كيف نتجنب الأثر السلبي للذكاء الاصطناعي في مستقبل العمل؟

تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي
shutterstock.com/Chay_Tee
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، تصدرت شركة أوبن أيه آي (OpenAI) عناوين الأخبار من خلال إصدار تشات جي بي تي (ChatGPT)، وأصبح مصطلح “الذكاء الاصطناعي التوليدي” مستخدماً في المنازل حول العالم. يقول الرئيس التنفيذي لشركة أوبن أيه آي، سام ألتمان: “إن كثيراً ممن يعملون في هذا المجال يدعون أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لن تقدم سوى نتائج إيجابية وأنها ستكون مجرد مكمِّل في العمل ولن تؤدي مطلقاً إلى استبدال أي موظف”، لكنه يضيف: “الوظائف ستزول حتماً، انتهى”، وفي هذا السياق كان اتحاد الممثلين، “ساغ آفترا” (SAG-AFTRA) ونقابة الكتاب الأميركيين نفّذا هذا العام إضرابين كبيرين ساعدا في تركيز الانتباه على التهديد الذي يفرضه الذكاء الاصطناعي على الوظائف ذات الأجور المجزية.

تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي

من المتوقع أن يغيّر الذكاء الاصطناعي العمل في جميع أنحاء العالم تغييراً جذرياً، وما زلنا لا نعرف إذا كان هذا التغيير سيفاقم حالة عدم المساواة أو يحد منها. تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي جديدة نسبياً، ولكن يمكننا معرفة ما سوف تؤدي إليه بالنظر إلى تأثيرات الابتكارات السابقة العالية التأثير، مثل المغزل الآلي والمحركات البخارية والكهرباء وأجهزة الكمبيوتر الرقمية. تتوقف عواقب أي تكنولوجيا على من سيكون مخولاً باتخاذ القرارات المحورية المتعلقة بتطورها، وينطبق هذا تماماً على الذكاء الاصطناعي، إذ يمكن تطوير هذه الأدوات الجديدة لتُستخدم في أنواع مختلفة من الأنشطة مع إمكانية انتشارها بسرعة في كل قطاع من القطاعات الاقتصادية وفي كل جانب من جوانب الحياة.

يرى الكثير من المحللين أنه لا مفر من انتشار التكنولوجيا، لكن التاريخ يشهد أن تطورها مرهون برؤى أصحاب السلطة وقراراتهم، وكما أشرنا في كتاب “السُلطة والتقدم: 1,000 عام من الكفاح من أجل التكنولوجيا والازدهار” (Power and Progress: Our 1,000-Year Struggle over Technology and Prosperity)، عندما تترك مسألة اتخاذ القرارات بِرمتها لنخبة صغيرة، فمن المتوقع أن تحصل هذه المجموعة على معظم المنافع، في حين يتحمل الآخرون التكلفة ولمدة طويلة ربما.

يهدد التقدم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي بإلغاء العديد من الوظائف، وليس فقط وظائف الكتّاب والممثلين، إذ من المرجح أن تختفي الوظائف التي تُعنى بالإجراءات الروتينية، مثل وظائف الامتثال للقوانين أو الأعمال المكتبية، وتلك التي تتضمن جمع البيانات وتلخيصها ومهام الكتابة.

على الرغم مما سبق، ثمة مساران مختلفان يمكن لثورة الذكاء الاصطناعي أن تسلكهما، الأول هو مسار الأتمتة استناداً إلى فكرة أن دور الذكاء الاصطناعي يتمثل في أداء المهام بكفاءة تضاهي كفاءة البشر أو تفوقها، وتهيمن هذه الرؤية حالياً على قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة، إذ تعمل شركتا مايكروسوفت وجوجل بجد لإنشاء تطبيقات جديدة للذكاء الاصطناعي يمكنها تولي أكبر عدد ممكن من المهام البشرية.

الأثر السلبي في حياة الموظفين

بالنظر إلى التكنولوجيات والأدوات الروبوتية السابقة، يمكننا معرفة الأثر السلبي المحتمل في حياة العاملين إذا لجأنا إلى الأتمتة بالكامل، إذ كانت أنماط الأتمتة السابقة هذه هي التي أسهمت في التضخم وانخفاض التوظيف في قطاع التصنيع الأميركي وزيادة عدم المساواة على مدار العقود الأربعة الماضية. وإذا ازدادت الأتمتة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي فمن المحتمل أن يتكرر الأمر وأن تنشأ فجوة بين رأس المال والقوى العاملة، وتتفاقم حالة عدم المساواة بين أصحاب التخصصات المهنية وباقي العاملين، وينخفض عدد الوظائف ذات الأجور المجزية في الاقتصاد.

أما المسار الثاني فمختلف تماماً ولكن يمكن تطبيقه على الرغم من ذلك، وهو يتمحور حول تعزيز قدرات البشر وتكليفهم بمهام جديدة بدلاً من تهميشهم. هذا النهج ليس بجديد أيضاً، إذ كانت زيادة القدرات البشرية، من خلال خلق مهام جديدة وزيادة معرفة العاملين وتوفير أدوات أفضل لهم، هي الأساس لنمو الأجور وتحقُّق الرخاء العام خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.

من حيث المبدأ، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعزز التغيير التكنولوجي المكمل للإنسان وأن يتيح تطوير مجموعة واسعة من الأدوات التي توفر معلومات أفضل لصناع القرار. والأهم من ذلك، ينبغي ألا يقتصر على المهنيين والعاملين في المكاتب، فحالياً يعتمد قسم كبير من القوى العاملة مثل عمال المصانع والكهربائيين والسباكين والمعلمين ومقدمي الرعاية الصحية، على حل المشكلات واتخاذ القرارات المباشرة، ويمكن لتوفر معلومات محددة وفق السياق المطروح أن يؤدي إلى تعزيز إنتاجيتهم في المهام الموكلة إليهم، بل أيضاً التحلي بالجرأة للعمل على مهام جديدة أعقد.

التغييرات الكبيرة التي سيحدثها الذكاء الاصطناعي

ولكن المؤسف هو أننا في الوقت الحالي لا ننهج هذا النهج الذي يبشر بمستقبل أفضل، ولنتمكن من ذلك، نحن بحاجة إلى إجراء 3 تغييرات اجتماعية كبيرة يمثل كل منها في حد ذاته مهمة صعبة.

أولاً، على الإدارة أن تنظر إلى العاملين بوصفهم مورداً رئيسياً، فتعمل على زيادة إنتاجيتهم وتحسين معارفهم وتجعل تدريبهم أولوية، لكن المنظور السائد بين أغلب أصحاب المناصب التنفيذية العليا هو أن القوى العاملة تمثل تكلفة ينبغي خفضها، إما لمقاومة المنافسة أو لزيادة ريع المساهمين. في خضم الحماس لإعادة تصميم الشركة من خلال خفض عدد العاملين ينسى المعنيون مسألة مهمة وهي ازدهارها على المدى الطويل، فالأتمتة ذات الجودة المنخفضة ونقل الأعمال إلى الخارج لا يؤديان إلى تحقيق الإنتاجية المطلوبة، ويتعين على الشركات أن تدرك أن العمالة تمثل في الواقع مورداً بالغ الأهمية لنمو الإنتاجية.

ثانياً، على قطاع التكنولوجيا إعطاء الأولوية لمساعدة العاملين، بدلاً من التركيز على أدوات الأتمتة والمراقبة، فلمدة طويلة سعى القطاع بطريقة تنقصها الحكمة من أجل الوصول إلى الذكاء العام الاصطناعي والذكاء الآلي المستقل، وصبَّ العديد من خبراء التكنولوجيا تركيزهم على إظهار كيف يمكن لخوارزمياتهم أن تضاهي عقول البشر، ما يعني من الناحية العملية أتمتة أكبر عدد ممكن من المهام.

ثالثاً، يجب أن يكون للعاملين رأي في كيفية استخدام التكنولوجيات، ولذلك أهمية بالغة ليس فقط لمقاومة التركيز المفرط على الأتمتة وخفض تكاليف العمالة، بل لأن العاملين أدرى بجوانب عملهم التي سيكون استخدام الأتمتة فيها مفيداً، فهم يعرفون المهام التي يمكن أداؤها بكفاءة أعلى، ما يتيح لهم قضاء الوقت في أنشطة أكثر إنتاجية، أو حتى خلق فرص جديدة لزيادة الإنتاجية. إذا كسبت الشركات رضا العاملين بهذه الطريقة فستحد من الأسباب التي تدفعها إلى تكثيف الرقابة عليهم، كما أن ذلك يضمن تقاسم أي مكاسب إنتاجية بين رأس المال والقوى العاملة بطريقة منصفة أكثر.

هذه التغييرات الاجتماعية الثلاثة ممكنة، لكن من الصعب تحقيقها دون جهد منسق.

على مدار العقود الأربعة الماضية، لم تواجه “ثورة القيمة السهمية” التي تتمحور حول خفض التكاليف وتعزيز مصالح المساهمين على حساب العاملين رفضاً كالذي تواجهه اليوم، وقد تظهر بعد ذلك فلسفة جديدة تعطي الأولوية لنمو الإنتاجية على المدى الطويل، وهو ما يمكن للإدارة والعاملين العمل معاً لتحقيقه.

يمكن لقطاع التكنولوجيا، وهو القطاع الأقوى في الولايات المتحدة والعالم، أن يتغير بدوره ويصلح عيباً لطالما شابه تجاهُل المسؤوليات الاجتماعية كافة والانشغال الشديد بإظهار فضائل الزعزعة. وفي مرحلته التالية التي تتسم بنضج أكبر، يمكن للقطاع أن يركز على توفير أدوات أفضل للعاملين وتعزيز القدرات البشرية، بدلاً من استبدالها بالجملة.

ومن الممكن أن يزداد تنظيم العمل ويركز أكثر على رسم مسار جديد للمشاركة في عملية الإنتاج خلال عصر الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي من شأنه أن يعزز الإنتاجية أيضاً. في الواقع ازداد الميل إلى مناصرة النقابات مقارنة بما شهدناه
منذ عقود، وقدّم إضراب نقابة الكتاب الأميركيين مثالاً على تحول التركيز على التكنولوجيا (من يتحكم بها وكيف ستُستخدم) إلى مسألة رئيسية عند التفاوض على العقود في القطاعات الأخرى.

ومع ذلك، فمن الأهمية بمكان أن تُوجَّه الطاقة الجديدة الناتجة من تنظيم العمالة في الطريق الصحيح، إذ لا يمكن للعاملين أن يأملوا المطالبةَ بأجور مرتفعة والحصول عليها ما لم تدعمهم التكنولوجيا أكثر، ومنطقياً، من غير المتوقع أن تتمكن الحركة النقابية من معارضة التكنولوجيات الجديدة ومنها الذكاء الاصطناعي. بدلاً من ذلك، يتعين على القادة وعامة الموظفين على حد سواء فهم إمكانات هذه الأدوات، وصياغة رؤية لكيفية استخدامها بطريقة تساعد القوى العاملة والشركات، ويمثل كل من تعزيز إنتاجية العاملين في مهام صنع القرار وحل المشكلات حجر الأساس في هذا النهج.

لا يمكن لأي مما ذكر أن يحدث من تلقاء نفسه، ويتطلب أي تغيير هادف الاعتراف بالمشكلة أولاً، وهي أن التكنولوجيا تسلك اتجاهاً مناهضاً للعمالة، وعلى الذين يشجعون التغيير أيضاً أن يدركوا أن توجيه التغيير التكنولوجي نحو تعزيز مصالح العاملين مجدٍ ومرغوب.

لن يلتزم قطاع التكنولوجيا ولا الشركات الكبرى الأخرى بإجراء تصحيح جذري للمسار دون ضغوط قوية من الجهات الأخرى في المجتمع، فبالإضافة إلى الأصوات العمالية القوية، كان للمؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني في السابق دور حاسم في دفع الشركات نحو الاتجاه الصحيح، ويكتسب هذا الدور أهمية أكبر اليوم إذ نحتاج إلى تغيير توجيه تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بصورة جذرية.

على الحكومة أن تتبنى مجموعة من السياسات التكميلية التي تشجع على اتباع سبل أفضل لاستخدام التكنولوجيا وتطويرها، كما ذكرنا بالتفصيل في مذكرة سياسة حديثة بعنوان “هل يمكن أن يكون لدينا ذكاء اصطناعي مؤيد للعاملين؟” شارك في كتابتها زميلنا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ديفيد أوتور، من خلال مبادرة المعهد الجديدة: “رسم مستقبل العمل” (Shaping the Future of Work)، التي نديرها على نحو جماعي.

على المشرّعين مراجعة قانون الضرائب الفيدرالي لتحقيق المساواة في العبء الضريبي على العمالة والآلات، ومن ثم تشجيع الشركات على توظيف العاملين وتدريبهم والاحتفاظ بهم. كما ينبغي للهيئات التنظيمية أيضاً التوصل إلى طرق لإشراك العاملين وإعلاء صوتهم في تحديد طرق استخدام الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الأخرى في مكان العمل، ومن هذه الطرق تنظيم إدارة شؤون الموظفين بمساعدة الذكاء الاصطناعي ووضع ضمانات حول مراقبة مكان العمل.

ينبغي للقطاع العام أن يستثمر في البحوث التي تعطي الأولوية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المكملة للإنسان وإنشاء مركز استشاري متخصص في مجال الذكاء الاصطناعي تابع للحكومة الفيدرالية لدعم المشرعين والمسؤولين الذين يحتاجون إلى فهم هذه التكنولوجيا، وعلينا أن نستعين بخبرات هذا المركز للتحقق من أن تقنيات الذكاء الاصطناعي ترقى إلى مستوى وعدها بتعزيز العمل البشري قبل طرحها في أي برنامج يموّله القطاع العام، مثل التعليم أو الرعاية الصحية.

هناك الكثير مما يدعو للقلق بشأن بالذكاء الاصطناعي، لكن تجنب عواقبه الكارثية مرهون بفهم كيفية تطوير هذه التكنولوجيا واستخدامها لدعم العاملين بدلاً من مجرد استبدالهم، وإدراك هذه الضرورة هو الخطوة الأولى نحو النموذج السليم لثورة الذكاء الاصطناعي.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.