كيف يمكن تسخير التكنولوجيا لتعليم الفنون الجميلة؟

التكنولوجيا السحابية
shutterstock.com/optimarc
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تعد مؤسسة بارنز مجموعة فنية على مستوى عالمي ذات رسالة تعليمية تقدمية. آمن مؤسس هذه المجموعة العالِم الذي تحول إلى جامع أعمال فنية في فيلادلفيا ألبرت بارنز، أن الفن قادر على تغيير الحياة، ويجب أن تتاح فرصة تعلمه للجميع وألا تقتصر على النخبة.

أنشأ مؤسسة بارنز لتحتضن هذا النوع من التعليم، وملأ صالات العرض بمجموعته الخاصة واستقبل أول دفعة من الطلاب في عام 1925 الذين كان أغلبهم من عمال المصانع. وبدأ بإعطاء دروس عن الفن في صالات العرض حيث جلس الطلاب على كراسي خشبية قابلة للطي. وعلَّق بارنز على الجدران مزيجاً من الأعمال الفنية التي تعبر عن مواضيع متنوعة من جميع أنحاء العالم ورتبها بنفسه في مجموعات بطريقة كثيفة وبصرف النظر عن التسلسل التاريخي، بما في ذلك لوحات فرنسية من العصر الحديث ومنحوتات إفريقية ولوحات ثلاثية من العصور الوسطى بالإضافة إلى معدات منزلية عادية مثل الملاعق ومفصلات الأبواب. ركزت الدروس على التحليل المرئي الدقيق الذي لا يتطلب أي خلفية عن الفن أو التاريخ. وقبل وفاته في عام 1951 وضع بارنز الأنظمة الداخلية للمؤسسة لضمان عدم تغيير طريقته في تنظيمها، بحيث تبقى المجموعات في مكانها كما وضعها تماماً، ولا يمكن إضافة نص توضيحي عنها على الجدران إطلاقاً.

وبعد مائة عام توسعنا برسالة المؤسس في إتاحة التعليم الفني إلى حد كبير. إذ لا تزال مؤسسة بارنز تقدم دروساً في صالات العرض مع زيادة عدد العروض وتنوعها. كما قدمنا برامج مجانية للمجتمعات المحرومة وللطلاب من مرحلة رياض الأطفال حتى نهاية التعليم الثانوي من مدارس فيلادلفيا العامة، وأنشأنا قسماً للأبحاث ينتج معارف جديدة حول مجموعتنا الفنية. لكننا غالباً ما نجد أنفسنا في وضع حرج بسبب القيود التي تفرضها محدودية المساحة داخل المؤسسة. حيث تعد معارض بارنز صغيرة مقارنة بمتاحف المدينة الأخرى، ما يُصعّب استقبال المجموعات المدرسية خلال ساعات العمل وتلبية الطلب المتزايد على المقاعد في قاعات التدريس المخصصة لتعليم الكبار. ولا يتسع العديد من الغرف إلا لعدد قليل من الأشخاص، ما يعني عدم إمكانية دمج أعمال من المجموعة الفنية مثل المنحوتات الإفريقية بسهولة في الدروس. وبالنظر إلى سياسة عدم وضع لوحات توضيحية التي تتبعها بارنز، كيف لنا أن نشرح الأبحاث الجديدة حول القطع الفنية الموجودة في مجموعتنا للزوار؟

تبنّي التكنولوجيا

ساعدتنا التكنولوجيا السحابية على المناورة على بعض هذه التحديات، أولاً داخل المؤسسة وثانياً عبر توفير الحيز المكاني الافتراضي. أطلقنا في عام 2017 تطبيق بارنز فوكس (Barnes Focus)للهواتف المحمولة، ويعتمد هذا التطبيق على التكنولوجيا السحابية وتم إنشاؤه باستخدام نظام إيه دبليو إس (AWS) الذي يتيح لنا مشاركة المعلومات التاريخية حول القطع الفنية في المجموعة والحفاظ على جدران المعرض خالية من النصوص التوضيحية. حيث يضع الزائر ببساطة هاتفه أمام العمل الفني فيُظهر التطبيق على الفور اسم الفنان وعنوان العمل الفني وتاريخه ووصفاً موجزاً للسياق العام. والتطبيق أنيق وسهل الاستخدام ويحظى بشعبية لدى زوارنا حيث يزيد معدل استخدامه بينهم على 80% كما يسهل إضافة المحتوى وتعديله على فريق البحث لدينا. ويمكن حالياً قراءة 800 نص توضيحي عبر هذا التطبيق.

ولكن ما زلنا نواجه مشكلة زيادة عدد الزوار نظراً لمساحة المكان المحدودة في بارنز. في عام 2019 بدأنا بدراسة فكرة تقديم الدروس التعليمية عبر الإنترنت للطلاب الكبار. فلا يتيح لنا التدريس الافتراضي تسجيل المزيد من الطلاب فحسب، بل يساعدنا أيضاً في التحايل على عدم إمكانية فرق عمل بارنز على التجوال خارج المؤسسة، كما سيؤدي التدريس باستخدام الصور الرقمية إلى فتح عالم جديد يجد فيه معلمونا كل شيء في مكان واحد.

ومع ذلك واجهتنا معضلة فلسفية، فقد تفضي فكرة التدريس الافتراضي التي تبعد الناس عن الفن الحقيقي إلى نتائج عكسية. فلكل عمل فني طابع فريد لا يمكن أن تلمسه إلا إذا كنت في حضرته، وقد تكون هناك ميزة معينة أو “هالة” كما أطلق عليها الفيلسوف والتر بنجامين لا يمكن لأي تقليد أن يستحضرها. تقدم المتاحف لزوارها متعة الهالة ومتعة معرفة أن العمل المعروض أمامهم قد لمسته يد الفنان. ماذا يعني إذاً أن يتبنى المتحف التعليم الافتراضي؟ هل أشرنا بطريقة ما إلى أن العمل الفني الأصلي لم يعد مهماً؟ وكيف يمكننا موازنة التعليم عبر الإنترنت بقدرته المذهلة على الوصول إلى الناس ودورنا التاريخي كمؤسسة متخصصة في الدراسة المباشرة للعمل الفني؟

بعد عام تحديداً في 2020، بدت هذه الأسئلة النظرية أقل أهمية. ففي شهر مارس/آذار من ذلك العام أجبرت جائحة كوفيد-19 مؤسسة بارنز على إغلاق أبوابها وتعليق جميع البرامج الميدانية حالها كحال العديد من المؤسسات الأخرى. وحرصاً منا على استمرارية التعليم قررنا نقل بعض فصول تعليم الكبار التي كانت جارية حينها إلى منصة رقمية، ما يعد نقلة نوعية ضخمة من الناحية اللوجستية. وجرت عملية تعليم الطلاب خارج معرض المجموعة الفنية لأول مرة في تاريخ مؤسسة بارنز، وكانت التجربة جيدة بالنسبة إليهم بحسب استقصاء تم نشره بعد ثلاثة أشهر من النقل. حيث قال أكثر من 94% إنهم سيستمرون في تلقي دروس عبر الإنترنت بعد انتهاء الجائحة، وتضاعفت أعداد الملتحقين ثلاث مرات.

ويعزى أحد أسباب حماس الطلاب للتعلم عبر الإنترنت إلى التجربة التي وفرتها التكنولوجيا لهم. حيث استخدم مدرسونا الذين كانوا يدرسون من منازلهم الصور المعالجة بتقنية التقريب العميق والمخزنة على السحابة الإلكترونية لتقريب الطلاب بصرياً من الأعمال الفنية في مجموعة بارنز على نحو غير مسبوق. وتسمح تقنية التقريب العميق للمستخدم بسبر تفاصيل كل بوصة في الصورة بحيث يمكنك رؤية عقد نسيج اللوحة القماشية وحتى الطريقة التي تعشقت بها ضربات الفرشاة على النتوءات الصغيرة في سطح اللوحة. في إحدى اللوحات الانطباعية يمكنك أن ترى تداخل ضربات الفرشاة وكيف امتزجت ألوانها المختلفة على اللوحة. لا يتعين على الطلاب أن يكونوا في نفس مكان وجود الأعمال الفنية ليتم التعليم الهادف على ما يبدو. وربما يتضمن العمل الفني ميزات أكثر من هالة حضوره.

إذ كان طلابنا يستكشفون الأعمال الفنية بطرق جديدة ورؤية جلية. وعلى الرغم من رغبتنا في الاستمرار بالتدريس عبر الإنترنت أحببنا أن يعيش الطلاب التجربة الفريدة لزيارة معارض بارنز. حيث طورت فرق تكنولوجيا المعلومات والأدوات السمعية والبصرية لدينا عربات متنقلة مزودة بكاميرات تسمح لنا بالتبديل بين صور التقريب العميق للوحات واللقطات الحية للمدرب الواقف في صالات العرض. يمكن للطلاب الشعور بالمكان والمجموعات الفنية غير التقليدية بالإضافة إلى رؤية تفاصيل الأعمال الفنية التي لا يمكن رؤيتها على أرض الواقع. وحلت هذه التكنولوجيا مشكلة التدريس في الغرف الضيقة بشكل نهائي. فبوجود مدرب وفنيي الوسائل السمعية والبصرية فقط يمكننا الآن “استيعاب” مئات الطلاب في صالات العرض التي تضم مجموعتنا الإفريقية.

التعليم الافتراضي

تسببت الجائحة أيضاً في توقف برنامج طلاب المدارس في المؤسسة، وهو برنامج ضخم ممول بمنحة ويتضمن زيارة المجموعة الفنية لأكثر من 11,000 طالب ومعلم سنوياً. وعندما تم تعليق هذه الزيارات استجاب فريقنا من خلال إنشاء برنامج بارنز آرت أدفينتشرز (Barnes Art Adventures)، وهو برنامج تفاعلي مباشر تستضيفه السحابة الإلكترونية ويتيح للطلاب الاستكشاف والإبداع في أثناء دراسة الفن من جميع أنحاء العالم. حيث يستخدم المعلمون تقنية التقريب العميق لتعريف المتعلمين بالفن على نحو دقيق كما هو الحال في فصول تعليم الكبار. أصبح برنامج بارنز آرت أدفينتشرز عرضنا الرئيسي للمدارس خلال العام الدراسي 2020-2021، إلى جانب الاستمرار في تقديم برامجنا الأخرى داخل المؤسسة.

وتماشياً مع طموحنا بتوسيع نطاق عروضنا الافتراضية لطلاب المدارس من رياض الأطفال حتى نهاية التعليم الثانوي، أنشأ قسم تكنولوجيا المعلومات لدينا موقعاً مخصصاً للبث المباشر باستخدام نظام إيه دبليو إس الذي يتيح لنا تقديم البرنامج إلى العديد من المدارس الشريكة في وقت واحد وعلى نحو مباشر. وكانت تلك الميزة الفعالة مهمة جداً لمؤسستنا الصغيرة. فعند التحول إلى وضع “تشغيل الكاميرا وإيقاف الميكروفون” المستخدَم عادة في الرحلات الميدانية الافتراضية في غرف الزووم، نشجع الطلاب على التعبير عن أنفسهم من خلال الدردشة حيث يمكنهم استخدام الرموز التعبيرية الفنية المصممة خاصة للبرنامج. وفعّلنا ميزة الاستطلاعات التي يجيب عن أسئلتها الطلاب بعد عرض فيديو البث الحي.

وتشير البيانات الأولية من بارنز آرت أدفينتشرز إلى أن معدل مشاركة الطلاب النشطة مرتفع باستمرار وأعلى بكثير من أي درس مماثل داخل جدران المؤسسة. ويعود ذلك إلى قدرة العديد من الطلاب على طرح أفكارهم في آن واحد على عكس المشاركة الفردية عندما يحين دور الطالب التي تجري في القاعات الدراسية التقليدية. وعلاوة على ذلك، غالباً ما يشارك الطلاب الخجولون على نحو أكبر عبر الكتابة في مربع الدردشة. ففي إحدى المرات عبر برنامج بارنز آرت أدفينتشرز، أدخل الطلاب البالغ عددهم 240 طالباً من الصف الثاني إلى الرابع أكثر من 800 إجابة عن الأسئلة والنشاطات التي قدمها المعلم.

توسيع نطاق انتشارنا

الرقم الأكثر أهمية الذي غيرته التكنولوجيا السحابية هو عدد الطلاب الذين يمكننا الوصول إليهم. فخلال العام الدراسي 2020-2021، قدمنا التعليم عبر برنامج بارنز آرت أدفينتشرز إلى 16,600 طالب من صف الروضة وحتى الصف الثامن موزعين في ست ولايات بزيادة قدرها 40% عن سنوات ما قبل الجائحة. كما تضاعف التسجيل في فصول تعليم الكبار أكثر من ثلاث مرات من 1,195 طالب في عام 2019 إلى أكثر من 3,000 طالب في عامي 2020 و2021. وتضاعفت أرباح فصول تعليم الكبار ثلاث مرات من 200,000 دولار في عام 2019 إلى أكثر من 600,000 دولار في عام 2020.

أحد أهدافنا الرئيسية لبرامج البالغين هو التنوع بين الطلاب، حيث تساعدنا التكنولوجيا السحابية على ذلك بعدة طرق. أولاً، تتيح لنا الإيرادات الجديدة من الفصول الدراسية عبر الإنترنت تقديم المزيد من المنح الدراسية بأسعار متفاوتة للطلاب الذين لا يملكون المال الكافي لتحمل تكاليفها. قدمنا 253 منحة دراسية في عام 2020 و378 منحة في عام 2021، بينما قدمنا 100 منحة فقط في عام 2019. ثانياً والأهم الطريقة التي تقضي بها هذه التكنولوجيا على حاجز المسافات الذي يحول دون وصولنا إلى الطلاب. أخبرتنا طالبة تعيش في نيوزيلندا أنها لطالما رغبت في زيارة بارنز لكن المكان بعيداً جداً. لكنها تمكنت من الحضور الافتراضي في المعرض والمشاركة في مناقشة حية حول الفنان الفرنسي هنري ماتيس. ونما انتشارنا الجغرافي على نحو هائل منذ بدأت الفصول الدراسية عبر الإنترنت حيث شملت طلاباً من 48 ولاية و8 دول.

لقد منحتنا التكنولوجيا السحابية الفرصة لتنمية رسالة بارنز التعليمية بطرق لم تخطر على بال مؤسسها قط. حيث تتيح لنا الفضاءات الافتراضية خدمة فئات جديدة ومتنوعة. كما يمكن لمتحدي الإعاقة أو الذين يفتقرون إلى القدرة المالية على السفر إلى فيلادلفيا الدراسة في فصول معارضنا عبر الإنترنت. يتصور الذين يعانون حواجز نفسية واجتماعية تمنعهم من دخول المتاحف الفنية من الناس والمجتمعات المحرومة بأن المتاحف الفنية ليست “لهم” لكنهم سيشعرون بمزيد من الترحيب عند دخولها افتراضياً.

وستستمر بارنز في الاعتماد على النجاحات الأولية الواضحة التي حققتها باستخدام السحابة الإلكترونية. بفضل منحة إيه دبليو إس إماجن (AWS IMAGINE) والدعم المقدم من بيو سينتر فور آرتس آند هيريتيدج (Pew Center for Arts and Heritage)، نعمل بجد على مشروع جديد وكبير يتمثل في منصة لتعليم الفنون الرقمية التي تم إنشاؤها اعتماداً على هذه التكنولوجيا. هذه المنصة التي نخطط لإطلاقها في الأشهر الأولى من عام 2023، تبتعد عن نموذج مشاركة الشاشة لخلق تجربة تفاعلية ثلاثية الأبعاد لكل من طلاب مرحلة الروضة وحتى الصف الثاني عشر بالإضافة إلى المتعلمين الكبار. فمن خلال تقديم عروض بانورامية بزاوية 360 درجة لصالات المعرض وأنماط الدروس المباشرة وغير المباشرة بالإضافة إلى مكتبة مفتوحة للبحث لكامل الفصول الدراسية، ستوفر المنصة للطلاب مزيداً من التحكم والمرونة في تجربتهم التعليمية. يرتكز هذا المشروع على البحث المستمر في فضاء تعليم الفنون الرقمية ويستجيب لاحتياجات المتعلمين ودوافعهم من جميع الأعمار. نحن متفائلون في مستقبل هذه المنصة الجديدة كابتكار رائد في مجال تعليم الفنون الرقمية، ومع خطوات مماثلة لنظرائنا لن تساعد هذه المنصة على تشكيل مستقبل الاستدامة المالية في قطاع الفنون والثقافة فحسب، بل ستعمل على انتشار دراسة الفن بين الناس.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً