تأثير البنية التحتية العامة الرقمية في الأنظمة الاقتصادية للدول النامية

5 دقيقة
shutterstock.com/Ar_TH
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تقدّم منصة إنديا ستاك (India Stack) نموذجاً يحتذى به لتمكين الأنظمة الاقتصادية النامية للأعمال غير الرسمية ودفع عجلة النمو الشامل.

في زيارتنا الأخيرة إلى ولاية أندرا براديش الريفية في الهند توقفنا لشراء كوب من الشاي من بائعة شاي، وهي رائدة أعمال غير رسمية تبيع الشاي على جانب الطريق. وبعد أن قدمت لنا كوباً ساخناً من شاي ماسالا الساخن، أعطتنا رمز الاستجابة السريعة لإجراء عملية الدفع. لم يكن لدى هذه السيدة التي تعمل في منطقة ريفية نائية حساب مصرفي رقمي يسمح لها بتلقي المدفوعات الرقمية فحسب، بل كان لديها إثبات الهوية اللازم لمثل هذا الحساب، وهو رقم فريد مكون من 12 خانة مرتبط ببياناتها البيومترية يطلق عليه اسم آدهار (Aadhaar). وكان من الواضح أنها تثق في المدفوعات الرقمية من خلال واجهة المدفوعات الموحدة (United Payments Interface) واختصاراً (UPI). كان استخدامه سهلاً لدرجة أنها فضّلته على النقود.

تُعد البنية التحتية العامة الرقمية في هذه الحالة (منصة إنديا ستاك) إحدى ركائز التغيير الشامل الذي يُحدث تحولاً في الاقتصاد الهندي. توفر البنية التحتية العامة الرقمية الركيزة الأساسية لتقديم خدمات رقمية تحويلية على نطاق واسع مثل أنظمة الهوية الرقمية والمدفوعات الرقمية باعتبارها حلقة وسيطة بين البنية التحتية المادية (مثل شبكات النطاق العريض) والتطبيقات المرتبطة بالقطاعات (مثل الضمان الاجتماعي). برزت البنية التحتية العامة الرقمية على مستوى العالم خلال جائحة كوفيد-19، ما أتاح إمكانية الدفع الرقمي من الحكومة إلى الأفراد عبر التحويلات النقدية. تُعد منصة إنديا ستاك الهندية أحد الأمثلة على البنية التحتية العامة الرقمية، ومن الأمثلة الأخرى نظام الدفع السريع بيكس (Pix) في البرازيل، ونظام كونسيومرز داتا رايت (Consumer Data Right) في أستراليا.

بدأت قصة إنديا ستاك في عام 2009، وحينها لم يكن لدى ما يقرب من 400 مليون هندي أي شكل من أشكال الهوية الفردية، ما يعني أن غالبية السكان لا تملك حسابات مصرفية ولا يمكنها الحصول على الائتمان. وهذا يعني أيضاً أن الكثير منهم لم يكن قادراً على المطالبة بالخدمات العامة والمزايا المستحقة له بسبب التكلفة العالية للتحقق من الهوية من خلال العمليات اليدوية والوثائق المادية. كانت هذه بداية مشروع آدهار، الذي قدّم هوية يمكن التحقق منها عالمياً، وهي شكل أساسي من أشكال الهوية الرقمية. بحلول عام 2022، تمكّن نحو 1.3 مليار هندي؛ أي ما يقرب من 95% من السكان، من إثبات هويتهم رقمياً. تحول مشروع آدهار إلى منصة إنديا ستاك خلال منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ليشمل مكونات عدة مثل المدفوعات وحوكمة البيانات المالية، بالإضافة إلى الهوية. يسمح مُكوِّن المدفوعات، وهو واجهة المدفوعات الموحدة، بإجراء مدفوعات سهلة بين الأفراد. وقد زاد حجم هذه المدفوعات من أقل من مليار معاملة في السنة المالية 2018 إلى أكثر من 83 مليار معاملة في السنة المالية 2023. وأخيراً، يتيح مكوّن حوكمة البيانات التخزين الآمن للبيانات وتبادلها، ما يضمن أن تكون ملكية البيانات والتحكم بها بيد المستخدمين. وهذا بدوره يتيح للمواطنين الاستفادة من مسار البيانات في أثناء استخدامهم لآدهار وواجهة المدفوعات الموحدة.

تُعد منصة إنديا ستاك نهجاً فريداً من نوعه لتطوير البنية التحتية الرقمية عبر شراكة بين الحكومة والقطاع الخاص. وعلى هذا النحو فهي تختلف عن الشراكة التي تركز على الشركات مثل خدمة الإنترنت التي توفرها مراكز البيانات التجارية أو الشراكات التي تركز على الحكومة مثل خدمة الإنترنت التي تتحكم بها الحكومة في الصين. وتتيح الطبيعة القابلة للتشغيل البيني والمنخفضة التكلفة والمفتوحة المصدر لمنصة إنديا ستاك إمكانية تكرار النموذج بسرعة وبتكلفة معقولة في الأنظمة الاقتصادية النامية الأخرى. يوفر هذا النموذج نهجاً شاملاً ينطلق من القاعدة إلى القمة لتحقيق التنمية والنمو اللذين تحتاج إليهما البلدان النامية وتفتقر إليهما حتى الآن.

ما الذي يمكن أن تتعلمه الأنظمة الاقتصادية النامية من إنديا ستاك

تتسم البلدان النامية مثل الهند بالفراغ المؤسسي الذي يحدث عندما تكون الهياكل المؤسسية الرسمية التي تدعم اقتصادات السوق وتدفعها ضعيفة أو غير موجودة. فعندما يفتقر العديد من الناس إلى حقوق الملكية الآمنة (وبالتالي الوصول إلى المعلومات والائتمان والخدمات العامة وغيرها من البنى التحتية الاقتصادية الحيوية)، لا يمكن تفعيل قوة الأسواق ويتعثر التقدم الاقتصادي والاجتماعي. تمنح البنية التحتية العامة الرقمية على شكل منصة إنديا ستاك حقوق الملكية الرقمية للمواطنين باعتبارها وسيلة لملء هذا الفراغ، وهي آلية يمكن أن تتبعها الاقتصادات النامية الأخرى لزيادة الدخل والإنتاجية من خلال إدخال الملايين التي تعمل خارج الاقتصاد الرسمي إليه.

ملء فراغ الهوية: تقدم الاقتصادات المتقدمة جوازات السفر وغيرها من أشكال وثائق الهوية منذ الولادة، لذلك من السهل التحقق من الهوية الشخصية. لكن الافتقار إلى وسائل آمنة لتحديد الهوية في الأنظمة الاقتصادية النامية يؤدي إلى تقييد وصول الناس إلى الخدمات الحكومية وخدمات القطاع العام. يمكن أن توفر البنى التحتية العامة الرقمية التي تقدم هوية رقمية آلية لملء هذا الفراغ، فعلى سبيل المثال، يمثل آدهار إثبات هوية سلس لرواد الأعمال غير الرسميين في الهند للوصول إلى المساعدة التي تقدمها الدولة والخدمات العامة الأخرى مثل تسجيل الأعمال التجارية. يؤدي ذلك إلى إزالة العقبات التي تواجهها المجتمعات ذات الدخل المنخفض والمهمشة من خلال إدخالها في نطاق الخدمات المصرفية والحكومية، وتمكينها من أن تصبح أكثر نشاطاً في مجال ريادة الأعمال. وبالفعل، مكّن آدهار ما يقرب من 50% من المواطنين الهنود من فتح أول حساب مصرفي لهم أو الوصول إلى خدمات الهاتف المحمول.

ملء الفراغ المالي: يفتقر معظم رواد الأعمال غير الرسميين في الأنظمة الاقتصادية النامية إلى إمكانية الوصول إلى المؤسسات المالية بشروط مفيدة لهم، هذا إن تمكّنوا من الوصول إليها أساساً، وذلك بسبب عدم وجود ضمانات أو تاريخ ائتماني. هذه العملية أبسط بكثير في الأنظمة الاقتصادية المتقدمة بسبب الانتشار الواسع للحسابات المصرفية والأنشطة التجارية عبر الإنترنت. توفر البنى التحتية العامة الرقمية على شكل واجهات الدفع آلية لسد الفجوة المرتبطة بالتمويل في الاقتصادات النامية. على سبيل المثال، تنشئ واجهة المدفوعات الموحدة سجل “تدقيق” لمعاملات رواد الأعمال غير الرسميين، الذين لولا ذلك لما كان لديهم مثل هذا السجل لنشاطهم المالي. تعمل واجهة المدفوعات الموحدة من خلال حسابات مصرفية، وبالتالي يصبح لدى البنوك معلومات عن هذه الحسابات ويمكنها استخدامها لتقديم رأس المال التشغيلي غير المضمون لرواد الأعمال، والنتيجة الطبيعية لذلك انخفاض كبير في تكلفة رأس المال للقروض مقارنة بالمعدلات الباهظة في سوق الإقراض غير الرسمي.

ملء فراغ السوق: في الأنظمة الاقتصادية النامية ينشأ الفراغ في السوق بسبب ضعف البنية التحتية المادية وسلسلة التوريد وفرص الوصول إلى الأسواق. وهذا يزيد العقبات التي يواجهها رواد الأعمال غير الرسميين من حيث إمكانية الاكتشاف والظهور وإنشاء السوق، وهو فراغ السوق الذي يمكن أن تملأه منصات التجارة الرقمية. على سبيل المثال، توفر الشبكة المفتوحة للتجارة الرقمية (ONDC) القائمة على منصة إنديا ستاك لكل بائع واجهة متجر رقمية تتيح له إمكانية الظهور والاكتشاف في جميع أنحاء البلاد، ما يتيح للعملاء التواصل مع بائعين في جميع أنحاء البلاد. على الرغم من أن الشبكة ما زالت في مراحلها الأولى، فهي تعمل على تمكين رواد الأعمال غير الرسميين بطرق مهمة. على سبيل المثال، شهدت خدمة ناما ياتري (Namma Yatri)، وهي خدمة مدعومة من الشبكة لحجز عربات التوك توك في مدينة بنغالور، إنجاز قرابة 5 ملايين رحلة في غضون 6 أشهر من إطلاقها.

نهج تصاعدي

تمهد البنية التحتية العامة الرقمية الطريق لنهج تصاعدي (من القاعدة إلى القمة) للتنمية الاقتصادية في الأنظمة الاقتصادية النامية، وهو بديل قوي لنهج الاقتصاد التنازلي (من القمة إلى القاعدة) الذي حقق نجاحاً محدوداً في هذه الأنظمة. تخفق المناهج التنازلية في تمكين رواد الأعمال غير الرسميين الذين يقعون غالباً خارج نطاق السياسات الوطنية، حتى وإن كانوا يشكلون أغلبية السكان. في المقابل، تقدم البنية التحتية العامة الرقمية التي تتبع نموذج إنديا ستاك بديلاً جذاباً للأنظمة الاقتصادية النامية على وجه التحديد.

لا يتعارض هذا النموذج مع المصالح السياسية، بل يمكن أن يكون مفيداً لها من خلال تحقيق زيادة في الدخل عبر توسيع القاعدة الضريبية بإضفاء الطابع الرسمي على القطاع غير الرسمي. تقدم البنية التحتية العامة الرقمية نهجاً أبسط وأكثر انفتاحاً وقابلية للتشغيل البيني، فهي تقلل من التكاليف التي يتحملها العاملون في القطاع غير الرسمي للانتقال إلى الاقتصاد الرسمي مع زيادة الفوائد التي تعود عليهم من ذلك، كما تؤدي إلى زيادة ثقة المواطنين العامة في النظام الرسمي، ما يدفعهم إلى الاقتناع بأنهم أفضل حالاً في ظله. على الحكومات ألا تكتفي ببناء هذه البنية التحتية الرقمية فحسب، بل عليها الاستمرار في العثور على طرق لمنع سيطرة المصالح الخاصة عليها إلى جانب العثور على المزيد من حالات الاستخدام لتوسيع نطاقها إلى ما هو أبعد من الخدمات المالية لتصل إلى الصحة والتعليم والزراعة والنقل والتجارة الإلكترونية. وذلك من شأنه أن يحقق نمواً شاملاً ومستداماً لأكثر من نصف سكان العالم.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.