ما الذي يمكن أن نتعلمه من مشروع الجينوم البشري (Human Genome Project) حول توجيه التكنولوجيا الثورية للمنفعة العامة؟ ولماذا تعتبر الأسلحة النووية تشبيهاً غير مفيد؟
في مارس/آذار من عام 2023، كتب الرؤساء التنفيذيون لأكبر شركات الذكاء الاصطناعي رسالة شبّهوا فيها الذكاء الاصطناعي بالحرب النووية من حيث خطره على الوجود البشري. نجحت الرسالة في أن تتصدر عناوين الأخبار، واستحضرت صوراً من سلسلة أفلام "المدمر" (Terminator)، لكنها أخفقت في تكوين نظرة إيجابية عالمية إلى الذكاء الاصطناعي. تأثرت أفكار عديدة حول قدرات الذكاء الاصطناعي بمفهوم أنه بقوة السلاح النووي. ولكن "تشبيه هذه التكنولوجيا بالسلاح" جعل تنظيمها صعباً للغاية، إذ أدى ذلك بلا شك إلى سياسات تهدف إلى حشد الموارد لتحقيق التفوق الوطني في هذه التكنولوجيا.
تحتاج الجامعات والمختبرات الوطنية والقطاع الخاص في جميع أنحاء العالم إلى التعاون لتعزيز فوائد هذه التكنولوجيا بدلاً من اكتناز قدرات الذكاء الاصطناعي والتركيز فقط على الحد من مخاطرها. قد يبدو هذا الأمر مهمة مفرطة في التفاؤل ومستحيلة، ولكن منذ وقت ليس ببعيد، نجحت البشرية في تحقيق مثل هذا التعاون، ونجحت في تطوير فوائد تكنولوجيا أخرى مثيرة للجدل وهي التسلسل الجيني. في عام 1990، بدأت الحكومات في جميع أنحاء العالم بقيادة الولايات المتحدة الأميركية جهوداً استمرت 13 عاماً لرسم خريطة للحمض النووي البشري من خلال مشروع الجينوم البشري. أعتقد أنه يمكننا تحقيق مثل هذا التعاون مرة أخرى لضمان أن يساعد تقدم الذكاء الاصطناعي في ازدهار البشرية.
نظرة إلى الماضي: تاريخ مشروع الجينوم البشري
في البداية مولت معاهد الصحة الوطنية ووزارة الطاقة الأميركية هذا المشروع بقيادة بعض الشخصيات مثل عالم الطب الحيوي تشارلز ديلسي، ثم أصبح مشروع الجينوم البشري جهداً دولياً استجابةً للمخاوف العالمية حول الآثار الأخلاقية والقانونية والمجتمعية المترتبة على وضع خريطة الجينوم البشري. وبالنظر إلى هذه المخاوف الواسعة النطاق، شارك في المشروع فريق متعدد التخصصات من علماء الأحياء والفيزيائيين والكيميائيين وعلماء الكمبيوتر وعلماء الرياضيات والمهندسين. تعاونت عدة جامعات من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان وفرنسا وألمانيا والصين لوضع خريطة الجينوم المتسلسل، كما تضمنت الجهود المبذولة برنامجاً تكميلياً يقوده القطاع الخاص بقيادة شركة سيليرا كورب (Celera Corp) التابعة لشركة كويست داياغنوستيكس (Quest Diagnostics).
وكما هي الحال بالنسبة للذكاء الاصطناعي، كانت الخصوصية أحد المخاوف الرئيسية حول وضع خرائط الجينوم. كان الناس خائفين من أن تستغل المؤسسات وشركات التأمين الصحي البيانات المستمدة من خرائط الجينوم لممارسة التمييز، وطالبوا باستجابة من واضعي السياسات العامة. في عام 1996، أقرت الولايات المتحدة قانون إخضاع التأمين الصحي لقابلية النقل والمحاسبة (HIPAA)، الذي يحمي الأميركيين من الإفصاح غير المصرح به وغير المتفق عليه عن المعلومات الصحية التي تحدد هوية الأفراد لأي كيان غير مشارك بفعالية في تقديم خدمات الرعاية الصحية للمريض. كما جرت معالجة المخاوف الأخلاقية والقانونية المتعلقة بخريطة التسلسل الجيني والتخفيف من حدتها من خلال إنشاء برنامج بحث الآثار الأخلاقية والقانونية والاجتماعية (ELSI)، الذي تطلب تخصيص 5% من موازنة برنامج الجينوم البشري السنوية لمعالجة الآثار الأخلاقية والقانونية والاجتماعية الناشئة.
أما اليوم، فإننا نواجه الشكوك والمخاوف نفسها مع الذكاء الاصطناعي التوليدي. لقد وصلنا إلى مستوى غير مسبوق من التقدم العلمي الذي يبشر بوعود هائلة، لكنه ينذر بمخاطر هائلة في حال وقوعه في الأيدي الخطأ. في مشروع الجينوم البشري، اختارت البشرية أن تحشد مجموعة متعددة التخصصات من أصحاب المصلحة العالميين للمشاركة في تطوير التكنولوجيا ونشرها من أجل تحسين المجتمع، وقد أثمر ذلك بدرجة كبيرة من الناحيتين العلمية والاقتصادية، وعلينا أن نتبع هذا الخيار مرة أخرى.
يوفر مشروع الجينوم البشري دليلاً إرشادياً لوضع آليات ناجحة للحوكمة التعاونية والسياسات العامة التي تعزز تعاون الحكومات؛ والابتكار المنتج في مختلف القطاعات؛ والاستثمار في الحماية الأخلاقية والقانونية والاجتماعية. في الوقت الذي تحاول فيه الحكومات اتباع أساليب مختلفة في التعامل مع الذكاء الاصطناعي دون القدرة على وضع قواعد حوكمة ملموسة ومتسقة، يشير مشروع الجينوم البشري إلى خطوات محددة يجب اتخاذها.
مشروع الجينوم البشري خطة توجيهية قابلة للتنفيذ: القيادة الأميركية للتعاون العالمي
إن أول ما يمكن استخلاصه من برنامج الجينوم البشري هو أن الولايات المتحدة يمكن أن تكون قائدة للتعاون العالمي الذي يوجه السياسات العامة والبحث والتطوير. أصبح مشروع الجينوم البشري الذي أطلقته معاهد الصحة الوطنية بالشراكة مع وزارة الطاقة الأميركية جهداً حكومياً شاملاً عندما جرى تنظيمه رسمياً من خلال مخصصات الموازنة والسياسات العامة، ومثال ذلك إقرار قانون إخضاع التأمين الصحي لقابلية النقل والمحاسبة، الذي دفع باتفاقيات المبادرة إلى مستوى عالمي.
ثمة تحرك بشأن ريادة الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي، وينبغي أن يستمر هذا التوجه إلى جانب إنشاء وسيلة للتعاون العالمي. في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصدر البيت الأبيض أمراً تنفيذياً بشأن الذكاء الاصطناعي يهدف إلى تحقيق 3 أهداف، وهي صياغة معايير سلامة الذكاء الاصطناعي بتوظيف قوة المشتريات الحكومية، وتعزيز القوى العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي، ومعالجة مخاوف الأمن القومي. وبالمثل، تعهد قادة في الكونغرس بإنجاز عمل يتطلب سنوات من العمل في غضون أشهر، لضمان قيادة أميركا للعالم في تطوير السياسات التي تشجع الابتكار. كما تحدث صانعو السياسات من كلا الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) عن قدرة الذكاء الاصطناعي على إعادة رسم ملامح القطاعات وإحداث ثورة في الحياة اليومية ودفع عجلة النمو الاقتصادي. لكن بعد مرور أكثر من 6 أشهر، ما يزال أمام الولايات المتحدة الكثير من العمل الذي يتعين عليها إنجازه حيال التنظيم المسؤول للذكاء الاصطناعي، فضلاً عن أن المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا المكلف بالإشراف على جيل جديد من نماذج الذكاء الاصطناعي يعاني بسبب تخفيضات الموازنة ومشاكل في التمويل. ولتعزيز مكانة الحكومة الأميركية يجب أن تضفي الطابع المؤسسي على الذكاء الاصطناعي في وزارة يمكنها أن تقود التعاون العالمي وتطوير السياسات العامة وتكون المقر المالي لجهود الذكاء الاصطناعي العالمية التي تتجاوز مجرد التخفيف من المخاطر وتعمل على تسخير قوة الذكاء الاصطناعي من أجل الصالح الاجتماعي.
أما الإنجاز الثاني لبرنامج الجينوم البشري الذي ما زال يؤثر في وقتنا الحالي فهو مستوى التعاون العالمي الذي جرى تنظيمه من خلال اتفاق برمودا الذي وضع قواعد النشر السريع والعام لبيانات تسلسل الحمض النووي. وقد ولَّد هذا الجهد المتعدد الجنسيات لرسم خريطة الجينوم البشري كميات هائلة من البيانات حول التركيب الجيني للبشر والكائنات الحية الأخرى، حيث كانت هناك حاجة إلى مبادئ صارمة. اتفقت الحكومات على نشر بيانات تسلسل الحمض النووي جميعها في قواعد بيانات متاحة للجمهور في غضون 24 ساعة من توليدها. كما جعل الاتفاق بيانات التسلسل كلها متاحة للجميع لأغراض البحث والتطوير لتحقيق أقصى قدر من الفوائد للمجتمع. وقد صاغ اتفاق برمودا ممارسات القطاع كله وأرسى الإصدار السريع للبيانات قبل النشر باعتباره القاعدة في علم الجينوم والمجالات الأخرى.
وفي المجال النووي، عُقد اجتماع مماثل في قرية بوغواش في مقاطعة نوفا سكوتيا الكندية، لذلك دعا علماء بارزون إلى "قمة بوغواش" خاصة بالذكاء الاصطناعي. لقد أصبح من الواضح أن التجمعات الخاصة بكل بلد، مثل قمة سلامة الذكاء الاصطناعي في المملكة المتحدة، ليست كافية لتطوير رؤية وأسلوب مشتركين. يتطلب الذكاء الاصطناعي عملاً عالمياً، لذا من الضروري عقد اجتماع مماثل لاتفاق برمودا تحدد فيه الحكومات والقطاع الخاص قواعد توظيف النماذج اللغوية الكبيرة الجديدة، وسبل ضمان بقاء تلك النماذج متاحة للجميع، وطرق تخفيف الأضرار المحتملة، وصياغة رؤية لطريق تعزيز البحث والتطوير في النماذج اللغوية الكبيرة العامة بما يحقق أقصى قدر من الفوائد للمجتمع. وللاستفادة من الذكاء الاصطناعي بطريقة مسؤولة، يجب أن نتجه نحو تعاون دولي يمكّننا من التحكم في تطوير نماذج تأسيسية آمنة وموثوقة؛ وإتاحة الوصول للقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني للاستفادة من أفضل البيانات الممكنة؛ والاستثمار في تخفيف المخاوف الأخلاقية والقانونية والاجتماعية.
ثالثًا، أظهر لنا مشروع الجينوم البشري أن الحكومة يمكن أن تكون جهة فاعلة مسؤولة ومبتكرة عندما تستثمر قدراتها، ولا يعوق ذلك نمو القطاع الخاص. خصص الكونغرس 3.8 مليارات دولار لمشروع الجينوم البشري في الفترة ما بين 1988 و2003، ما ساعد على تحقيق أثر اقتصادي بقيمة 796 مليار دولار وتوليد 244 مليار دولار من إجمالي الدخل الشخصي. ومثّل ذلك عائداً على الاستثمار للاقتصاد الأميركي بنسبة أكثر من 141 إلى 1، ما أدى في عام 2010 وحده إلى توفير 310,000 وظيفة، و20 مليار دولار من الدخل الشخصي، و3.7 مليارات دولار من الضرائب الفيدرالية. وقد أظهر هذا العائد الاستثماري الكبير أن القطاع الخاص يمكن أن يزدهر عندما تقود الحكومة جهوداً علنية وشفافة لرسم خريطة الجينوم البشري. كما كان استثماراً مرتبطاً بالاعتبارات الأخلاقية لأنه خصص ما يصل إلى 5% من الموازنة لدعم الأبحاث حول الآثار الأخلاقية والقانونية والاجتماعية المترتبة على رسم خرائط الجينوم البشري.
في حالة الذكاء الاصطناعي، يجب على الكونغرس أيضاً تخصيص الأموال اللازمة لتمكين جهد له نطاق وطني ويشمل التعاون بين مكونات منظومة البحث والتطوير الثلاثة، وهي الجامعات والمختبرات الوطنية والقطاع الخاص. وينبغي أن يستلزم هذا الجهد تعاوناً دولياً مع اتحاد شركات ذات تفكير مماثل في جميع أنحاء العالم شمالاً وجنوباً، وينبغي أن يشكل هذا الاتحاد شبكة من العلماء وعلماء الأخلاق وخبراء التكنولوجيا الذين من شأنهم تطوير الأسلوب الأمثل والأخلاقي لاستخدام الذكاء الاصطناعي وما يتبعه من بحث وتطوير مستمر للنماذج والتطبيقات. من دون استثمار حقيقي في البحث والتطوير يضمن أن يخدم الذكاء الاصطناعي المصلحة العامة، فمن غير المرجح أن نرى النوع نفسه من التأثير المجتمعي الإيجابي للذكاء الاصطناعي الذي رأيناه من مشروع الجينوم البشري.
ونظراً للازدهار الاقتصادي الذي يمكن أن ينجم عن التعاون العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي، فإن الوقت ليس مناسباً للتقشف. يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تستثمر في الذكاء الاصطناعي الواعد بالحماسة نفسها التي استثمرت بها في مشروع الجينوم البشري طوال تلك السنوات الماضية.
هل ثمة آفاق واعدة للذكاء الاصطناعي؟
من المؤكد أن المقارنة بين الذكاء الاصطناعي التوليدي والتسلسل الجيني ليست مثالية. إن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس لها حتى الآن نقطة نهاية محددة مثل مشروع الجينوم البشري الذي يمكننا أن نقول إنه قد اكتمل. سنحتاج إلى حوكمة عالمية بطريقة غير مباشرة ومن نواحٍ عديدة، لأن الكثير من التكنولوجيات والنماذج التأسيسية موجودة بالفعل. حتى في هذه الحالة، لم نفقد كل شيء. يمكن لجهود شبيهة بمشروع الجينوم البشري أن تخلق تضافراً بين مختلف الأساليب العالمية لتنظيم التكنولوجيا، وتضع قواعد للتطوير المستمر للنماذج اللغوية الكبيرة وممارسات توظيفها، والأهم من ذلك البدء ببناء مشروع يعادل مشروع الجينوم البشري للمصلحة العامة. ممكن أن يكون ذلك المشروع نموذجاً لغوياً كبيراً متاحاً للجمهور يمكن تطويره وفقاً لقيم خبراء التكنولوجيا المهتمين بالمصلحة العامة ودعمه والحفاظ عليه متاحاً للمؤسسات الأهلية التي تستخدمه للعمل على التحديات الكبرى في عصرنا. أظهر لنا مشروع الجينوم البشري أن إكمال خريطة الجينوم كان مجرد بداية لتقدم واسع النطاق في الطب والزراعة والطاقة والحفاظ على البيئة.
قد يقول قائل إن التطور الأخير لمعهد سلامة الذكاء الاصطناعي الأميركي واتحاد شركات عالمي هو الحل. تتمثل رسالة المعهد في تطوير علم سلامة الذكاء الاصطناعي ووضع معايير صارمة لاختبار النماذج وضمان سلامتها للاستخدام العام، ولكن في هذه الحالة أيضاً وبالمقارنة مع مشروع الجينوم البشري، يقتصر التركيز على السلامة وتخفيف المخاطر وليس السعي فعلياً لبناء البنية التحتية العامة للذكاء الاصطناعي التي من شأنها أن تزرع بذور الابتكار العلمي والتنمية الاقتصادية التي نتجت عن مشروع الجينوم البشري.
نعم، من الصعب تحويل الانتباه بعيداً عن تصوير التكنولوجيا التي تثير القلق من المجهول على أنها "السلاح النووي" المقبل، ويجب عدم التقليل من أهمية السلامة. لكن المرحلة الحالية للذكاء الاصطناعي تتطلب قيادة عامة توجهنا نحو رؤية للذكاء الاصطناعي تخدم مصلحتينا العامة والاجتماعية، على غرار التعاون العالمي والحوكمة المشتركة، وليس رؤية تعتبره سلاحاً فقط.
ما كان يستغرق 134 عاماً -أي تحديد جين جديد- يستغرق الآن 6 أسابيع بفضل التطورات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي التوليدي. توصل إلى هذا الاكتشاف الصيف الماضي باحثون في جامعة ستانفورد الذين درّبوا أنظمة ذكاء اصطناعي مشابهة لتشات جي بي تي (ChatGPT) على بيانات أولية لخلايا حقيقية لمعرفة إذا ما كان بإمكان هذه الأنظمة أن تعلّم نفسها علم الأحياء. ويعد ذلك أحد الإنجازات غير المسبوقة العديدة التي حققها الذكاء الاصطناعي ويمكن أن يساعد في تحقيقها. يجب ألا نقف مكتوفي الأيدي بسبب الطبيعة الصعبة لتنظيم الذكاء الاصطناعي وألا نقلل من مخاطره؛ ويجب ألا نتعامل مع هذه التكنولوجيا كما تعاملنا مع الأسلحة النووية. يجب علينا أن نراجع تاريخنا لمعرفة سبل المضي قدماً نحو عملية تعاونية تمكننا من التحكم في تطوير نماذج تأسيسية آمنة وموثوقة؛ وتعزيز الوصول العادل والفرص المتكافئة للابتكار الذي ينشأ في أفضل البيانات الممكنة؛ والاستثمار في تخفيف المخاوف الأخلاقية والقانونية والاجتماعية التي ينطوي عليها الذكاء الاصطناعي.