هل أنت قادر على تذكر كل شيء تعلمه في حياتك؟ الإجابة الحتمية "لا"؛ إذ أصبحت الآلات جزءاً أساسياً في مناحي الحياة المختلفة، ومقارنةً بالبشر يمكنها تذكُر كل مدخلات البيانات ومعالجة كميات كبيرة منها بسرعة.
ودفع تقدم الآلات وتطورها مسؤولي نظام التعليم الحديث، لا سيما مدراء تكنولوجيا المعلومات، وأعضاء هيئة التدريس، والمعلمين للبحث عن ماهية الدور البشري في مهام المعرفة الأساسية، وكيفية دمجه بالتكنولوجيا والاستفادة منها لتطوير الجيل المقبل، مع الأخذ بالاعتبار الاهتمامات الشخصية للطلاب.
الواجهات العصبية لاكتساب المعرفة
لفت المدير التنفيذي لشركة تسلا (Tesla) المُصنّعة للسيارات الكهربائية، إيلون ماسك، أنظار العالم إليه بمشروعه نيورالينك (Neuralink) الهادف إلى الدمج بين ذكاء البشر والذكاء الاصطناعي، وعُرض مقطع فيديو لقرد يلعب بونغ (Pong) من خلال التحكم بدماغه بواسطة جهاز لاسلكي مزروع جراحياً يمكنه قراءة إشارات الدماغ مباشرة وتفسير الأوامر المقصودة، وتسمى التكنولوجيات التي تمكّن مثل هذا الاتصال بين الكمبيوتر والدماغ واجهات الدماغ والحاسوب (Brain-Machine Interfaces. BMIs).
وتعمل واجهات الدماغ والحاسوب، وغيرها من التكنولوجيا المماثلة الأخرى على قراءة الإشارات العصبية وفك تشفيرها في محاولة لفهم مخرجات الدماغ، كما تقوم معالجة الإشارات التكيفية والواجهات العصبية الحساسة واستدلال الآلة ونمذجة الأنظمة المعقدة على دمج قوة الأنظمة الرقمية والقدرة البشرية لتجربة الرؤى وتطبيق الحدس، ما يبشر بمسار تطوُري مشترك. وفي هذا الإطار، بحثت مؤسسة دبي للمستقبل في تقريرها: الفرص المستقبلية: 50 فرصة عالمية الفرص المستقبلية المرتبطة بعلاقة الإنسان بالتكنولوجيا، ومنها استخدام الواجهات العصبية لاكتساب المعرفة عبر بيئة يزوّد فيها المعلمون الأطفال بمهارات الحياة المستقبلية ويدعمون صحتهم النفسية.
ووصف التقرير المرحلة المقبلة بأنها حقبة التحولات الكمية تعبيراً عن التغيرات الجذرية السريعة والمفاجئة المتوقع حدوثها بالتوازي في مختلف أنحاء العالم، واعتمد التقرير على مراجعة وتحليل أكثر من 100 دراسة وتقرير وكتاب ومقال، وإجراء مقابلات واجتماعات عبر الإنترنت لمناقشة أسئلة تتعلق بمستقبل النمو والرخاء والسعادة، وكشف عن اتجاهات كبرى مرتبطة بالمستقبل يمكن أن تتغير نتيجة التحولات التكنولوجية والانكماش الاقتصادي.
واقع التعليم ومشاكله
تستقبل المدارس حول العالم أكثر من مليار طفل يومياً، منهم نحو 240 طفل من أصحاب الهمم الذين يواجهون أكبر المعوقات في عملية التعليم، وبحسب منظمة الصحة العالمية يعاني 14% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عاماً من مشكلة تتعلق بالصحة النفسية.
ويُعد التسرب المبكر من التحديات التي تواجه المدارس أيضاً، إذ أكدت الورقة البحثية التي قدمتها المفوضية الأوروبية عام 2020 بعنوان: نهج المدرسة الكاملة لمعالجة ترك المدرسة في وقت مبكر (Education & Training 2020: Schools policy A whole school approach to tackling early school leaving)، ضرورة تعزيز ثقافة المدرسة الإيجابية والعمل الجماعي والممارسات التعاونية داخل مجتمع المدرسة، والتعاون بين الجهات الفاعلة في المدرسة وأصحاب المصلحة لضمان النجاح التعليمي ومنع ترك المدرسة مبكراً.
بدورها، سلطت اليونسكو في تقريرها العالمي لرصد التعليم عام 2020 الدمج والتعليم: كل الوسائل (Inclusion and education: A L L M E A N S A L L) الضوء على مشكلة عدم التسامح مع التنوع العرقي والديني، وكذلك استبعاد بعض الأفراد بسبب الفقر أو الصراعات، ما يتطلب تعزيز سعادة الطالب في المدارس، بحسب ما أكدته الدراسة الإسبانية كيف تؤثر المدارس على رفاهية الطلاب: نهج متعدد الثقافات في 35 دولة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (How Schools Affect Student Well-Being: A Cross-Cultural Approach in 35 OECD Countries)، لذا تتجه دول أكثر نحو تبني نهج المدرسة الكاملة، التي لا يرتادها الطلاب لمجرد دراسة المواد التقليدية فحسب، بل للانخراط أيضاً في ثقافة المدرسة ليصبحوا أفراداً فاعلين في مجتمعاتهم.
وتعاني المنظومة التعليمية أيضاً من مشكلة الأمية المنتشرة على نطاق واسع، إذ لا يزال 773 مليون شخص في العالم أميين، معظمهم من النساء، ونحو 617 مليون طفل في العالم لم يبلغوا الحد الأدنى من مستويات الكفاءة في القراءة والرياضيات بسبب نقص المعلمين المدربين، وعدم كفاية المواد التعليمية، وعوامل أخرى مرتبطة بالمدن أو الدول التي يعيشون فيها مثل الانقسامات العرقية والصراعات، والفقر واختلافات الطبقة الاجتماعية.
أما منطقة الشرق الأوسط؛ فتواجه تحديات مماثلة للدول الأخرى، ما يتطلب زيادة شمولية التعليم ودعم الصحة النفسية في المدارس، خصوصاً أن المنطقة تضم ما يزيد من 200 مليون طفل وشاب تقل أعمارهم عن 24 عاماً، وفقاً لبيانات البنك الدولي، أي ما يمثل نحو نصف عدد سكان المنطقة، وأظهر استطلاع رأي الشباب العربي للعام 2021 أجرته شركة الأبحاث العالمية بين شون آند بيرلاند (Penn Schoen & Berland. PSB)، أن 87% من الشباب والشابات العرب، بين 18 و24 عاماً، يشعرون بالقلق من تدني جودة التعليم، إذ يبلغ متوسط بطالة الشباب في منطقة الشرق الأوسط نحو 27% متجاوزة المتوسط العالمي البالغ 13.5%، و يرون أن تدني مستويات التعليم السبب الجذري للمشكلة، ويفكر ثلث الشباب في المنطقة بالهجرة لأسباب اقتصادية وبحثاً عن فرص تعليمية أفضل.
التوجهات المستقبلية للدمج بين التعلم الآلي والتقليدي
تثير التكنولوجيا القلق حول مستقبل الأفراد، ما يطرح تساؤلاً عن إمكانية عملهما وتطورهما معاً، وعليه، استعرض تقرير مؤسسة دبي للمستقبل الفرص المستقبلية المرتبطة بالدمج بين التعلم الآلي والتقليدي، والمتمثلة في:
- تحسُن تعلم أصحاب الهمم
كشفت دراسة ألمانية بعنوان: واجهات الدماغ والحاسوب للتطبيقات التعليمية (Brain-Computer Interfaces for Educational Applications) أنه يمكن استخدام تكنولوجيا مراقبة إشارات الدماغ والعمليات المعرفية العصبية المرتبطة بها والتفاعل مع الطالب عبر آليات ردود الفعل، مثل الأسئلة والمحفزات، ما يعزز إمكانية التعلم لدى أصحاب الهمم ويتيح لجميع الطالب التعلم والتفكير بفعالية أكبر.
- وقت أقل وفاعلية تعلم أكبر
يتيح التعلم السريع المعتمد على الواجهات العصبية وقتاً أكثر واهتماماً أكبر بفهم أساليب تعلم المهارات الحياتية وتحسين الصحة النفسية بطريقة أفضل، والتوصل إلى طرق جديدة لتوظيف المعلمين وتدريبهم ومراقبتهم.
- أدوار جديدة
يمكن أن تنتج التحولات التكنولوجية توجهات حكومية وعامة لتغيير أدوار المدارس في المجتمع، وستُعدل المناهج الدراسية ويُعاد توجيه المدارس لتصبح مساحات لتحقيق الذات والسعادة والتركيز على الإبداع والمهارات الاجتماعية واللعب، وسيتمثل دور المعلمين في تمكين الأطفال وإرشادهم في المهارات الحياتية، فيما سيضمن التعلم الآلي اكتساب المعرفة وتزويد المعلمين بفهم أفضل للتعليم والصحة النفسية.
- منهج دراسي عالمي
تساعد المناهج المشتركة في تعزيز التفاهم العالمي وتحسين فرص التوظيف، لذا يمكن أن تتعاون الدول لإنشاء مناهج أساسية معترف بها عالمياً، وبجودة عالية ومتسقة من رياض الأطفال حتى سن 18 عاماً، ويساعد الاعتماد على التكنولوجيا الجديدة التي تدعم التعلم عن بُعد والتعلم الشخصي في تحقيق هذه الخطوة، كما توفر هذه التكنولوجيا الجديدة خياراً للتقييم عن بُعد بالاعتماد على الحواسيب لرفع مستوى كفاءة الاختبارات وعمليات إصدار الشهادات في جميع المدارس.
ويوفر المنهج العالمي قاعدة للنمو الشخصي للأطفال ورخائهم، ويمكن للدول تعديله وفقاً لخصائصها ومميزاتها الوطنية أو الثقافية، وسيعزز هذا المنهج التفاهم بين الثقافات والروابط بين الناس عبر إنتاج تجربة مشتركة منذ الطفولة، إضافة إلى خفض تكاليف التعليم ورفع مستويات التحصيل الدراسي في العالم، لكن يمكن أن تؤدي القيود المحلية في البنية التحتية التكنولوجية ومعارضة الجهات المعنية بالتعليم التقليدي إلى سوء تطبيق المناهج الدراسية، وبالتالي لن تتوافق مهارات الطالب مع متطلبات السوق المحلية أو الإقليمية، وربما يشعرون بالانفصال عن القيم أو المعايير المحلية إن لم تُستكمل المناهج الدراسية الأساسية بمواضيع ذات أهمية ثقافية أو وطنية.
بالنهاية، يمكن أن تشهد الأعوام المقبلة نقاط مشتركة بين التكنولوجيا والبشر تساعد في تذليل عقبات التعلم وتطوير القدرات اللازمة للحياة اليومية والصحة النفسية الجيدة للطلاب.