بالحرص على أن كل من يخضع لإدارة خوارزمية، مثل العمال والمواطنين، له الحق في تقرير أسباب استخدامها وكيفية استخدامها.

وهو مجال آخر يمكن للنقابات أن تقدم المساعدة عبر قيادته. في نقابة عمال قطاع الضيافة في لاس فيغاس، طُلب من عمال التدبير الفندقي استخدام تطبيق على الهاتف الذكي تقدمه المؤسسات التي يعملون بها. يتضمن التطبيق قائمة تفاعلية بالغرف المطلوب تنظيفها يمكن متابعتها مباشرة ومن كثب عبر جهاز المدير اللوحي. أدى التطبيق إلى زيادة المسافات التي يقطعها العاملون وزيادة عبء العمل. من أجل الحفاظ على استقلالهم، وثّق عاملو التدبير الفندقي الأماكن التي يرسلهم إليها التطبيق وقدموا خرائط توضح مدى عدم جدوى كمية العمل التي يطلبها الهاتف الذكي ومسارات الذهاب والعودة العبثية التي يولدها. ونتيجة لتوثيقهم، كسب الآلاف من عمال التدبير الفندقي صيغة إضافية في عقودهم النقابية تحافظ على قدرتهم على تنظيم عملهم بأنفسهم حتى في أثناء استخدامهم للهواتف الذكية.

لقد كان مثالاً بسيطاً ولكنه رائع للتصميم التشاركي، حيث شارك العمال في ضمان تقديم التكنولوجيا الفائدة وليس الضرر. نحن بحاجة إلى توسيع هذا المفهوم ليشمل فكرة الحوكمة الشاملة، فالطريقة الوحيدة التي تحقق بها الثورة التكنولوجية وعودها، هي إشراك المتأثرين بها في تشكيلها وإدارتها. يحق للعاملين الذين تديرهم الخوارزمية الوصول إلى تلك الأنظمة وفهمها. كما يجب على المجتمعات التي تدير الخوارزميات تفاعلاتها مع الحكومة أن تتمتع بالمعرفة والقدرة على الوصول إلى الأنظمة التي تؤثر في حياتها.

لو كانت هذه المبادئ مطبّقة في هولندا وأستراليا، حيث اتهمت الخوارزميات المشوبة بالعيوب والمتحيزة المواطنين زوراً بالاحتيال على الرعاية الاجتماعية، لما حدثت قطّ تلك الفضائح والمآسي الإنسانية التي تسببت بها. نجح اتحاد المجتمع والقطاع العام الأسترالي (CPSU)، وهو شريك لاتحاد بي إس آي في أستراليا والذي يمثل العمال الذين يديرون نظام الرعاية الاجتماعية، في التفاوض بشأن مجموعة من البنود في اتفاقهم الجماعي الجديد للسماح للعمال بالكشف عن السلوك غير الأخلاقي للخوارزميات في المستقبل. أثار الاتحاد باستمرار مخاوف بشأن نظام روبديت (Robodebt) واتُهم باتخاذ إجراءات إضراب غير قانونية بسبب الفضيحة. وفي النهاية، حُكم على النظام بأنه غير قانوني. واضطرت الحكومة إلى سداد الديون بالإضافة إلى التكاليف الإضافية للأشخاص الذين ألحقت بهم الخوارزمية الضرر.

إن تحولات السلطة التي تحدث خلال رقمنة الاقتصاد عميقة، مثلها مثل التحولات التي حدثت خلال الثورة الصناعية. أدت حينها انتهاكات الشركات في ظل اقتصاد سريع التغير إلى ظهور الحركة النقابية ومفهوم حقوق العمال، واليوم نواجه تحدياً وفرصاً مماثلة. إن بناء اقتصاد رقمي منصف وعادل يتطلب اقتلاع الأنظمة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المؤسسات والحكومات. معالجة كل هذه المشكلات لن يكون بالأمر السهل، ولكن إذا كانت النقابات وحلفاؤها مستعدين للنضال، فسيجدون فرصاً لتعزيز قوة العمال، والحفاظ على الخدمات العامة وتحسينها، واستعادة ديموقراطية السيطرة على البيانات العامة.

لم يكن أي من المكاسب التي حققها العمال هدية، بل نتيجة نضال مستمر. ويحتاج العمال والمجتمعات على حد سواء إلى إحياء هذا النضال الآن. الخطوة الأولى الجوهرية في هذا النضال تعزيز التضامن بين القطاعات والدول.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.