يغيّر الذكاء الاصطناعي ملامح العمل في عالمنا، وفي ذلك فرصة لقطاع الرعاية الصحية الحيوي السريع النمو لتمكين القوى العاملة ودعمها، وهو الذي يعاني نقصاً حاداً فيها.
تتغير ملامح العمل في عالمنا، ويدور الكثير من النقاشات حول تأثير الذكاء الاصطناعي على العمل والعاملين في كل مكان حالياً، بدءاً من المنتدى الاقتصادي العالمي والبيت الأبيض، وصولاً إلى قاعات النقابات الأميركية وقاعات مجالس إدارة شركات فورتشن 100 (Fortune 100) وحفلات التعارف التي يقيمها أصحاب رأس المال المغامر. يستعد الذكاء الاصطناعي لتغيير كل شيء بدءاً من طريقة رد خدمة العملاء على الأسئلة إلى تشخيص حالات السرطان. سنتخطى هنا الدقة الزائفة في التنبؤ بعدد الوظائف التي سيجري الاستغناء عنها بالضبط، وسنركز بدلاً من ذلك على طريقة تصور الآثار المفيدة للذكاء الاصطناعي على العاملين والمجتمع على حد سواء، ومن ثم طرق تحفيزها.
بصفتنا مستثمري رأس مال مغامر، نبحث باستمرار عن الأفكار الكبيرة والجريئة التي يمكن أن تحقق عوائد ضخمة لمستثمرينا. لكننا لم ندخل هذا القطاع دون إيمان راسخ بأن المستقبل سيكون أفضل من الحاضر، وهو ليس إيماناً بالمستقبل المثالي الذي تقدمه التكنولوجيا، بل بأن ثمة العديد من العوامل في رأس المال التي يمكنها تشكيل المستقبل الذي نريده في حال قررنا الاستفادة منها. ومع إعادة تشكيل الذكاء الاصطناعي لعالم العمل، نعتقد أن ثمة فرصاً في قطاع اقتصاد الرعاية الحيوي السريع النمو لتمكين القوى العاملة ودعمها في ظل وجود نقص حاد فيها في الولايات المتحدة.
الذكاء الاصطناعي ومستقبل العمل: ما الذي سيبقى وما الذي سيرحل؟
المهارة الأساسية للذكاء الاصطناعي هي التعرف على الأنماط على نطاق هائل. وهذا يعني أن العديد من المهام الإدارية والتحليلية مثل تدوين الملاحظات والجدولة وتسوية البيانات وتلخيصها ستقل بدرجة كبيرة. صحيح أن الوظائف ستُستبدل في هذه المجالات، ولكن التي ستبقى منها قد تصبح أعلى جودة وأجراً. على سبيل المثال، لم يعد مدراء التمريض أو المعلمون بحاجة إلى تخصيص 40% من وقتهم لإعداد الجداول العمل أو تصميم شرائح العرض وأوراق العمل. يمكنهم في ذلك الوقت التركيز على العناصر الإنسانية الفريدة في عملهم التي تتطلب تقييماً عاطفياً وسياقياً وبصيرة لا يمكن للتكنولوجيا محاكاتها. سوف يبرِز الذكاء الاصطناعي هذه المهارات الشخصية بطرق تجعلها أكثر قيمة وربما أعلى أجراً.
كما أن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على تذليل العقبات التي تحول دون العمل في العديد من الوظائف، بما فيها الوظائف التقنية. لقد شهدنا السيناريو نفسه مراراً في القفزات التي حققتها التكنولوجيا. فكر في الطريقة التي سهلت فيها الخرائط والملاحة عبر الإنترنت عمل سائقي سيارات الأجرة في المدن الكبرى، ولم يعد الأمر يتطلب عقوداً من الزمن لمعرفة الشوارع الصغيرة. والآن بعد أن أصبح بإمكان الذكاء الاصطناعي تجميع كميات هائلة من المعلومات وتقديمها في لحظة الحاجة إليها للفني الذي يصلح عمود هاتف معطل، أو الممرضة التي تتساءل عن نوع الإبرة التي يجب استخدامها، أو المهندسة الشابة التي يمكنها أتمتة إنشاء الرموز البرمجية، ستصبح القوى العاملة في الواقع أكثر قابلية للاستبدال.
قد يبدو ذلك أمراً سيئاً بالنسبة للعاملين، إذ سيخفض الذكاء الاصطناعي من تكلفة التعيين ومن تكاليف دوران الموظفين، لكن لا يقتصر تأثير العاملين على معرفتهم التقنية. ستبقى المهارات الشخصية وبناء العلاقات وثقافة العمل مهمة في جميع المجالات وأنواع الوظائف. في الوقت الحالي لدينا الكثير من الموظفين المؤهلين تأهيلاً عالياً الذين يقضون أيامهم في أداء الكثير من مهام العمل الضرورية لوظائفهم ولكنها لا تستفيد من خبراتهم على أكمل وجه. عبر أتمتة الذكاء الاصطناعي لبعض المهام الروتينية الأكثر استهلاكاً للوقت، سيتاح للعاملين ذوي الخبرة الطويلة "ممارسة مهاراتهم وخبراتهم التي تتناسب مع مستوى مؤهلاتهم وخبراتهم". علاوة على ذلك، يمكن لقابلية استبدال القوى العاملة أن تعود بفوائد كبيرة على العاملين. إذ سيتيح لهم التدريب المتوافر عند الطلب، وثروة المعارف المتراكمة في متناول اليد القدرة على الانتقال من وظيفة إلى أخرى، ومن منطقة إلى أخرى، والارتقاء بالمهارات، والتدريب المتعدد المهارات بصرف النظر عن الخبرة الوظيفية.
دور التكنولوجيا الجديدة وتقديم الرعاية
في حين يتركز جزء كبير من القلق المتعلق بالذكاء الاصطناعي والأتمتة حول خطر استخدام هذه التقنيات لتحل محل العاملين -وهو خطر حقيقي في بعض القطاعات- نواجه في الواقع نقصاً حاداً في العمالة في بعض القطاعات القائمة وليس ثمة ما يشير إلى زوالها. وعلى الرغم من الاستثمارات الكثيرة في الأدوات المصممة لمساعدة مطوري البرمجيات على التفرغ للجوانب الأكثر صعوبة في عملهم، كانت الاستثمارات في التكنولوجيا التي تساعد عمال البناء أو قطاع الخدمات أو المعلمين أو الممرضين أو غيرهم من العاملين في مجال الرعاية أقل بكثير. العديد من هذه الوظائف أرض خصبة للابتكار، ويمكن لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المسؤولة أن تحقق فوائد تفوق الأضرار في مساعدة الشرائح التي تعاني صعوبات كبيرة من القوى العاملة.
وفقاً لمجموعة بوسطن الاستشارية (BCG)، ستخسر الولايات المتحدة 290 مليار دولار سنوياً حتى عام 2030 إذا لم تعالج مشكلتين أساسيتين في اقتصاد الرعاية، وهما النقص الشديد في عدد العاملين في وظائف الرعاية ومغادرة موظفي الرعاية الأسرية من القطاعات الأخرى عندما يضطرون إلى سد الفجوات التي تنشأ في مجال الرعاية.
لذلك قد تظهر بعض الأمثلة المثيرة للاهتمام حول الفائدة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي لكل من العاملين ومتلقي الخدمات في اقتصاد الرعاية. يوظف اقتصاد الرعاية 17% من القوى العاملة في الولايات المتحدة، وهو مجال يعاني حالياً أكبر عجز في التوظيف، ويشمل ذلك مقدمي الرعاية الصحية المنزلية والممرضين. وفي الوقت نفسه، تتسم هذه الوظائف بمعدلات مرتفعة للغاية من الاحتراق الوظيفي والإرهاقين البدني والذهني، وهي غالباً ذات أجور منخفضة، إذ يعيش ما يقرب من 1 من كل 5 من مقدمي الرعاية الصحية المنزلية في حالة فقر.
يمكن للذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا التمكين الأخرى أن تجعل وظائف الرعاية أفضل وأكثر جاذبية عبر أتمتة بعض المهام وليس جميعها، وبذلك ترفع العرض من قبل القوى العاملة. لنأخذ الاحتراق الوظيفي للعاملين في مجال الرعاية الصحية على سبيل المثال، يمكن لبعض أدوات الذكاء الاصطناعي مثل أدوات الرسوم البيانية للبيانات الطبية وتوثيق البيانات السريرية وتوزيع عمل فرق الرعاية الصحية التي تقدمها شركات مثل أبريدج (Abridge) وغاردوك (Guardoc) وإن هاوس هيلث (In-House Health) أن تختصر ثلثي العمل. يمكن للتكنولوجيا أيضاً إنشاء برمجيات للشركات الصغيرة في عدة مجالات مثل رعاية الأطفال ورعاية المحتضرين ومنشآت التمريض المتخصصة لرفع كفاءة الجدولة والتسجيل وإدارة الأعمال، ما قد يؤدي إلى تحقيق وفورات في الأجور، وبالتالي أجور أعلى. يمكن أن تخفض مثل هذه التطبيقات الوقت الذي يقضيه الممرضون في المهام الإدارية، ما يسهم في تخفيف أثر النقص الحاد في عددهم.
تسجل مهنة التعليم في الولايات المتحدة الأميركية أعلى مستويات الاحتراق الوظيفي مقارنة بأي مهنة أخرى في البلاد. يقضي المعلمون حالياً نحو نصف وقتهم في وضع الدرجات والتخطيط للدروس وتطوير المناهج والمهام الإدارية، ولا يقضونه مع طلابهم. تقدم بعض أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل بريسك تيتشينغ (Brisk Teaching) المساعدة للمعلمين المرهقين في تلك المهام.
وفي الوقت نفسه، يمكن للذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى أن تخفف عبء تقديم الرعاية على 40 مليون أميركي يقدمون الرعاية الأسرية غير المأجورة لأفراد أسرهم. تستخدم شركة ويلثي (Wellthy) الذكاء الاصطناعي لتوفير أدوات تنسيق الرعاية والدعم بحسب الطلب، وتستخدم شركة كيرفول (Carefull) تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة المتقدمة للكشف عن الاحتيال وتمكين الأبناء البالغين من إدارة الشؤون المالية اليومية لأحبائهم المسنين. تتطلب الرعاية بذل الجهد وإظهار الحب على حد سواء، وتساعد التكنولوجيا في تقليل عبء الأعمال الإدارية للعائلات وإتاحة المزيد من الوقت لهم للتواصل.
نظرة مستقبلية
لن يحل الذكاء الاصطناعي والابتكار التكنولوجي وحدهما أزمة العمالة في اقتصاد الرعاية. ثمة حاجة إلى استجابة مختلف القطاعات لضمان معايير أعلى وأجور أفضل للقوى العاملة في مجال تقديم الرعاية، وزيادة الدعم المالي للعائلات الأميركية لضمان زيادة فرصها بالحصول على رعاية الأطفال والمسنين.
تقع مسؤولية ضمان استفادة العاملين والمجتمعات من النمو السريع للتكنولوجيا كما يستفيد منه رواد الأعمال والمسؤولون التنفيذيون على عاتق الجميع، من شركات ومؤسسات وعاملين وأكاديميين وحكومات، بالإضافة إلى المستثمرين الملتزمين باستخدام التكنولوجيا التي يمولونها لتحقيق الصالح العام.
بدأ المجتمع المدني وحكومات دول عدة وقادة القطاعات إجراء محادثات شاقة لتطوير أطر تنظيمية يمكن تنسيقها على مستوى العالم -التي تعترف بالإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي وكذلك بمخاطره التي لا يستهان بها إذا لم توظف بطريقة مدروسة. يحظى مستثمرو رأس المال المغامر بامتياز قيادة الذين يبنون مستقبل الذكاء الاصطناعي، ويتعين علينا دفع الاقتصاد نحو المزيد من الاستدامة والإنسانية. يناقش الكثير من المسؤولين حالياً النهج الصحيح في هذا الصدد، إذ أصدر البيت الأبيض مؤخراً أمراً تنفيذياً خاصاً بالذكاء الاصطناعي، كما أصدر الاتحاد الأوروبي العام الماضي أول إطار تنظيمي له من خلال قانون الذكاء الاصطناعي (AI Act). وفي نوفمبر/تشرين الثاني، أصدر تحالف لمجموعة من مستثمري رأس المال المغامر يدعى "ريسبونسيبل إنوفيشن لابز" (Responsible Innovation Labs) مجموعة من المبادئ التوجيهية حول بروتوكولات الذكاء الاصطناعي المسؤول والتزاماته للشركات الناشئة والممولين تعطي الأولوية للسلامة والثقة والشفافية. استقطبت المبادئ التوجيهية دعم العشرات من مستثمري رأس المال المغامر وشركات ناشئة وآخرين.
كما يجب أن يكون أصحاب الأصول التي يديرها مستثمرو رأس المال المغامر متحمسين للاستثمار التكنولوجي المسؤول، مثل المؤسسات الكبرى وبرامج التقاعد والأوقاف الجامعية. إن مواءمة الاستثمارات مع المبادئ الأخلاقية ليس التصرف الصحيح فحسب، بل هو عمل تجاري مربح.
من الضروري في خضم هذه المرحلة التحويلية أن نحرص على توجيه محرك الابتكار في اقتصادنا نحو التكنولوجيا المفيدة للجميع.