هل يحدّ الواقع الافتراضي من الجرائم؟

تكنولوجيا الواقع الافتراضي
shutterstock.com/SAQUIZETA
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في أغلب الأحيان يعجز السجناء السابقون عن الاندماج في المجتمع من جديد، وترتفع معدلات معاودة الإجرام في العالم بسبب العوائق الاجتماعية التي تمنعهم من الحصول على الوظائف وتحرمهم من التعليم وتجعلهم غير قادرين على تأمين السكن. البطالة هي العامل الأول في تحديد إمكانية معاودة الإجرام، وتقول وزارة العدل الأميركية إن 60% من السجناء السابقين في الولايات المتحدة يعانون البطالة في الأشهر التي تلي الإفراج عنهم، ويبقى أكثر من ربعهم من دون عمل على المدى الطويل. مثلاً، توصلت دراسة أجريت على إحدى مناطق مدينة إنديانابوليس إلى أن 26% فقط من السجناء السابقين الحاصلين على وظائف يعاودون ارتكاب الجرائم، بمقابل 42% ممن لم يحصلوا على وظائف. كما يواجه كثير منهم صعوبة في تأمين سكن ثابت؛ وفقاً لتقرير مبادرة سياسة السجون (Prison Policy Initiative) في عام 2018، فاحتمالات تشرد السجناء السابقين أكبر منها للمواطنين الأميركيين العاديين بنحو 10 أضعاف.

أنشئ في شهر يوليو/تموز من عام 2022 مختبر أبحاث يعمل على تغيير هذه الإحصاءات: مختبر ماكس لاب فرايبرغ (MAXLab Freiburg)، الذراع المتخصص في الواقع الافتراضي لقسم علم الجريمة في معهد ماكس بلانك لدراسة الجريمة والأمن والقانون (Max Planck Institute for the Study of Crime, Security, and Law) في مدينة فرايبرغ الألمانية، وهو في طليعة الحركة المتجهة نحو استخدام تكنولوجيا الواقع الافتراضي لفهم الجريمة وردعها ومنعها.

يقول مدير المختبر ومدير الإدارة في قسم علم الجريمة بالمعهد، جان لوي فان غيلدر: “الجريمة هي مشكلة اجتماعية خطيرة، ونحن نحاول التوصل إلى حلول لوضع حدّ لها”.

جمعية ماكس بلانك لتقدم العلوم (Max Planck Society for the Advancement of Science) هي شبكة الأبحاث الأهم في ألمانيا، يقع مقرها الرئيس في مدينة ميونيخ وتبلغ ميزانيتها السنوية مليارَي دولار بتمويل حكومي وفيدرالي شبه كامل، وقد أوكلت إلى فان غيلدر قيادة قسم أبحاث علم الجريمة في مدينة فرايبرغ عام 2019. استثمر المعهد نحو 50 ألف جنيه إسترليني لتجديد مكان في وسط مدينة فرايبرغ وتجهيزه بأجهزة الكمبيوتر ونظارات الواقع الافتراضي، علماً أن قسم علم الجريمة في المعهد يضم نحو 25 باحثاً منهم مختصون في علم النفس وعلم الاجتماع، وعالم إحصاء واحد، ويعمل نصفهم حالياً مع مختبر ماكس لاب.

يعمل قسم علم الجرائم على استكشاف الحلول التي تمنع وقوع الجرائم من خلال سيناريوهات الواقع الافتراضي، حيث يُدعى سجناء هولنديون ذكور إلى ارتداء نظّارة الواقع الافتراضي ومقابلة أنفسهم في المستقبل، ووفقاً للنتائج الأولية، قال هؤلاء الرجال عبر الإبلاغ الذاتي إنهم بعد أسبوع من التجربة شعروا بأن احتمالات مخالفتهم شروط المراقبة ومعاودتهم الإجرام أصبحت أقل، كما أبلغ المراهقون الذين التقوا أنفسهم المستقبلية الافتراضية أنهم شعروا برغبة أقل في الغش في الاختبارات. ولكن ما زال غير معروف إذا ما كانت هذه الإجراءات التدخلية قادرة على الحد من ارتكابهم الجرائم على أرض الواقع.

تحفيز السلوك

على مدى 3 عقود تقريباً، استخدم علماء العالم تكنولوجيا الواقع الافتراضي لدراسة السلوك، لا سيما في مختبر جامعة ستانفورد للتفاعلات الإنسانية الافتراضية الذي أُسِّس عام 2003، نما لدى فان غيلدر شغف بالواقع الافتراضي في تسعينيات القرن الماضي، ولكن حين حضر أحد مؤتمرات جمعية القانون والمجتمع في عام 2009 سمع عن دراسة تمكن المشاركون فيها الذين التقوا شخصياتهم الافتراضية الأكبر سناً من توفير المال لتقاعدهم أكثر من غيرهم. وحين فكر في هذه النتائج، افترض أنه بالإمكان استخدام التكنولوجيا نفسها لمنع الناس من ارتكاب الجرائم.

أوحت له هذه الفكرة بإجراء أولى دراسات مشروع فيوتشر يو (FutureU) في عام 2013، وتوصل من خلالها إلى أن “المشاركين الذين كتبوا رسالة إلى أنفسهم في المستقبل قلَّت احتمالات اتخاذهم خيارات إجرامية، وأن المشاركين الذين التقوا النسخة الرقمية الافتراضية من أنفسهم المستقبلية المتقدمة بالسن وتحدثوا إليها في بيئة افتراضية شبه واقعية قلّت احتمالات أن يلجؤوا إلى الغش في المهام التي أدوها لاحقاً”. وفي دراسته التالية نفّذ فان غيلدر مشروع السطو الافتراضي؛ وضع لصوصاً محكومين بالسجن في هولندا ضمن حي افتراضي وطلب منهم توضيح اختيارهم للمنازل التي يحتمل أن يسطوا عليها وطريقة السطو وما يمكن أن يسرقوه منها، توصل من خلال هذه الدراسة التي نشرت عام 2017 إلى أن قرارات اللصوص في السطو على المنازل الافتراضية تماثلت مع قراراتهم على أرض الواقع.

وفي عام 2019، دعت وزارة العدل الهولندية فان غيلدر وفريقه للمشاركة في مشروع لتحصين الأحياء السكنية من السرقة بدرجة أكبر، وقد شارف الفريق على إنهاء الدراسة الآن، ومن المتوقع أن تصدر نتائجها العام المقبل. أُجريت هذه الدراسة بمشاركة 160 لصاً محكوماً بالسجن وُضعوا في نسخة افتراضية عن حيّ هولندي لاختبار تأثير ربط إنارة الشارع بأجهزة رصد الحركة في ردعهم عن السرقة، إذ إنها تضيء بمجرد اقترابهم.

في شهر يونيو/حزيران من عام 2021، أجرى فريق مدينة فرايبرغ تجربة سماها عراك المقهى الافتراضي لاختبار ما يدفع الرجال إلى التدخل أو عدم التدخل في حوادث التحرش أو العنف التي تحدث أمامهم. استأجر الباحثون مقهى في مدينة أمستردام ووظفوا ممثلين في دور العاملين ليمثلوا مشهد تحرش وخلاف يؤدي إلى عراك عنيف، ثم أدخلوا مئات المشاركين الخاضعين للاختبار، وأغلبهم طلاب جامعيون، إلى المكان عبر نظارات الواقع الافتراضي لمراقبة ردود فعلهم، ثم طلبوا منهم التحدث عن تجربتهم. يعمل فريق الباحثين حالياً على تحليل النتائج التي ستُنشر على الأرجح الربيع المقبل، وسيجري الدراسة نفسها بعد ذلك على مجموعة جديدة من المشاركين من أجل قياس معدلات نبض القلب وحركة العيون ومستويات هرمون الكورتيزول وغيرها من المقاييس على أمل أن يتمكن من تحديد احتمالات تدخل المشاركين لمنع السلوك الإجرامي أو الإبلاغ عنه أو تجاهله أو المشاركة فيه حتى.

يأمل المختبر أن يتوصل إلى الطرق التي يمكن للناس اتباعها للحد من المخالفات أو منعها من خلال مراقبة ردود فعل المشاركين في البحث تجاه السلوك الإجرامي في الواقع الافتراضي.

يقول كبير الباحثين في مختبر ماكس لاب، تيم بارنوم، موضحاً: “نعتقد عادة أن الإنسان يتصرف بعقلانية، ولكن العواطف تشوش أحكامه، يمكننا باستخدام الواقع الافتراضي وضع الناس في مواقف قريبة من السلوك الإجرامي قدر الإمكان لمعرفة تأثيرها على قراراتهم”.

من الممكن مثلاً أن يشهد جميع الموجودين في المقهى حادثة تحرش أمامهم، ولكنهم يترددون في التدخل لإيقافها، يطلق علماء الجريمة على هذا السلوك اسم تأثير المتفرّج (bystander effect)، وأجروا عليه دراسة على مدى أكثر من قرن من أجل فهم سبب تواطؤ ملايين المواطنين الألمان مع المحرقة الشهيرة. والآن يراقب فريق مختبر ماكس لاب ردود فعل المشاركين تجاه مشاهد الأذى في الواقع الافتراضي ضمن المختبر على أمل اكتشاف الطرق التي يمكن اتباعها لحث الناس على التدخل ومنع الإساءة أو تهدئة الموقف.

يقول فان غيلدر: “إذا كان 5 أشخاص يشاهدون موقفاً يفسرونه جميعهم على أنه إساءة، فمن الضروري أن تتوفر طريقة ليتواصلوا فيما بينهم من أجل التدخل. ما إن ندرك الديناميات في المواقف التي يتدخل الناس فيها وطرق تدخلهم سنتمكن من تحسين احتمالات أن يتدخلوا لمنع الإساءة بالفعل”.

ردع الجريمة

يستند جزء كبير من أبحاث المختبر إلى المبدأ النفسي الذي يقول إن الدافع لارتكاب جريمة ينبع من التفكير القصير الأمد وليس الطويل الأمد، فالإشباع الآنيّ للحاجة يتغلب على التبعات البعيدة الأمد الأقلّ وضوحاً. مثلاً، من الممكن أن يسرق شخص الطعام لأنه يحتاج إلى الطعام، أو يسرق منزلاً لأنه يرغب في سرقة تلفاز، ولكنه يتخذ قراراً سريعاً بغضّ النظر عن شرعيته، ولا يفكر كثيراً بالمقايضات البعيدة الأمد.

يقول فان غيلدر موضحاً: “أسرق الآن وأحصل على الفائدة الآن، ولكن إذا ألقي القبض عليّ فستتكشف التبعات لاحقاً؛ أُسجن وأُطرد من المدرسة. يدور مشروع فيوتشر يو حول فكرة أن مواجهة النفس المستقبلية أو التفاعل معها يقلل من احتمالات اتباع سلوك يؤدي إلى تدمير الذات”. تقول نتائج دراسة حديثة نشرت في شهر فبراير/شباط إن فريق فان غيلدر “لاحظ تراجعاً في السلوكيات التي تؤدي إلى تدمير الذات، كاتباع عادات غذائية غير صحية أو الإفراط في إنفاق المال مثلاً، بين الرجال الذين أجروا محادثات مع أنفسهم المستقبلية في الواقع الافتراضي لمناقشة أهداف حياتهم المستقبلية. يعمل الفريق اليوم على تكرار التجربة في سجن بولاية بنسلفانيا، يقول فان غيلدر: “تخيل أن تنقص معدلات معاودة الإجرام بنسبة 10% بعد 10 جلسات في الواقع الافتراضي. ستكون هذه النتيجة مذهلة”.

ولكن هل اللقاء مع النفس المستقبلية يكفي لإقناع الإنسان بتغيير سلوكه في الحاضر؟

أشارت المرشحة لدرجة الدكتوراة في علم الجريمة التي تعمل على مشروع فيوتشر يو، أنيك سيزنغا، إلى أن دراسة مشابهة أجريت على طلاب جامعيين في هولندا خلصت إلى أن المشاركين غيروا عاداتهم الغذائية إلى الأفضل وقللوا إنفاق المال بما يتعدى إمكاناتهم بعد أسبوع واحد من اللقاء بأنفسهم المستقبلية الافتراضية. تقول سيزنغا إن هدف دراسة فيوتشر يو التي يجريها مختبر ماكس لاب هو اكتشاف إن كان “توجيه تفكير الإنسان نحو المستقبل يؤدي إلى زيادة تركيزه على أهدافه”. تقول سيزنغا إنها في أثناء الدراسة التي أجرتها في هولندا عام 2021 تفاجأت “بعدد المشاركين الذين ذكروا التوتر والثقة بالنفس، كانوا شباناً بسن 18-19 عاماً يتحدثون عن هذه المخاوف العميقة”.

بعض الإجراءات التدخلية القائمة على الواقع الافتراضي تؤدي إلى تغيير حياة الناس ولربما إنقاذها، ففي هولندا، يستخدم مشروع حكومي يدعى “لا تنساني” (Don’t forget me) الواقع الافتراضي في محاولة لتخفيض معدلات معاودة جرائم العنف الأسري عن طريق تعريض المجرمين المدانين إلى مشاهد توضح أثر إساءاتهم على ضحاياهم. يقوم هذا البرنامج على دراسة أجريت في عام 2011، حيث استعان الباحثون بالواقع الافتراضي ليضعوا رجالاً إسبانيين أدينوا بجرائم عنف أسري في جسد امرأة ليختبروا سلوكهم العنيف من منظورها، يقول مؤلفو الدراسة إن الأساس المنطقي لتبادل الأدوار بين الرجل والمرأة في هذه التجربة هو أن “الرجل الذي ارتكب جريمة عنف أسري يعاني صعوبة في فهم وجهة نظر ضحيته سواء كانت طفله أو زوجته”. توصلت الدراسة إلى أنه نتيجة لهذا الأثر الذي يوقعه الواقع الافتراضي تمكن عدة رجال من فهم تعابير الخوف التي تظهر على وجوه زوجاتهم علماً أنهم كانوا يعجزون عن ذلك من قبل، ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى تقليل احتمالات ارتكاب جرائم العنف في المستقبل.

تعمل الحكومة الإسبانية الآن على تطبيق تجربة هذا البحث، إذ يخضع المدانون بجرائم العنف في فترة المراقبة إلى جلسات الواقع الافتراضي حيث تتضمن مواقف عنف يحضرها أطفال ويشهدون ردود فعلهم تجاه بوادر العنف من خلال عيون الأطفال. يأمل الباحثون أن يتمكنوا من تحديد قدرة هذه التجربة على تقليص احتمالات عودة هؤلاء الأشخاص إلى ارتكاب جرائم العنف الأسري من جديد في المستقبل.

من الضروري ملاحظة أن هذا النوع من الإجراءات التدخلية التي يخضع إليها المدانون بالعنف الأسري في إسبانيا أو في تجربة عراك المقهى التي يجريها مختبر ماكس لاب تقوم على الاعتقاد بأن الواقع الافتراضي يساعد على زيادة التعاطف تجاه الآخرين، ولكن من المحتمل ألا يكون ذلك صحيحاً. إذ أجري تحليل ميتا (التجميعي) في عام 2021 على 43 دراسة قائمة على الواقع الافتراضي توصل إلى أن “الواقع الافتراضي يهيج مشاعر التعاطف لدى المستخدم ولكنه لا يحثه على تخيل وجهة نظر الآخرين”.

تطوير النفس

يستخدم الواقع الافتراضي أيضاً بهدف تحسين النتائج الصحية، ففي الولايات المتحدة يستخدم العلاج بالواقع الافتراضي بالفعل في مساعدة المحاربين القدماء على تجاوز اضطراب ما بعد الصدمة، ومن الممكن استخدامه قريباً لإعادة تأهيل المرضى الذين أصيبوا بالسكتة الدماغية، ويفكر الأطباء المختصون في طرق الاستفادة منه للتغلب على اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD) واضطراب طيف التوحد.

رجل يجلس أمام جهاز كمبيوتر ويراقب شخصاً يرتدي نظّارة الواقع الافتراضي
كبير الباحثين تيم بارنوم (إلى اليسار) يشارك في تجربة عراك المقهى التي يجريها المختبر. (استُخدمت الصورة بإذن من مختبر ماكس لاب)

تقول الباحثة الزائرة في مشروع فيوتشر يو، ماغي ويب، إن أعظم فائدة لتكنولوجيا الواقع الافتراضي هي تخفيف الاكتئاب ومنع الانتحار: “يسبب الاكتئاب صعوبة التفكير في المستقبل، والواقع الافتراضي ينشط القدرة على التفكير في المستقبل نوعاً ما”.

تعمل ويب الآن على تصميم تجربة يستعمل المراهقون المصابون بالاكتئاب فيها الواقع الافتراضي للالتقاء بأنفسهم المستقبلية في موقف مستقبلي إيجابي، مثل التخرج في الثانوية العامة أو الجامعة أو في أثناء إجازة ممتعة. تقول ويب: “حين يمر المراهق بتلك التجربة الإيجابية بطريقة حقيقية مفعمة بالحيوية سيتمكن من التفاعل مع نفسه المستقبلية التي تعيش تلك النتيجة الإيجابية”، وذلك سيحفزه على التفكير في تجارب الحياة التي ستفوته إن لم يبق على قيد الحياة.

تعتقد ويب أن جلسات العلاج النفسي في المستقبل ستتضمن محادثة مع النفس المستقبلية عبر تكنولوجيا الواقع الافتراضي، وأنه من الممكن أن تصبح هذه التجربة جزءاً من الحياة اليومية. خذ محبي ألعاب الفيديو مثلاً، فهم منغمسون بالفعل في عوالم الواقع المعزز ويمكن أن يخوضوا تجارب الواقع الافتراضي المتعلقة بمنع الانتحار كنوع من الدعاية، ويمكن دمج هذا النوع من التجارب في الألعاب التي يلعبونها بالفعل.

لطالما استخدم المعالجون النفسيون أساليب العلاج بالتعرض لمساعدة المرضى في التغلب على الخوف من المرتفعات أو العناكب مثلاً عن طريق تعريضهم لهذه الأمور بجرعات خفيفة في بيئات آمنة وخاضعة للمراقبة، ولكن توضح ويب أنه: “يمكن استخدام الواقع الافتراضي كوسيلة مكمّلة أو بديلة يستعين بها المعالج النفسي ليخوض المريض تجربة مع ما يخاف منه، فالواقع الافتراضي يتيح له الوقوف عند حافة سطح مبنى مرتفع مثلاً، وبالتالي سيعيش الموقف المخيف بكل تفاصيله بصورة افتراضية من دون تنفيذه حقيقة”.

تهدف ويب من هذا العمل إلى دراسة إمكانية استخدام المعلومات التي سيتوصل إليها مختبر ماكس لاب في تحسين الصحة النفسية للسجناء الشباب في الولايات المتحدة وتخفيض معدلات معاودتهم الإجرام، إذ تزيد احتمالات معاناتهم اضطرابات نفسية 4 أضعاف مقارنة بالشباب الأحرار.

تقول: “حين يكون الإنسان بسن تتراوح بين 18 و24 يكون دماغه مستمراً بالتطور لا سيما في المناطق المتعلقة بالتأمل الذاتي، وغالبية السجناء في الولايات المتحدة ينتمون إلى هذه الشريحة العمرية”. ترجو ويب أن يؤدي تعريض المجرمين اليافعين إلى تجربة اللقاء بأنفسهم المستقبلية والتحدث إليها بواسطة الواقع الافتراضي إلى إضعاف عقلية التفكير القصير الأمد لديهم ومساعدتهم على اتخاذ قرارات أفضل على المدى البعيد.

المخاوف المنهجية والأخلاقية

على الرغم من أن تكنولوجيا الواقع الافتراضي تبدو أداة واعدة لتحسين الصحة النفسية، فمن غير المعروف بعدُ إن كانت ستفيد فعلاً في توقع الجريمة ومنعها، كما أن استخدامها في حل مشكلات الجريمة وأذهان المجرمين ما زال موضع نقاش.

علم الجريمة هو العلم الذي يدرس المجرمين وأسباب ارتكاب الجريمة، وما يزال موضع خلاف منذ 150 عاماً بسبب اقتصار تركيزه على قرارات الشخص واعتبارها سبب ارتكاب الجريمة، كما أنه تأخر في إدراك أثر المجتمع في خلق “الجريمة” و”المجرمين” بسبب التفاوت المنهجي والعنصرية، وبسبب كتابة القوانين التي تحدد عناصر الجريمة وعقوبتها بصورة أساسية.

من أجل دراسة إمكانية حض الإنسان على اتباع سلوك غير أخلاقي، ابتكر علماء الجريمة الأميركيون في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مجموعات تجارب مدروسة وحساسة أحياناً لمراقبة ديناميات الانصياع، أو طرق حض الناس على فعل أمور غير مألوفة أو غير أخلاقية. أشهر هذه المجموعات كانت تجارب ستانلي ميلغرام في عام 1963 على الانصياع، حيث أقنع الباحثون بعض المشاركين بتعريض البعض الآخر إلى صدمات كهربائية، وتجربة فيليب زيمباردو في سجن ستانفورد حيث أخذ بعض المشاركين دور حراس السجن وأساؤوا إلى السجناء (في عام 2018 انتشرت فضيحة حول دراسة زيمباردو على اعتبارها احتيالية وغير أخلاقية).

يقول فان غيلدر: “لا يتيح لنا الواقع الافتراضي صنع نسخة عن العالم الحقيقي فقط، بل يتيح لنا صنع عالم مختلف أيضاً”.

في عام 2006، عمل فريق يضم عدداً من علماء النفس في مدينة لندن على تنفيذ نسخة من تجربة ميلغرام بتنفيذ صدمات كهربائية افتراضية لاختبار الرجال في العقدين الثالث والرابع من العمر، توصل الفريق إلى أن المشاركين، الذين لم يعلموا أن المتدربين والصدمات على حد سواء ليسوا حقيقة، أبدوا تكدراً بمستويات مماثلة للتكدر الذي شعر به المشاركون في التجربة الأصلية عام 1963، وبالتالي استنتجوا أنه إذا ثبت أن تجارب الواقع الافتراضي الأخرى تحاكي التجارب الحقيقية بنفس الدقة فهذه التكنولوجيا سوف “تعيد فتح الباب” لمجموعة اختبارات لا يمكن إجراؤها في عالمنا الحقيقي.

يعبر الناقدون اليوم عن مخاوفهم من أن علماء الجريمة لا يطبقون تكنولوجيا الواقع الافتراضي الجديدة سوى على مسائل لم نتوصل إلى حلولها، ولعلنا لن نتوصل إليها أبداً.

يقول أستاذ أخلاقيات الواقع الافتراضي في جامعة ووترلو، دانييل هارلي: “ثمة ما يدفعنا إلى ربط السمات الشخصية بالسلوك الإجرامي، وقد يكون الواقع الافتراضي وسيلتنا الوحيدة لطرح بعض الأسئلة القديمة. ولكن الأداة الجديدة لن تكون كافية إذا لم نفكر بالأحداث الهيكلية بعيداً عن الفرد نفسه، مثل آثار التمييز العنصري المنهجي أو الاستعمار أو التفاوت البنيوي”.

في الحقيقة، قد يؤدي الواقع الافتراضي إلى تشتيت انتباهنا عن معالجة المشكلات المنهجية مثل ممارسة الشرطة درجة أعلى من الرقابة وإصلاح السجون والعنصرية المؤسسية والتفاوتات في شبكات الأمان الاجتماعي مثل الرعاية الصحية والسكن. يقول هارلي: “خطورة الواقع الافتراضي هي أنه يجعلنا نعتقد أن المشكلة تكمن في الفرد نفسه وأن الحل يكمن في التكنولوجيا“.

يعتقد هارلي أن الواقع الافتراضي غير قادر على معالجة الأسباب الأساسية للتمييز في جهاز القضاء، فالنظام المعدّ لتجريم فئات محددة من الناس وسجنهم لأنهم يُعتبرون “منحرفين” أو لديهم ميول “انحرافية” لن يستطيع منع رجل أدين بجريمة سابقة من معاودة السرقة إذا لم تتوفر له شبكة أمان؛ وظيفة وسكن ثابت وطعام. ويقول هارلي أيضاً إن المشكلة ستنشأ أيضاً “إذا لم نفكر في التبعات الهيكلية التي تتعدى الاعتبارات المتعلقة بالفرد نفسه، أي الآثار الناجمة عن التمييز العنصري المنهجي”.

في ظل هذه الصعوبات، يتمثل أعظم التحديات التي يواجهها باحثو مختبر ماكس لاب، وغيرهم من علماء الجريمة الذين يعتمدون الواقع الافتراضي، في إثبات أن هذه التكنولوجيا قادرة على تحفيز الأفراد على اتباع سلوك يؤدي إلى الحد من الجرائم. كما يحاول علماء الجريمة استخدام الواقع الافتراضي للتغلب على مشكلة عدم حضور الجريمة.

يقول فان غيلدر إن “القوة الحقيقية لتكنولوجيا الواقع الافتراضي هي أنها تمكّنك من تمثيل أحداث معقولة في بيئة آمنة وطرق أخلاقية”، ويضيف أن لجنة مختصة بالشؤون الأخلاقية في جمعية ماكس بلانك تراقب جميع دراسات المختبر لضمان ألا تؤدي إجراءات المختبر التدخلية القائمة على الواقع الافتراضي إلى تعريض المشاركين لخطر الصدمة أو اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) أو غيرها من الآثار النفسية السلبية.

ومع ذلك فقد أثارت إجراءات تدخلية أخرى قائمة على الواقع الافتراضي مخاوف أخلاقية، مثل التي وضعت أعضاء لجنة المحلفين في نسخ افتراضية من مسرح الجريمة ليروا الجريمة بأنفسهم بدلاً من الاعتماد على شهادات الشهود غير الموثوقة أو على ذاكرتهم؛ في دراسة أجريت عام 2021، توصل الباحثون إلى أن المشاركين الذين وضعوا في مسرح جريمة افتراضي استطاعوا تذكر أماكن الأشياء والأدلة أكثر من أعضاء لجنة المحلفين الذين اعتمدوا على صور هذه الأدلة. يخشى بعض محامي الدفاع من أن وضع أعضاء لجنة المحلفين في مسرح الجريمة الافتراضي سيولد لديهم شعوراً زائفاً بأنهم يتعاملون مع جميع المعطيات التي أثرت في تفكير المتهم، وفي الواقع، من المحتمل أن يغفلوا عن أدلة سياقية متكاملة لا تنحصر في الروائح والأصوات التي سببت توتر مرتكب الجريمة، بل تشمل خوفه الناجم عن مواجهة سلبية سابقة مع الشرطة.

يقول عالما القانون، مارك ليملي ويوجين فولوك في مقال ألفاه عام 2018 في مجلة لو ريفيو (Law Review) التابعة لجامعة بنسلفانيا: “سيواجه القانون مشكلات صعبة بسبب تكنولوجيات الواقع الافتراضي والواقع المعزّز، فعمق الواقع الافتراضي سوف يتحدى الخطوط التي يرسمها القانون بين الحضور والتباعد الجسديين، وبين السلوك الفعلي والأقوال، وبين الأذى الجسدي والأذى النفسي”.

ولكن هذه الحدود هي تحديداً ما يعمل فان غيلدر وفريقه في مختبر ماكس لاب على استكشافه ضمن إطار مهمة التوصل إلى طرق جديدة للاستفادة من تكنولوجيا الواقع الافتراضي على اعتبارها أداة يستفيد منها المجتمع.

يقول فان غيلدر: “لا يتيح لنا الواقع الافتراضي صنع نسخة عن العالم الحقيقي فقط، بل يتيح لنا صنع عالم مختلف أيضاً”.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.