يعجز الاقتصاد الرقمي عن تحقيق الأهداف المرجوة منه، إذ كان تحقيق قيم الديمقراطية والحرية والازدهار هو الوعد الأساسي الذي حمله ظهور الإنترنت.
يمكن لشبكة الويب العالمية أن تمكن الناس من التعاون لبناء العالم الذي يريدونه، وتحقيق مكاسب شاملة، فيجد كل شخص مكاناً له في اقتصاد الإنترنت الجديد، ويحظى أولئك الذين واجهوا حواجز في الحياة الواقعية على أساس النوع أو اللون أو العِرق أو الكفاءة بفرص جديدة، فمن شأن التكنولوجيا الرقمية أن تمكّن الناس من تجاوز الحدود الجغرافية التي قيدت قدرتهم على عيش الحياة التي يريدونها، من خلال إكسابهم المزيد من القوة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لكن الواقع بعيد كل البعد عن هذه الرؤية، فبدلاً من شبكة عالمية تتساوى فيها فرص الجميع، نعيش في اقتصاد رقمي يأخذ الرابح فيه كل شيء، وتتزايد مكاسب الرابحين ويتفاقم عجز الخاسرين مع مرور الوقت. لقد فشل تحقيق تكافؤ الفرص، كما وعد مؤسسو التكنولوجيا والمستثمرون على حد سواء، ما يكشف عن الصعوبات المتزايدة التي يواجهها العاملون الذين تعرضوا للتهميش باستمرار.
والواقع أن الوعود بالحراك الاقتصادي، وتوافر فرص العمل والمرونة التي كانت تمثل جزءاً من التصورات الرقمية لمستقبل العمل والأمان، باتت جوفاء. أدّت الزعزعة في عالم العمل إلى عدم الاستقرار الاقتصادي وتجاوز الشركات حدودها، وصارت فكرة عمل الموظفين لساعات لا نهاية لها، مقبولة.
كما أدى العمل على المنصات الإلكترونية إلى تعاظم الفروق الاجتماعية في جميع أنحاء العالم، وتهميش النساء العاملات، وبخاصة في الدول النامية، وتحويلهن إلى فئات العمالة الأدنى مرتبة، ومن ثم فإن الاقتصاد الرقمي لم يخفق في تحقيق النتائج المرجوة فحسب، بل استغل التسلسل الهرمي القائم على العرق والإثنية والنوع الاجتماعي في هذا الشأن.
كيف تتطور التكنولوجيا بسرعة وتؤدي إلى تدهور العاملين؟
في عام 2021، أجرت مؤسسة آي تي فور تشينج (IT for Change) بدعم من مؤسسة فورد فاونديشن (Ford Foundation)، دراسة مهمة حول رقمنة الاقتصاد لمحاولة فهم تأثير الإنترنت في العمل وحقوق العاملين. تحدثنا مع أكثر من 80 شخصاً يمثلون العاملين والعلماء والنقابات والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمؤسسات الخيرية والهيئات المتعددة الأطراف. عبر تلك المقابلات، سمعنا مراراً وتكراراً مجموعة من المشكلات المتشابكة، فالمكاسب من إعادة هيكلة سلسلة القيمة العالمية جلبت فوائد قليلة للعاملين في حين تراجعت حقوقهم التي اكتسبوها منذ أجيال وحرموا الاستقرار وباتوا مشتتين؛ أما الشركات فقد جمعت ثروات هائلة وازداد نفوذها على نحو غير مسبوق.
وقد تسارعت هذه التحولات في العديد من النواحي، وظهر "العمل المستقل" القائم على المنصات الإلكترونية، الذي وعد العاملين بأن يصبحوا مدراء أنفسهم، وأن يعملوا وفق جداول عمل يمكنهم تخصيصها كيفما شاؤوا.
أثبت اقتصاد الأعمال المستقلة أنه أداة لتحويل وظائف الطبقة العاملة التي كانت مستقرة ذات يوم، ووظائف الطبقة المتوسطة على نحو متزايد أيضاً، إلى وظائف غير آمنة، وأعمال مستقلة عند الطلب، مع عدم تمتعهم بحماية كافية وتضاؤل مكافآتهم باستمرار.
يكافح من يُطلق عليهم "المتعاقدون المستقلون" لتدبر أمورهم في جميع أنحاء العالم، وهم الذين أسهم عملهم في تشكيل شركات اليونيكورن مثل أوبر وإنستاكارت (Instacart). في الولايات المتحدة، يتقاضى واحد من كل سبعة من العاملين على المنصات الإلكترونية أقل من الحد الأدنى للأجور، ويكسب واحد من كل خمسة أقل مما يكفي لشراء قوته؛ والظروف في الدول النامية أسوأ بكثير.
الإدارة الخوارزمية، هي منصة ابتكارية استبدادية أخرى قدمتها الشركات إلى عالم العمل، تظهر الآن في كل مكان، بدءاً من التوظيف والجدولة والمطابقة وحتى تقييم الأداء وإنهاء الخدمة. أدى نقل الإدارة من المدراء البشريين إلى الذكاء الاصطناعي إلى العديد من المشكلات، ما ترك العاملين تحت رحمة الأنظمة الرقمية التي تخلق جداول عمل لا يمكن التنبؤ بها، ومتطلبات إنتاجية متزايدة غير إنسانية، وقرارات عقاب وفصل غير مسؤولة لا توفر تفسيراً أو مسارات للاستئناف والتعويض.
وتنتشر هذه التطورات الآن فيما هو أبعد بكثير من ممارسات شركات التكنولوجيا الكبرى في الاقتصاد، إذ يتعين على العاملين في المستودعات والمستشفيات وتجارة التجزئة والوظائف المكتبية وغيرها من القطاعات الآن التعامل مع القرارات الإدارية المؤتمتة المبهمة ذاتها التي يواجهها العاملون المستقلون. يخضع العاملون أيضاً للمراقبة على نحو متزايد وبأساليب متنوعة ومزعجة.
بعيداً عن الكاميرات الأمنية في أماكن العمل التي بات وجودها طبيعياً، تجري الآن مراقبة العاملين رقمياً داخل العمل وخارجه، وغالباً دون موافقتهم ودون قدرتهم على منع الشركات وسماسرة البيانات من الطرف الثالث من استخدام بياناتهم الشخصية والمتاجرة بها، بدءاً من البرامج التي تثبت على كمبيوترات العاملين عن بُعد لتسجيل كل ما يكتبونه على لوحة المفاتيح وتزويدهم بشرائح إلكترونية دقيقة، إلى مطالبتهم بتثبيت تطبيقات الشركة على هواتفهم الشخصية التي تصل إلى كاميراتهم وبياناتهم الخاصة، ويعزز الانتقال إلى بيئات العمل ذات الرقابة المشددة هذه، استخدام برامج الإنتاجية المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي تتتبع العاملين في كل مكان حتى في الأماكن الخاصة، ونتيجة لذلك، يفقد الموظفون تدريجياً حقوقهم الأساسية في في الخصوصية الشخصية والرقمية.
ومن ناحية أخرى، يلوح في الأفق شبح استمرار الأتمتة باعتبارها تهديداً مستمراً يؤدي إلى زعزعة حياة العاملين واستقرارهم في جميع أنحاء العالم، إذ إن قطاعات بحالها في سوق العمل قد تندثر. تمثل هذه القضايا وغيرها مشكلة رئيسية، وهي أن التكنولوجيا التي يقوم عليها الاقتصاد الرقمي اليوم صممتها الشركات من أجل مصالحها، وليس لمصلحة الجهات الأخرى ذات الصلة، وبالتأكيد ليس لمصلحة العاملين، فقد أعطت ثقافة التكنولوجيا والخطاب المصاحب لها الأولوية للسرديات المتعلقة بالزعزعة والابتكار والكفاءة، دون إيلاء الاهتمام الكافي لقضايا العدالة والمساواة والشمولية. تعمل شركات التكنولوجيا العملاقة بوصفها جهات جيو اقتصادية فاعلة على تعزيز أنماط جديدة من الاستعمار الرقمي، سواء في البلدان الغنية حيث يُصنف السكان إلى فئات من الأغنياء والفقراء، أو في العالم عموماً، حيث تُكرر دول الشمال الغنية العلاقات الاستغلالية في مناطق جغرافية أخرى.
نحو نظام ابتكار رقمي مسؤول أكثر
وكما تتعرض بلدان الجنوب منذ فترة طويلة لنهب العمالة والموارد الطبيعية الثمينة، ينهب الاقتصاد الرقمي بيانات مواطنيها اليوم. نشهد تأسيس عصر جديد من المصانع الرقمية التي تستغل العاملين، إذ تُنقل الأعمال الأخطر إلى الخارج لينفذها عاملون يتمتعون بأقل قدر من الحماية فيوكل إلى مصادر خارجية في دول نامية تنفيذ المهام القذرة الجديدة في الاقتصاد الرقمي، مثلاً يبحث مشرفو المحتوى ومصنفو البيانات في كينيا والفلبين عن المواد الخطرة (المتطرفة والمصورة) في وسائل التواصل الاجتماعي لحماية الجمهور منها.
يميل قطاع التكنولوجيا إلى تقديم نفسه على أنه يترأس ثورة صناعية جديدة من شأنها أن تغير العالم إلى الأبد، وتحمل تلك الفكرة من الدقة أكثر مما نظن، فكما أوضح لنا الأستاذ أونوهو أومهن إبهوهيمهين من مؤتمر العمال النيجيري (Nigeria Labour Congress)، مشيراً إلى تأثيرات الاقتصاد الرقمي مثل الإدارة الخوارزمية للعاملين: "إنها تشبه إعادة إنتاج الثورة الصناعية الأولى، حيث قُيّد العمال وسُجنوا، وعملوا 20 ساعة أو أكثر في اليوم، ولم يكن لهم الحق في الحياة الأسرية". لكن هذه الحال ليست حتمية، إذ يمكن للابتكار الرقمي أن يزعزع الاقتصادات لصالح صيغ العمل المشترك والتضامني اللائق وذي الجودة، بحيث يزدهر الجميع.
كيف يمكننا إذاً إضفاء الطابع الديمقراطي على الاقتصاد الرقمي ليكون للعاملين تأثير ويتمكنون من مشاركة خبراء التكنولوجيا وأصحاب رأس المال المغامر في وادي السيليكون في رسم المستقبل؟ فيما يلي 3 طرائق لبناء مستقبل العمل المرغوب في العصر الرقمي:
1. بناء معايير جديدة للعمل اللائق في العصر الرقمي: ينبغي لنا أن نعمل معاً على وضع معايير جديدة مضمونة للعمل اللائق في هذا الاقتصاد ودعم تطويرها، ومنها التوصل إلى فهم جديد لحقوق العاملين المتعلقة ببياناتهم وخصوصيتهم الرقمية؛ وإنهاء إدارة الخوارزميات الغامضة وغير المسؤولة وأنواع المراقبة المسيئة في العمل؛ ووضع أطُر جديدة لحوكمة دور الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات الناشئة في أماكن العمل. ينبغي للعاملين صياغة الظروف والنماذج الاقتصادية الناشئة التي تنظّم بنية حياتهم العملية. كما ينبغي للشركات أن تأخذ في الحسبان عواقب هذه التكنولوجيا عند شرائها وتوظيفها وحوكمتها بالشراكة مع القوى العاملة لديها. ويتعين على الحكومات في مختلف أنحاء العالم أن تضع الضوابط وأن تعمل على بناء مستقبل اقتصادي بديل يركّز على حقوق العاملين والاقتصادات المحلية المستدامة. يمكن أن تساعد المؤسسات الخيرية وقطاع التنمية على تعزيز مبادرات وشراكات يقودها العاملون بين المنظمات العمالية وشركات التكنولوجيا، بحيث تتمكن هذه المراكز المشتركة بين القطاعات من تطوير حلول جديدة، مثل المنصات المملوكة للعاملين وصناديق بيانات العاملين ومشاريع البنية التحتية التكنولوجية. كما يمكن للأكاديميين المساعدة على تلبية الحاجة الواسعة إلى البحث في مجالات متعددة، مثل دور التكنولوجيات الناشئة ومنها الذكاء الاصطناعي، في تغيير اقتصادات الدول النامية ونماذج العمل المزدهرة.
2. بناء اقتصاد رقمي مناصر للمرأة: يتعين علينا أن نستثمر في بناء اقتصاد رقمي مناصر للمرأة، بحيث تكون الخدمة والدعم المجتمعي وشبكة الأمان الاجتماعي من الأولويات. تحتاج النساء وغيرهن من العاملين المهمشين عادةً إلى التمكين للعمل في المنصات الإلكترونية، وذلك من خلال برامج التدريب والتوعية بالإضافة إلى إنشاء مساحات مخصصة يمكنهم التعبير فيها عن مخاوفهم وإجراء تحولات واسعة في السياسات التي تُلزم شركات المنصات البدء بالاهتمام بحقوق موظفيها. وثمة حاجة أيضاً إلى نماذج تعاونية جديدة لخدمات الرعاية، مثل الجمعيات التعاونية، والنقابات، والتجمعات المهنية، والمجموعات المجتمعية وغيرها، وإلى توفير فرص عادلة لتحسين المهارات والتدريب للعاملين المهمشين الأكثر عرضة لخطر فقدان وظائفهم بسبب الأتمتة.
3. بناء تكنولوجيا أفضل عبر الإصغاء إلى العاملين: تعلمنا من خلال حديثنا مع العشرات من أصحاب المصالح في الاقتصاد الرقمي درساً مهماً، وهو ضرورة الإصغاء إلى العاملين، لأنهم يفهمون المشكلات ويمتلكون الرؤية الأوضح للحلول. فالأكثر تأثراً بإخفاقات الاقتصاد الرقمي حتى الآن، الذين عانوا أسوأ المشكلات المرتبطة به، هم من أهم الأسس لإنشاء مستقبل العمل الذي نسعى إليه، وينبغي لنا الاستثمار في التجريب والابتكار من خلال العاملين ومعهم ومن أجلهم للوصول إلى هذا المستقبل، ما يعني التركيز على الذين عانوا مرارة التهميش، والسماح لهم بصياغة التدخلات التي نحتاج إليها وتصميمها، ويعني أيضاً التحلي بالصبر، فكما قالت لنا سالوني موراليدهارا من اتحاد النقابات النسائية الهندية (SEWA): "على الجهات المانحة أن تفهم أن تحقيق عائد من الاستثمار في النساء العاملات في الدول النامية على سبيل المثال، يستغرق وقتاً أطول، لا سيما أنهن تعرضن إلى التهميش على نحو منهجي فترة طويلة".
في النهاية، يمكننا بناء تكنولوجيا أفضل من خلال التصميم الذي يركّز على العاملين، ويمكن لقطاعي التنمية والعمل الخيري أن يؤديا دوراً رئيسياً من خلال الاستثمارات التحفيزية في هذه الأجندة الجديدة التي تحمي حقوق العاملين وتخلق اقتصاداً رقمياً يعمل لصالح الجميع محلياً وعالمياً. إلا أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إذا لم يعمل القطاعان التنموي والخيري يداً بيد. لتعزيز اقتصاد رقمي يتميز بالديمقراطية ومناصرة المرأة، ينبغي لقطاع التكنولوجيا والمستثمرين الإسهام على نحو رئيسي، ليس عبر الهِبات أو الأعمال الخيرية، بل عبر ضمان وصول إسهامات الابتكار وعملياته وعوائده المبنية على الاستثمار العام والعمالة البشرية إلى المجتمعات المحلية والعالمية التي تشكل العمود الفقري لخلق القيمة. لنصل إلى مستقبل العمل المرغوب في العصر الرقمي، علينا أن نعقد العزم على البناء والاستثمار.
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.