العمل المستقل في البلدان النامية هل هو نعمة للمرأة أو نقمة عليها؟

الاقتصاد غير الرسمي
shutterstock.com/wutzkohphoto
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

الاقتصاد غير الرسمي هو الاقتصاد الحقيقي في كثير من البلدان النامية، فما الذي يعنيه، إذاً، دخول منصات العمل الرقمية تلك البلدان؟

بعد انقضاء نحو ستة أشهر من جائحة كورونا، نشر عدد من المنافذ الإعلامية الدولية جانباً مشرقاً لقصة حدثت في أوغندا. فقد أسست واحدة من سيدات مدينة كمبالا، اللاتي فقدن عملهن في قطاع الخدمات اللوجستية في أثناء الإغلاق التام، تطبيقاً جديداً من تطبيقات النقل بحسب الطلب خاصاً بالنساء. اسم التطبيق دايفا تاكسي (Diva Taxi)، ويعمل به عشرات النساء الأوغنديات. وأكثرهن من المسرَّحات من أعمالهن، أو من اللائي أُكرِهن على الإجازة إكراهاً. يوفر التطبيق للعاملات به شريان الحياة الاقتصادي، وللمستخدمات خياراً آمناً للسفر.

كان ذلك خطوة من القفزة الهائلة التي قفزتها منصات العمل الرقمية في أوغندا في السنوات الثلاث المنصرمة؛ مثل النجاح الباهر لتطبيقات توصيل الطعام الجديدة، وإعادة استخدام واحد من أوسع التطبيقات انتشاراً في أنحاء أوغندا وهو دراجات الأجرة البخارية بودا بوداس (boda boda)، فأصبح هدفه توصيل وسائل منع الحمل لأولئك العالقين في بيوتهم، كما لجأ مصففو الشعر وغيرهم من أصحاب الأعمال التجارية الصغيرة إلى المنصات والوسائط الرقمية لوضع إعلاناتهم في أثناء إغلاق متاجرهم.

أحدثت هذه المستجدات، من ناحية، تغييرات مهمة ودائمة؛ ففي استقصاء أجراه مركز التنمية العالمي عام 2021، تبين أن 60% من الشباب الأوغندي أصبح يستخدم منصات اقتصاد الأعمال المستقلة. وقد صرّح الشريك المؤسس للمركز أن مستقبل التوظيف للشباب الأوغندي أصبح في تحقيق التوازن بين مختلف الوظائف المستقلة. ولكن من ناحية أخرى، لم يكن هذا الخبر جديداً على بلد بلغت نسبة العاملين فيه ضمن تصنيف الاقتصاد غير الرسمي 92% من إجمالي عدد العاملين -وهو التصنيف الذي سبق تصنيف اقتصاد العمل المستقل بزمان طويل، وهو عبارة عن أي عمل لا يتمكن العاملون فيه من الحصول على الضمان الاجتماعي الحكومي والحماية العمالية الحكومية.

لقد صار العمل غير الرسمي بمكانة العمل السائد في أكثر أنحاء العالم. ففي عام 2021، قدّرت منظمة العمل الدولية (ILO) عدد العاملين البالغين الذين ينتمون إلى الاقتصاد غير الرسمي بنحو ملياري عامل يمثلون أكثر من 60% من إجمالي قوة العمل على مستوى العالم. وربما ارتفعت هذه النسبة في البلدان النامية أكثر من ذلك بكثير. والمرأة تشكِّل أكثر العمالة غير الرسمية في كثير من البلدان بامتهانها مهناً مثل: البائعات الجائلات، وجمع النفايات، والعمالة المنزلية، وتجارة الأسواق. وكما أشارت منظمة المرأة في العمل غير الرسمي: عولمة وتنظيم (Women in Informal Employment: Globalizing and Organizing) واختصاراً (WIEGO)، إلى أنه على الرغم من أن الاتجاه السائد لدى عامة الاقتصاديين يميل إلى ناحية اعتبار الاقتصاد غير الرسمي إما ثلة من أجرأ رواد الأعمال أو بعض المتورطين في الأعمال غير القانونية؛ فإن الواقع في كثير من البلدان النامية يقول بأن الاقتصاد غير الرسمي هو الاقتصاد الحقيقي.

منصات العمل الرقمية

فما الذي يعنيه، إذاً، دخول منصات العمل الرقمية تلك البلدان؟

إن معدلات البطالة في سوق العمل الرسمية التي تنظمها الحكومة الأوغندية مرتفعة حتى قبل جائحة كورونا، فأصبح الاقتصاد غير الرسمي، لعدة عقود، هو المحرك الأول للنمو الاقتصادي القومي. ولكنّ الجائحة كانت سبباً في ارتفاعٍ أكبر لمعدلات البطالة؛ فقد خسر ملايين الناس وظائفهم. وقد دفعت الجائحة الناس دفعاً، في أوغندا كما في جميع أنحاء العالم، إلى استخدام المنصات الرقمية ليس فقط ليتمكنوا من العيش عبر اكتشاف سبل جديدة للعمل في تجاراتهم في الوقت الذي أُغلقت فيه سبل التجارة المباشرة، ولكن لأن معظم الدعم الحكومي العاجل لا يصل إلا عبر أنظمة الدفع الرقمية، الأمر الذي لم يُتِح للعاملين خياراً غير الترحيب بالإنترنت. في هذه القصة بعض الإيجابيات، ولكن سلبياتها أكثر.

فبعد انقضاء عام على الجائحة، صرح المسؤول التنفيذي بتطبيق غلوفو (Glovo) لتوصيل الطعام، ثاقب منير، قائلاً: “إن اقتصاد الأعمال المستقلة هو مستقبل العمل” في إفريقيا. وكتب منير مقالة في صحيفة الإندبندنت (Independent) الأوغندية ناقش فيها العمل المستقل: “إن أهميته أصبحت تزداد شيئاً فشيئاً باعتباره مساراً واعداً للتنميتين الاجتماعية والاقتصادية وخلق فرص العمل، نظراً للمكانة الفريدة التي تحظى بها إفريقيا باعتبارها القارة الفتية في عدد السكان، باستثناء أنها الأعلى في معدل البطالة بين الشباب”. وبعد أن أشار منير إلى تقديرات منظمة العمل الدولية بأن معدلات البطالة بين الشباب قد تبلغ 830 مليون شاب بحلول عام 2050، اقترح أن يكون الحل في العمل المستقل. ودعا منير إلى إعادة النظر في “الفكر السائد الذي يرى وجوب أن تتحول الأسواق غير الرسمية إلى أسواق رسمية”.

ولكن في الوقت الذي بدأت به منصات العمل المستقل، إبّان جائحة كورونا، في الازدهار بين شعوب البلدان النامية مثل أوغندا؛ لم ينتفع منها العاملون بالقدر نفسه. فالعاملون في قطاع الوظائف غير الرسمية يفتقرون أصلاً إلى الحماية القانونية الأساسية، والمزايا الاجتماعية، والقدرة على المفاوضة ما يجعلهم أكثر عرضة للاستغلال وعدم استقرار ترتيبات العمل. وبإمكان التكنولوجيا أن تفاقم من حدة هذه المشكلات فهي تمنح أرباب المنصات وسائل جديدة لاستغلال العاملين، والتملص من قوانين العمل، والتحكم في الظروف المحيطة بمهام العاملين باستخدام أساليب غالباً ما تكون غامضة وتعسفية، وباستغلال بعض السياسات التي لا يقدر العاملون على التفوه حيالها بكلمة. إن بعض المنصات الرقمية يستخدم الخوارزميات في تحديد أجور العاملين وعدد ساعات العمل، أو في مراقبة أداء العاملين؛ ما أفضى إلى العشوائية في تحديد الأجور وساعات العمل، وسوء بيئة العمل، وضعف الأمان الوظيفي. وإن الكثير من العاملين عبر المنصات الرقمية للعمل المستقل مضطرون إلى القبول بمضاعفة أعمالهم في تلك المنصات سعياً وراء أرزاقهم، ومع ذلك ينتهي بهم الأمر إلى الاستدانة.

ويفتقر كثير من العمال المستقلين إلى الطرق المجدية في معالجة النزاعات أو في الدفاع عن حقوقهم، إذ إنهم محرومون غالباً من الوسائل التقليدية التي بها ينظِّمون أحوالهم لتصبح أفضل. وكذلك فإن العمال المستقلين، في كثير من البلدان، محرومون واقعياً من الانضمام إلى النقابات العمالية الحالية إما بسبب سياساتها إذ إن نقابات كثيرة تُلزم أعضاءها بالحصول على عقود عمل دائمة، وإما لأن هذا هو واقع الأمر إذ يتردد الكثير من أعضاء النقابات في الاتحاد مع أناس يعملون على منصات تزعزع استقرار صناعاتهم، كما هي الحال مع تطبيقات النقل بحسب الطلب التي أثّرت في عمل سيارات الأجرة التقليدية وقطاع النقل العام. وعندما سعى العمال المستقلون لتأسيس نقابة، تورطت منصات الأعمال المستقلة في بعض الأعمال العدوانية لمحاربة تلك المحاولات، مثل حظر العامل الذي يحاول تأسيس نقابة عمالية أو تعليق عضويته.

وفي ظل هذه الظروف، فإنّ النساء يعانين أكثر من الرجال. فإذا نظرت إلى أوضاعهن في سوق العمل لأي بلد، ألفيتها قد أصبحت أقل حظاً من أوضاع الرجال. والمرأة، في عالَم يمثل فيه أرباب الأعمال ذروة الهرم الاقتصادي، هي أبعد الناس عن أن تصبح ربة عمل؛ وأبعد الناس عن أن تكون ضمن العاملين بأجور ثابتة، وأبعد الناس عن أن تحصل على دخل مضمون يمكنها الاعتماد عليه، ولكنها أقرب الناس إلى العمل المستقل غير الرسمي. وفي الوقت الذي يعتمد فيه العاملون بأجور ثابتة على ما سوف يربحونه كل أسبوع، ويحظون في أغلب الأحيان بعقود العمل المستقرة وبغيرها من المزايا كالإجازات المرضية، فإن العمال المستقلين يتحملون كافة المخاطر وحدهم. وهو ما يتجسد في النساء بكثرة كاثرة.

اقتصاد الأعمال المستقلة

عندما اقتحمت المرأة في أوغندا اقتصاد الأعمال المستقلة، تعرضت لمشكلات إضافية كثيرة لا يحب أن يتعرض لها العاملون الذكور، لا المستقلون منهم ولا العاملون على المنصات الرقمية، في أغنى دول العالم الأول. إن الكثير من النساء في أوغندا لا يملكن الأدوات التي تتيح لهن الدخول إلى منصات العمل الرقمية، لا الهواتف الجوالة، ولا الأجهزة اللوحية، ولا أجهزة الكمبيوتر المحمولة، ولا خطط البيانات. وفيما يتعلق باستخدام الهواتف الذكية في البيوت التي تملك هواتف ذكية تكون المرأة في ذيل قائمة المستخدمين، إذ يسبقها في القائمة الزوج الذي يتحكم عادة في الأجهزة المنزلية ثم يليه الأطفال إذ يستخدمونه للدراسة. وإنّ النساء في بعض الأسر إذا جازفن وحاولن استخدام الهاتف الجوال في عمل يدر عليهن دخلاً، فقد يكون ذلك سبباً في إثارة الخلافات بينهن وبين أزواجهن، إذ إنّ الأزواج لا يؤيدون عمل النساء أو احتمال أن يربحن أكثر مما يربحون. وإذا كانت شريحة هاتفها الجوال مسجلة باسم زوجها، فإن ذلك أيضاً قد يؤدي إلى نشوب الخلافات بينهما، وإلى صراع كبير على السلطة، ومشكلات في الثقة، ومعارك لا تنتهي، إذ إنّ أغلب مدفوعات المنصة الاقتصادية تُدفَع رقمياً.

والمرأة العاملة على منصات الاقتصاد المستقل تواجه التمييز من بعض الزبائن الذين لا يحبون توظيف المرأة، وتتعرض للتحرش والملاحقة من بعض العملاء، وتفتقد تدابير السلامة من قبل أرباب العمل. فاضطُّر بعض النساء اللائي يعملن، في أوغندا، سائقات عبر تطبيقات النقل بحسب الطلب إلى استخدام الطرق غير الرسمية للحماية، كحمل بعض الأدوات الحادة أو جهاز رشاش الفلفل لحماية أنفسهن، أو تركيب أجهزة المراقبة بالفيديو في سياراتهن، أو مشاركة مواقعهن الحالية عبر مجموعات الواتساب لكي تتمكن زميلاتهن في العمل من تعقبهن والاطمئنان إلى وصولهن إلى وجهاتهن بأمان.

وليست النساء فقط هن من يواجهن عقبات كثيرة عند استخدام التكنولوجيا المحتفَى بها باعتبارها مستقبل العمل في أوغندا. فهناك العاملون الذين يواجهون عقبات جوهرية، كما هي الحال مع التطبيقات والبرامج التي تفترض المعرفة بالإنجليزية كتابة وقراءة لغةً مشتركةً على شبكة الإنترنت؛ والمهاجرون والعاملون الأكبر سناً المعرَّضون لاحتمال التأخر عن اللحاق بغيرهم بسبب عجزهم عن الوصول إلى التكنولوجيا. ومن الضروري مواجهة المضايقات التي يتعرض لها أكثر العاملين الجدد على شبكة الإنترنت، ومعالجة إجراءات الأمن والسلامة الأساسية أيضاً.

وقد عملت منظمة بوليسي التعاونية (Pollicy)، وهي تجمع نسوي مقره في أوغندا ويدور عمله حول المرأة والتكنولوجيا، على معالجة بعض تلك القضايا عبر تدريب العاملين وبناء قدراتهم. فخلال العام الماضي عملت بوليسي أيضاً مع المشروع البحثي الدولي فيروورك (Fairwork) الذي يقيس مدى التعامل الطيب لشركات منصات العمل المستقل مع عامليها؛ بهدف تقييم عمل منصات الاقتصاد المستقل المزدهرة في أوغندا. فمن بين 12 منصة قيّمها فيروورك في أوغندا، لم تُحرِز شركات العمل المستقل أي نقاط على الإطلاق إلا شركة غلوفو فقط هي التي حققت الحد الأدنى من معايير توفير العمل العادل.

إنّ هناك الكثير من العمل لمعالجة تلك القضايا في جميع أرجاء العالم، لا سيما في البلدان النامية حيث تأخرت قوانين العمل كثيراً عن اللحاق بالحياة الواقعية للعمال. فقوانين العمل وسياساته الحالية في أوغندا، كما في غيرها من البلدان، تعتمد على التوظيف التقليدي في الاقتصاد الرسمي على الرغم من أن هذا القطاع لا يمثل إلا القلة القليلة من قوة العمل القومية. (بل حتى هؤلاء القلة مُعْوِزون في الواقع لأن آخر تحديث لقوانين الحد الأدنى للأجور في أوغندا كان في عام 1984؛ أي منذ ما يقرب من 40 سنة) فالمسؤولون في الحكومة في حاجة إلى التعلم والتدريب ليفهموا الإطار العام للعمل الرقمي؛ وهكذا يستطيعون سنّ التشريعات المناسبة ومعرفة السبيل المفضي إلى خلق بيئة عمل داعمة للعاملين بالمنصات الرقمية حتى يصطفوا تحت مظلة نقابية واحدة، وبذلك يتحقق التوازن في الهيمنة بينهم وبين شركات التكنولوجيا. وبالمثل، فإن الشرطة في هذه البلدان في حاجة هي الأخرى إلى فهم أعمق لهذا القطاع من أجل التصدي للجرائم الموجهة نحو العاملين بمنصات العمل المستقل.

وتستطيع المنصات الحريصة على الوفاء بوعودها في توفير مستقبل أفضل للعمل، أنْ تؤدي هي الأخرى دوراً في هذا الشأن؛ فتعيد تصميم هذه المنصات لتصبح هي المركز لحقوق العاملين وسهولة حصولهم على المساعدات. وقد اتخذ بعض المنصات ما يلزم من الإجراءات لتحقيق هذا الهدف، فتطبيق موقِف السيارات غراج (Garag) مثلاً يحتفظ بصندوق اجتماعي حتى يوفر بعض الرعاية الاجتماعية للعاملين بمنصات العمل المستقل. وفي بعض الأماكن تحتل البلدان النامية الصدارة فيما يتعلق بتصوُّر مستقبل حقوق النساء في العمل عبر الوسائط الرقمية. ففي الأرجنتين طوَّرت نقابة العمال المحلية منصة للعمل المحلي يملكها العمال ويديرونها.

إعادة تصميم منصات العمل المستقل

ولكن إعادة تصميم منصات العمل المستقل تحتاج إلى منهج شامل يترأسه مجتمع العاملين ويتولى توجيهه على هذه المنصات ليضمنوا سهولة الوصول إلى حق الحماية الاجتماعية التي ينبغي أن ينالها كل العمال.

وحتى نبني مستقبلاً أعدل للعمال وللمنصات التكنولوجية، لا بد أن نضع في المقام الأول حقوق العاملين واحتياجاتهم وآراءهم عند تصميم تلك المنصات وعند تحديد طريقة إدارتها. وسوف يستلزم هذا الأمر تضافر جهود كل من مالكي المنصات، والعاملين، وصانعي السياسات وغيرهم. إن المرأة عندما تتمكن من أن تصبح هي المالكة على كافة مستويات العمل، فإن مستقبل النساء فيما يتعلق بإعطائهن مزيداً من الحقوق في العمل لن يصبح ممكناً فحسب، بل سيصبح هو الغالب؛ ما يعني استخدام المرأة وكالات العمل عبر الهاتف وخطط البيانات في البحث عن العمل، واستخدامها حسابات تحويل الأموال عبر الهاتف المحمول لاستقبال الأموال من خلالها، واستخدام منصات العمل نفسها. وفي الختام، فهذا هو السبيل الوحيد الذي يمكن للمرأة أن تبدأ به لتنال القوة في مواجهة الأنظمة التي أزاحتها إلى قاع الهرم الاقتصادي.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.