منذ عام 2000 وبالرغم من انفجار فقّاعة الإنترنت آنذاك، واصلت التكنولوجيا عملها على إحداث تحولات جذرية في علم الاجتماع. منذ ذلك الحين، غيّر الذكاء الاصطناعي حيثيات جوهرية ضمن مجتمعاتنا وحياتنا وأعمالنا.
نشهد اليوم تحولًا نموذجياً من الاتصال البشري الواقعي تجاه التفاعلات التكنولوجية بين الإنسان والآلة، حيث جلبت الثورة الرقمية العديد من المفارقات إلى حياتنا؛ ما ولّد فكرة أن الاتصال قد يتسبب فعلياً بالانفصال بين الناس.
بينما تقوم التكنولوجيا بتعزيز سبل الاتصال بيننا، فقد أدّت إلى العزلة الاجتماعية نسبياً، وبينما تقوم أيضاً بتسهيل حياتنا، فقد خلقت لنا تعقيدات وتحديات جديدة. تساعدنا التكنولوجيا على تخطي الكثير من العقبات، ولكنها أثارت تحيّزات بطرق غير مألوفة.
مع انتشار الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، يتمثل الهدف الوجودي للإنسانية اليوم في مواصلة التقدم والاستفادة من مزايا التكنولوجيا مع تقليل أثرها السلبي على المجتمع.
الإدمان الرقمي
لقد أصبحنا عبيداً لأجهزتنا التكنولوجية نوعاً ما. هل شعرت يوماً أن إدمانك على وسائل التواصل الاجتماعي يجعلك رهينة للتكنولوجيا؟ ذاك الشعور بالضياع عندما لا تكون على اتصال. تظهر الأبحاث أن الاستخدام المفرط للإنترنت يمكن أن يتحول إلى إدمان، ما يؤدي بدوره إلى الأرق والاضطرابات في أنماط النوم.
الانقسام الاجتماعي
تضع التكنولوجيا حاجزاً اجتماعياً، إذ تفيد حتماً أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى قوتها التحويلية، فيما تترك الآخرين وراءها نظراً لوضعهم الاجتماعي والاقتصادي. وتخلق هذه الفجوة انقسامات ملموسة على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والشخصية. في هذا السياق، تعد التكنولوجيا وسيلة لتهميش مجموعات معينة من الناس، مع أرجحية اتساع الانقسامات مع مرور الزمن.
التضليل الإعلامي
ترتبط التكنولوجيا إلى حد كبير بالمعلومات، ومن هنا جاء مصطلح "تكنولوجيا المعلومات". من الناحية السياسية، ما نشهده اليوم هو حرب دعائية تتجذر فيها المعلومات المضللة. ولا تنحصر هذه الظاهرة على أقطاب السياسة، بل تنطبق أيضاً على مجتمع الأعمال، حيث أصبحنا أكثر عرضة للأخبار المزيفة والدعاية السلبية عن طريق التكنولوجيا.
يتخذ الكثير منا قرارات يومية بناءً على بحث سريع عبر "جوجل". ولا تؤثر المعلومات المضللة على عملية صنع القرار لدى المستهلك فحسب، بل قد تؤدي أيضاً إلى عواقب وخيمة على الاقتصاد والمجتمع والبيئة. لهذا السبب قامت شركة "ميتا" (Meta) منذ بضع سنوات بإنشاء مجلس رقابة لاتخاذ قرارات مستقلّة بشأن المحتوى، وتقييم الادعاءات المضللة لتحديد مدى صلاحيتها.
الكسل الجسدي
صُمم جسم الإنسان للتحرك. ولطالما كان أسلوب حياتنا اليومية مفعم بالحركة الجسدية في العصور المنصرمة. أما اليوم، فنزداد بدانة مع تطور التكنولوجيا لتصبح أكثر نحافة! توفر التكنولوجيات العصرية وسائل راحة تغنينا عن ضرورة الالتزام بالنشاط البدني. ومع تقدمنا من الناحية التكنولوجية، تقل حاجتنا إلى التحرك بدنياً في حياتنا اليومية. تثبت الأبحاث الطبية أن الجلوس لفترة أقل والتحرك بوفرة يمكننا من تحقيق فوائد صحية جمّة تساهم في تحسين حالة عقولنا وأجسادنا.
الخمول الفكري
يشير الخبراء إلى أن الإفراط في استخدام الإنترنت والتكنولوجيا قد يتسبب في التلف الدماغي لدى الأطفال. يميل الأطفال إلى التوقف عن بذل الجهود أو التفكير في المهام البسيطة عندما تكون كافة الحلول بمتناولهم من خلال مجرد بحث سريع عبر محركات البحث. ونرى هذه الظاهرة بين البالغين أيضًا. يعد البحث في جوجل عن إجابة لسؤال ما أسهل بكثير من التفكير فيه.
التشتت الذهني
قد تُشتت الأجهزة والمنصات الرقمية الطلاب عن دروسهم، والأطفال عن وقت الأسرة، والبالغين عن حياتهم الاجتماعية. تسلب التكنولوجيا الكثير من وقتنا واهتمامنا. تُظهر الأبحاث أنه عندما يشرد الذهن بعيداً عن مهمة ما نقوم بها، فقد يستغرق الأمر حوالي 23 دقيقة لإعادة التركيز كاملاً على المهمة قيد التنفيذ. قد يؤدي التشتت الناتج عن التكنولوجيا أيضاً إلى مخاطر جسدية. على سبيل المثال، يمثل الإلهاء الذي يتسبب به الجوال أثناء قيادة السيارة سبباً رئيساً لحوادث الطرق التي تشمل السائقين والمشاة على حد سواء.
الانعزال الاجتماعي
حوّلت التكنولوجيا البشر من مخلوقات اجتماعية إلى انفرادية نوعاً ما، إذ أحدثت فجوة بين الناس في أشكال مختلفة من علاقاتهم؛ يقضي الأزواج اليوم وقتاً أقل في التحدث بعضهم مع بعض ووقتاً أطول ملتصقين بهواتفهم المحمولة، ويقضي الطلاب وقتاً أقل في التفاعل مع معلميهم ووقتاً أطول على أجهزتهم الالكترونية، كما أن الأجهزة اللوحية تأخذ اليوم مسؤولية تربية الأطفال إلى حدّ ما بدلاً من الآباء والأمهات. يؤدي الافتقار إلى المشاركة المباشرة والمتكررة بين الأهالي والأطفال غالباً إلى انفصال الأطفال اجتماعياً وافتقارهم إلى المهارات الشخصية. لقد غيّرت التكنولوجيا رؤية الأطفال وتفاعلهم مع الآخرين ومع العالم من حولهم، ما أدى إلى تحوّل كبير في أنماط تطورهم. وكذلك في مجتمع الأعمال، غالباً ما يؤدي انخفاض مستويات التفاعل الشخصي بين الزملاء داخل المؤسسات إلى الخلافات وسوء الفهم.
الكمالية
توفر التكنولوجيا فرصة فريدة لنا نصبو من خلالها إلى الكمال، وأحياناً نشعر بالتوتر جرّاء ذلك. تشير الدراسات إلى أن الميول للمثالية قد يتسبب بالاكتئاب والقلق. إن تصفّح الصور الخلابة التي تعطي انطباعاً مؤثراً حول أنماط الحياة الفاخرة عبر الإنترنت والتي غالباً لا تعكس الواقع، يمكن أن تحدث الكثير من الضغوط النفسية للآخرين. من المعروف أن ثقافة المؤثرين الاجتماعيين لها تأثير على الصحة العقلية، وقد تقود الكثيرين إلى الارتباك والضياع والسلوك القهري والاستهلاك الإدماني والشعور بالعزلة.
إضفاء الطابع الإنساني على التكنولوجيا
هل تشكّل التكنولوجيا بيئة تمكينية للبشرية؟ بالتأكيد. تقدّم التكنولوجيا سبل أسهل وأسرع وأكثر كفاءة لأطر التفاعل بكافة أشكالها. في مجال الأعمال، تقوم التكنولوجيا بتمكين الشركات من تتبع توجهات السوق وجمع البيانات لتحسين تجربة العملاء. على المستوى الشخصي، تتيح التكنولوجيا إمكانات استثنائية للتواصل.
ومع ذلك، لا يجب أن نقع ضحية لمزالق التكنولوجيا في تفاعلاتنا. يجب عدم نسيان أهمية بناء علاقات شخصية ويجب أن نتجنّب تحويل العلامات التجارية إلى كيانات مجهولة الهوية. عند الاتصال بمصرفك أو مزود خدمة تتعامل معه، ما مدى صعوبة التحدث إلى شخص حقيقي عبر الهاتف؟ تُعدّ الأتمتة والمساعدون الافتراضيون من الابتكارات المجدية، ولكن يجب ألا نغفل عن المحافظة على العنصر البشري في كافة جوانب حياتنا.
في حين أن الأتمتة تخدم التواصل، وعلى الرغم من دور التفاعلات الرقمية المفيدة حقًا، يجب ألا نسمح للتكنولوجيا أن تكون بديلاً قطعياً للتواصل الشخصي، يجب علينا إضفاء الطابع الواقعي على التكنولوجيا في عصر يسيطر عليه اقتصاد جديد "ذو لمسة منخفضة".