لطالما كانت الفجوات بين الأجيال المتتابعة المتميزة بالأيديولوجيات والمواقف والسلوكيات المختلفة جزءاً من نسيج المجتمع منذ الأزل، حيث إن تدفق القيم والثقافة وانتقالها من جيل إلى جيل غالباً ما ينتهي إلى هوّة في الفهم بين الجيلين القديم والجديد. تقليدياً، كانت هذه الفجوة تدور حول وجهات النظر فيما يخص الموسيقى والسياسة والمعايير الاجتماعية والممارسات الدينية وغيرها من الاختلافات التقليدية. لكن في عالمنا المعاصر، حيث يتغلغل التحول الرقمي في كل جانب من جوانب الحياة، أصبحت التكنولوجيا عاملاً مهماً في توسيع هذه الفجوة بين الأجيال.
الرقميون الأصليون والمهاجرون: حكاية عن عالمَين
التكنولوجيا، مثل أي ظاهرة ثقافية أخرى، لها لغتها وقواعدها وآدابها. يعتبر المشهد الرقمي، مع شبكته المعقدة من منصات وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات والواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي، الموطن الأصلي للجيل الأصغر. إنهم "الأصليون الرقميون"، الذين وُلدوا في عصر التكنولوجيا، ويدمجون استخدامها بسلاسة في حياتهم اليومية.
من ناحية أخرى، فإن العديد من الجيل الأكبر سناً هم "مهاجرون رقميون". لقد اضطروا إلى التكيف مع هذا العالم الجديد، وتعلم لغته وعاداته مثل غريب في أرض أجنبية فبينما تكيف البعض جيداً، يكافح البعض الآخر مع سرعة تطور التكنولوجيا. هذا التفاوت في الكفاءة الرقمية، وهذه الفجوة الرقمية يعمقان مشاكل الاختلاف بين الجيلين.
تداعيات الهوة التكنولوجية
تتأثر العائلات بطرائق عديدة من تداعيات الفجوة بين الأجيال الرقمية فيشيع سوء الفهم وانعدام التواصل إذ تصبح لغة الرموز التعبيرية واختصارات الإنترنت غير قابلة للفك أو الفهم. والاختلافات ليست مجرد لغوية بل تختلف أيضاً أنماط الاتصال وطرائقه نفسها، فمع ميل الجيل الأكبر سناً إلى تفضيل التفاعلات الشخصية المباشرة، يفضل الأصغر سناً أساليب الاتصال الرقمية.
علاوة على ذلك، غالباً ما يؤدي الغموض الذي يشعر به أبناء الجيل الأكبر تجاه العالم الرقمي إلى شعور بفقدان السيطرة وزيادة القلق حول سلامة أولادهم على الإنترنت وعادة ما يؤدي هذا التفاوت التكنولوجي إلى الشعور بالانفصال، ولا يستطيع كل جيل فهم تجارب الجيل الآخر ووجهات نظره فهماً واضحاً وتقديرها.
استراتيجيات لتجاوز الفجوة: الانخراط في العالم الرقمي
إن التحدي المتمثل في الفجوة الرقمية بين الأجيال كبير، ولكنه ليس مستحيلاً. وتتمثل الخطوة الأولى في المشاركة بشكل هادف ونشِط في العالم الرقمي ويجب على الآباء والأمهات والأفراد الأكبر سناً بذل قصارى جهدهم للتعرف إلى الأدوات والمنصات التي تشكل جوهر عالم أطفالهم الرقمي ويشتمل ذلك على تعلّم كيفية تشغيل هذه التقنيات واكتساب معرفة الآثار الثقافية والاجتماعية لها. ولكن هذا الانخراط لا بد أن يتعدى مجرد فهم الاستخدام والتشغيل لهذه التقنيات يجب أن يتضمن المشاركة في العالم الرقمي إلى جانب أطفالهم من مشاركتهم في لعب الألعاب الإلكترونية ومناقشة المحتوى الرقمي ما قد يسهل تبادل الأفكار والقيم ويعزز التفاهم والتعاطف.
قوة الترابط غير المتصل بالشبكة
مع اتفاق الجميع على ضرورة تبنّي استخدام التكنولوجيا من المهم جداً بين الحين والآخر المشاركة في الأنشطة التي لا تتطلب استخدام التكنولوجيا مثل وجبة عائلية، نشاط رياضي، رحلة بحرية أو رحلة في عطلة نهاية الأسبوع. ففي عصر تحل فيه الشاشات محل الوجوه والرسائل الرقمية محل الكلمات المنطوقة، فإن هذه اللحظات من الاتصال في العالم الحقيقي أساسية وتوفر فرصاً للأجيال في العائلة الواحدة للمشاركة على المستوى الإنساني، ما يسمح بتعميق الروابط العاطفية والإنسانية.
التعلم مدى الحياة: التعليم التكنولوجي للآباء
إن المواكبة المستمرة للابتكارات التكنولوجية أمر شاق حتى بالنسبة لأكثر الأشخاص ذكاءً من الناحية التكنولوجية؛ إذ يتطور المشهد الرقمي باستمرار، مع ظهور منصات وتطبيقات واتجاهات جديدة بشكل متسارع. لذلك، من الضروري توفير موارد تعليمية تكنولوجية مناسبة للكبار وأولياء الأمور. ويمكن أن تقدِّم المجتمعات والمؤسسات التعليمية وشركات التكنولوجيا هذه الموارد، بدءاً من ورش عمل حول استخدام منصات التواصل الاجتماعي إلى ندوات حول السلامة وسرية المعلومات عبر الإنترنت. فمن خلال تعزيز المعرفة الرقمية يمكن للوالدَين أن يوجها أطفالهما بثقة في العالم الافتراضي، ما يضمن سلامتهم ويعزز الاستخدام الأمثل للتكنولوجيا ويصبح التواصل أسهل ما يساعد في بناء الجسور التي تضيّق المسافات وتصغِّر الفجوة بين الأجيال.
الحوارات المفتوحة والاحترام المتبادل
إن حجر الزاوية في تجاوز الفجوة الرقمية بين الأجيال هو تعزيز الحوارات المفتوحة والاحترام المتبادل كما يجب أن تكون التكنولوجيا، مع مزاياها ومخاطرها المحتملة، موضوعاً متكرراً وأساسياً في الحوار مع تشجيع الأطفال على مشاركة تجاربهم وآرائهم ومخاوفهم حول العالم الرقمي. ويجب خلال الحوارات الاعتراف واحترام الآراء والأفكار التي يجلبها كلا الجيلين إلى طاولة النقاش، الشباب والأطفال والذين يمثلون السكان الأصليون الرقميون بفهمهم لماهية هذا العالم والكبار بصفتهم المهاجرين إلى هذا العالم الرقمي بتقديرهم للحياة ما قبل الثورة الرقمية وبذلك يمكن لكل جيل أن يحاول الاقتراب من الجيل الآخر.
قبول التغيير واحترام الاختلاف
لتجاوز الفجوة التكنولوجية، من الضروري تقبّل أن التغيير هو جزء طبيعي وحتمي في الحياة وبدلاً من القلق حول سرعة التطور التكنولوجي، يمكننا التركيز على فهم كيف يمكن أن يحدث التغيير بطرائق تعزز حياتنا وعلاقاتنا العائلية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأبناء الأجيال الأقدم التعرف على قيمة الاختلافات التي تجلبها الأجيال الأصغر سناً، والاحتفاء بالمواهب والمهارات التي تقدمها وتشجيعها على استخدام التكنولوجيا في إيجاد حلول لمشكلات استعصت عليهم وعلى مَن سبقوهم.
من المهم تذكّر أن الاتصال البشري لا يمكن استبداله بالتكنولوجيا مهما تطورت، ولكن الأدوات الرقمية يمكنها توفير طرائق جديدة ومثيرة للتواصل والتعلم، ويجب ألا نسمح للتكنولوجيا أن تحل محل الأوقات التي نقضيها معاً بشكل شخصي. ولا بد أن نحافظ على التوازن بين الحياة الرقمية والحياة الحقيقية، وأن نتذكر أن القيم الأساسية مثل الاحترام المتبادل والحب والتفاهم لا تتغير مع التكنولوجيا. فالهوة بين الأجيال ليست مشكلة جديدة، ولكن التكنولوجيا أضافت بُعداً جديداً لهذه القضية. بينما قد تكون الفجوة التكنولوجية مربكة ومزعجة، ثمة العديد من الطرائق التي يمكن للأهل من خلالها التقرب من أطفالهم والحفاظ على الاتصال.
في النهاية يمكننا التأكيد أنه في عالم مليء بالشاشات، نستطيع بناء جسور الفهم والقبول ليس فقط بين الأجيال، ولكن أيضاً بين العالمين الرقمي والحقيقي. فعلى الرغم من تطور التكنولوجيا، فإن قلب الأمور لا يزال يتمحور حول العلاقات البشرية والاتصال بيننا.