كيف تغزو تكنولوجيا المراقبة خصوصية العمال؟

7 دقائق
المراقبة
shutterstock.com/aastock

تصل رينا إلى عملها في مستودع شركة أمازون، تمرر بطاقة تعريف الموظف الخاصة بها على الجهاز الذي يسمح لها بالمرور عبر الباب، تسمح لها أجهزة الاستشعار الموجودة بالدخول ثم تتتبع تحركاتها داخل المنشأة العملاقة كل يوم. تختار مكاناً قريباً لتضع به طعام الغداء، لأنها إذا اختارت مكاناً بعيداً عن موقع عملها فستخسر من وقت استراحة الغداء البالغ 30 دقيقة والخاضع لمراقبة صارمة. ثم تسجل الدخول إلى عملها في الموقع المسؤولة فيه عن فحص 1,800 عنصر يُرسل إلى التسليم كل ساعة، وحيث تُقاس وتيرة عملها بدقة عن طريق الماسحات الضوئية الموجودة على السير الناقل، وهي تعلم أنها تخضع للمراقبة بعدة طرق، من قبل الذكاء البشري والاصطناعي. وتُحتسب أي استراحة غير رسمية، بما فيها الذهاب إلى الحمام، على أنها "توقف عن العمل" وتخضع لمتابعة مدرائها. وفي حال تباطأت الحركة على السير الناقل، على رينا أن تطلب مهمة جديدة، وذلك لأن وقت تعطل العمل يُحسب "توقفاً عن العمل" أيضاً، ويمكن أن يؤدي إلى العقوبة أو الطرد. عندما ينتهي عملها في نهاية اليوم، تخضع لعدة أنواع من فحص السرقة، لضمان عدم محاولتها أخذ أي شيء من الشركة إلى المنزل.

إن سألت عدداً من موظفين عما تعنيه عبارة "مراقبة مكان العمل"، فستدور إجابات معظمهم حول الكاميرات الأمنية الموجودة في المستودعات الكبيرة أو متاجر البيع بالتجزئة التي تتحقق من عدم سرقة الموظفين للبضائع أو النوم في أثناء العمل. لكن نطاق المراقبة أوسع من ذلك بكثير في الحقيقة. في هذه الأيام، المراقبة في مكان العمل تعني أنك مُراقب طيلة الوقت، ولا تقتصر المراقبة على كاميرات عين السمكة التي تُسجل باستمرار، فأدوات المراقبة مدمجة في الأدوات التي يستخدمها الموظفون في عملهم في جميع القطاعات، كما هي الحال مع رينا. ففي حالة اللابتوب، تحدث المراقبة عبر البرامج التي تسجل الضغطات على لوحة المفاتيح وتسمح للشركات بمشاهدة مواقع الويب التي بحث عنها متصفح الموظف عن بُعد. وهي موجودة في الماسحات الضوئية المحمولة التي يستخدمها الجميع بدءاً من عمال المستودعات إلى موظفي البيع بالتجزئة والممرضين في المستشفيات حين يدخلون إلى غرفة المريض، بالإضافة إلى تطبيقات الهاتف التي يجب على مقدمي الرعاية الصحية المنزلية تسجيل الدخول إليها والخروج منها عند زيارة كل عميل. ثمة تكنولوجيا تسجل تعابير الوجه ونبرة الصوت "لتحليل المشاعر والحالة المزاجية" لقياس مدى تأثير الموظفين ومعرفة ردود فعلهم. وكما في المسلسل التلفزيوني "المرآة السوداء" (Black Mirror)، الذي يتناول تأثير التكنولوجيا على المجتمع، تتخطى المراقبة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، ففي الوظائف المكتبية، تدمج تكنولوجيا المراقبة مع البريد الإلكتروني المدعوم بالذكاء الاصطناعي ورسائل تطبيق سلاك (Slack) لتقييم ثقافة مكان العمل؛ وفي مراكز الاتصال الخارجية، تُدمج مع نصوص المحادثة التنبؤية لمعرفة إذا ما كان الموظفون يستجيبون لشكاوى العملاء بالود والحماسة المناسبين.

تُقدَّم مثل هذه الابتكارات عادةً على أنها وسيلة لرفع مستوى العمل وكفاءته، لكن هذا المستوى من التغوّل التكنولوجي يهدد بتحويل مكان العمل إلى مكان عبودية للموظفين.

في عام 2021، وضمن مبادرة "آفاق العمل" (Labor Futures Initiative)، أصدرت مؤسستا كووركر (Coworker) وداتا آند سوسايتي (Data and Society )، تقريرين مستقلين يبحثان في التهديد المتزايد لتقنيات مراقبة الشركات على مدى السنوات الخمس الماضية، وبخاصة السنوات الثلاث الماضية، عندما أدت جائحة كوفيد-19 إلى عمل العديد من الموظفين عن بُعد. في الوظائف المكتبية أو الإدارية، استجاب أصحاب العمل لهذا التحول من خلال مطالبة العمال بتثبيت أشكال مختلفة من "برامج المراقبة" على أجهزة الكمبيوتر المنزلية الخاصة بهم، ومن خلال إدخال مجموعة كبيرة من تقنيات المراقبة الجديدة الغازية لحياة العاملين. فرض بعض الشركات على العاملين عن بُعد إبقاء الكاميرات والميكروفونات الخاصة بأجهزتهم قيد التشغيل خلال وقت العمل، بينما طرح آخرون تطبيقات وأدوات تركز ظاهرياً على الصحة وتتتبع كل شيء بدءاً من عدد الخطوات ومعدل ضربات القلب إلى أنماط النوم ومدة تشغيل الشاشة. أما بالنسبة للمهن غير المكتبية، فخضع العمال للعديد من الإجراءات الصحية الإلزامية الجديدة، مثل فحوصات درجة الحرارة وأجهزة استشعار التباعد الاجتماعي، في حين لم يحصلوا في كثير من الأحيان على الحماية الحقيقية من الجائحة.

في تقرير مؤسسة داتا آند سوسايتي، تحت عنوان "المدير الدائم"، وجدنا أن كميات هائلة من بيانات العمال تُتبَّع في عدد كبير من القطاعات، إذ تُجمع معلومات حول كل جانب من جوانب وظائفهم تقريباً وأحياناً حول حياتهم الشخصية، ويكون ذلك غالباً دون علم الموظفين أو موافقتهم الحرة. ومع أن العديد من العمال يدركون عموماً أنهم يخضعون للمراقبة، فإنهم لا يعرفون مدى تلك المراقبة أو ما تفعله شركاتهم بالمعلومات. في أحد الأمثلة التي علمنا بها، طُلب من موظفي وول مارت (Walmart) تثبيت أحد التطبيقات على هواتفهم الشخصية للتحقق من المخزون ولكنه يتطلب الوصول الدائم إلى كاميرا الهاتف ومعرفة الموقع، ومشاركة المعلومات باستمرار مع المدراء ما لم يتذكر الموظف إيقاف تشغيله في نهاية عمله.

وفي التقرير التي أعدته مؤسسة كووركر بعنوان "التكنولوجيا الصغيرة قادمة للنيل من العمال"، وجدنا أنه على الرغم من أن غالبية الانتقادات الموجهة إلى قطاع التكنولوجيا تركز على حفنة من شركات "التكنولوجيا الكبرى" التي تهيمن على وسائل التواصل الاجتماعي، فهي في الواقع لا تشكل إلا جزءاً يسيراً من مئات الشركات الصغيرة وبائعي التكنولوجيا السبّاقين في إدخال التكنولوجيا المُسيئة إلى أماكن العمل. حللنا وأنشأنا قاعدة بيانات لأكثر من 550 من منتجات التكنولوجيا والشركات والمستثمرين الذين ظهروا في السنوات الخمس الماضية ويعملون على رقمنة جميع جوانب الوظيفة، من البحث عن موظفين إلى التعيين إلى مراقبة الإنتاجية والمخاطر، لنرى مدى التغيير الجذري الذي تُحدثه شركات "التكنولوجيا الصغيرة" على طبيعة العمل اليوم.

تسيء هذه السوق الجديدة للعمال بطرق مختلفة، إذ تعمق عملية استغلال بياناتهم وتزيدها سوءاً، وتأخذ الكثير من العمال ولا تقدم لهم إلا القليل في المقابل؛ وترفع احتمالية التمييز ضدهم على أساس العِرق أو النوع أو السن أو الإعاقة؛ وتسهِّل مراقبة الشركات لعمالها؛ وتقوض الخصوصية وحقوق العمل النقابي؛ وتزيد فرص استغلال العمال اقتصادياً؛ وتحول بيانات العمال إلى سلعة (بما فيها استخدام تلك البيانات كأصول قابلة للبيع في حالة الاندماج أو الإفلاس أو البيع)؛ وتدمج العمل بالمنزل، ما يجعل من الصعب على العمال الفصل بين وظائفهم وحياتهم الخاصة أو التخلص من مراقبة الشركة لهم.

بدأ هذا النوع من تجاوز الشركات في بدايات الجائحة، وكان واضحاً على العاملين في اقتصاد الأعمال المستقلة خصوصاً، مثل السائقين في شركات مثل أوبر أو ليفت (Lyft)، أو عمال النظافة المتعاقدين مع شركات مثل هاندي دوت كوم (Handy.com)، التي رقمنت تحركاتهم وتفاعلاتهم مع العملاء وتتبعتهم بطريقة غير مسبوقة (وكل ذلك على الرغم من رفض الشركات تصنيفهم موظفين فعليين). وهو ليس مجرد ممارسة تجارية تتجاوز الحدود، بل هو مبدأ تشغيلي للتحكم في العمال وزيادة الأرباح.

وتزداد هذه المخاطر على العمال الضعفاء مثل العمال من ذوي البشرة الملونة والنساء والأقليات والمهاجرين، الذين من المرجح أن يعملوا في أعمال منخفضة الأجر أو اقتصاد الأعمال المستقلة، ولمخاوف هذه الفئات مبرراتها التاريخية. تستغل أدوات المراقبة ذات التكنولوجيا المتقدمة اليوم الثغرات الموجودة في قوانين العمل نفسها، التي يعود تاريخها إلى أجيال مضت. إذا ألقينا نظرة على القانون الوطني لعلاقات العمل لعام 1935، الذي ضمِن حق موظفي القطاع الخاص في الانضمام إلى النقابات، فإن المهن المستثناة من الحماية الجديدة آنذاك، مثل العمل في المزارع والمنازل، كانت أغلبيتها الساحقة من العمال الملونين. واليوم، تُجبَر الفئات نفسها على العمل في وظائف مستقلة عبر المنصات، إذ يُصنفون دون وجه حق فيها كما في السابق، وبالتالي يُستثنون من الحماية في مكان العمل ويخضعون لمراقبة واسعة النطاق.

والآن، اتسع هذا المستوى من المراقبة في مختلف جوانب سوق العمل، بالإضافة إلى زيادة حجم العمل المطلوب منها والدعوات التي لا تنتهي لزيادة الإنتاجية. لقد تعلمنا أنه من الممكن استخدام أسلوب شركة أوبر وتحويل الوظائف إلى وظائف مستقلة في أي قطاع تقريباً، وذلك عبر تقسيم العمل إلى مهام فردية، وإعطاء الاستقلالية للعمال الذين يؤدونها، والتحكم في هؤلاء العمال من خلال أنظمة تتتبع كل تحركاتهم، والتخلص في الوقت نفسه من مسؤوليات الشركة التقليدية مثل توفير الحد الأدنى للأجور، أو الاستقرار الوظيفي، أو أي مزايا وحقوق أخرى يفرضها القانون.

إن تأثير المراقبة في القدرة على العمل النقابي مثير للقلق على نحو خاص، لأن حجر الزاوية في العمل النقابي المحمي من القانون الفيدرالي هو قدرة العمال على التحدث مع زملائهم وتحديد الاهتمامات المشتركة. في الماضي، كانت الشركات تهدد بالفصل من العمل، أو تعاقب على المشاركة في نشاطات عمالية جماعية، أو تجمع الموظفين في مكان واحد لإجبارهم على الاستماع إلى محاضرات مناهضة للنقابات، لإحباط التحرك الجماعي للعمال. في هذه الأيام، مكّنت تقنيات مراقبة مكان العمل المدراء من التجسس على الأماكن التي تجري فيها محادثات العمال -من وسائل التواصل الاجتماعي إلى المنتديات عبر الإنترنت إلى قوائم البريد الإلكتروني الخاصة- ومن ثم استخدام رسائل البريد الإلكتروني والرسائل الجماعية لإحباط العمل النقابي. في إحدى الحالات التي حدثت مؤخراً، اكتُشف مدراء الموارد البشرية في شركة أمازون وهم يتسللون إلى قائمة بريدية خاصة بالموظفين حيث كانت تجري مناقشات نقابية.

ويكمن جزء من المشكلة في أن التكنولوجيا المستخدمة في مراقبة أماكن العمل تتقدم على نحو أسرع مما يستطيع واضعو السياسات والهيئات التنظيمية مواكبته. المزايا التي تجعل المراقبة في مكان العمل تهديداً رهيباً هي نقاط ضعف أيضاً، وهي التي يمكن للعمال والمجتمع المدني استغلالها للتصدي للمراقبة.

بالطبع يجب على الشركات أن تكون مسؤولة عن فحص التكنولوجيا التي توظفها. ومع ذلك، فإن العدد الهائل من شركات "التكنولوجيا الصغيرة" العاملة في هذا القطاع يجعل الضبط الذاتي تحدياً متزايداً. تركّز الجهات الرقابية أساساً على مكافحة الاحتكار لحماية حقوق المستهلكين، لكن عليها أن تؤدي دوراً حاسماً في مراقبة الشركات وفرض تدابير الحماية للعمال. ونظراً لوجود الآلاف من الشركات الجديدة التي تتعامل في مجال الذكاء الاصطناعي، والأتمتة، والعمل المستقل، ومراقبة أماكن العمل، فإن حماية العمال لا تندرج بما فيه الكفاية في مناقشات سياسات مكافحة الاحتكار التي نجريها حول "التكنولوجيا الكبيرة"، وتتطلب حلاً متعدد الجوانب. نحتاج إلى إطار جديد للتفكير في كيفية تعزيز التكنولوجيا التي نريدها مع التركيز على حقوق العمال، بما فيها حماية حقهم في الخصوصية.

من المرجح أن يتعرض العمال المهمشون تاريخياً لأشد أنواع المراقبة تجاوزاً وشدة في العمل وهذا يعني أن هناك طرقاً محددة يمكن للهيئات التنظيمية استخدامها لتوفير الحماية لهم من خلال تقييم تأثير هذه التقنيات على الفئات المحمية قانوناً، مثل قانون الأميركيين المعاقين وقانون الحقوق المدنية لعام 1964، وتعزيز هذه القوانين بحسب الحاجة لضمان حماية العمال.

كما تؤدي النقابات ومؤسسات حقوق العمال دوراً محورياً في هذا المجال، وقد بدأ بعضها تكثيف الجهود ووضع نماذج للحوكمة. فقد بذل أعضاء النقابة العمالية تيمسترز (Teamsters)، الذين يمثلون السائقين في شركات الخدمات اللوجستية مثل شركة يو بي إس (UPS)، جهوداً عظيمة لحماية عمال التوصيل من الفصل التلقائي بناءً على البيانات المستخرجة من أنظمة المراقبة الرقمية وحدها. كما تفاوضت نقابة يونايت هير العمالية (UNITE-HERE) لضمان حماية خصوصية البيانات للعاملين في مجال الضيافة. وتكافح مؤسستا وركرز جستيس بروجيكت (Workers Justice Project) ولوس ديليفاريستاس (Los Deliveryistas) من أجل الحصول على الحد الأدنى للأجور لعمال توصيل الطعام عبر التطبيقات في مدينة نيويورك. كما عارض اتحاد السكك الحديدية والترام والحافلات الأسترالي مقترحات وطنية لفرض أجهزة التسجيل المرئي في جميع وسائل النقل العام الأسترالية. وبدأت نقابات القطاع الخاص في المملكة المتحدة تنظيم دورات تدريبية لتعريف أعضائها بحقوقهم في مجال التكنولوجيا.

وللجمعيات الخيرية وقطاع التنمية دور أيضاً، وذلك عبر دعم المؤسسات العمالية، والإسهام في تعزيز التعاون بين العمال والتكنولوجيا، والعمل نحو اقتصادات رقمية عادلة. وكما كتبت ريتسي إرومي وأنيتا غورومورثي، التكنولوجيا التي نستثمر فيها هي التكنولوجيا التي نحصل عليها.

تؤثر تكنولوجيا المراقبة حالياً في العمال عبر مختلف القطاعات والطبقات الاجتماعية، لذا من الممكن والضروري بناء تضامن متعدد الطبقات بين العمال ذوي الأجور المنخفضة والمهاجرين والأقليات من ناحية والعمال الإداريين الأكثر حظاً من جهة أخرى. الضرر المشترك بين القطاعات يفتح الباب أمام التعاون بينها. وذلك بالضبط ما يلزم للتعامل مع هذه الاتجاهات، فيما يخص التكنولوجيا الكبيرة والتكنولوجيا الصغيرة، وفي الشركات الناشئة وجميع الشركات الأميركية.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي