تتطلع الحكومات في جميع أنحاء العالم نحو اقتصادات ذات مهارات وقيمة عالية؛ إلا أن استمرارها في الاعتماد على عوامل الإنتاج التقليدية وحدها لن يسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية، فأدركت ضرورة استثمار جهودها في خلق قوى عاملة جيدة التعليم.
وعليه، بدأ مفهوم الاقتصاد يتغير خلال الألفية الثالثة وتحول السوق نحو الاعتماد على المعرفة، ما يتطلب اعتماداً أكبر على رأس المال الفكري بدلاً من المدخلات المادية، وتركزت الجهود حول تطوير اقتصاد معرفي ومستدام قائم على الابتكار واستثمار الأفكار والوعي بالتكنولوجيا وكيفية التعامل معها، وأصبحت الأصول المهمة في هذا الاقتصاد المعاصر هي المعرفة الفنية، والإبداع، والتعليم، بالإضافة إلى الذكاء الاصطناعي.
شهدت الأعوام الأخيرة ظهور نماذج عربية لتطوير النظام التعليمي بما يلائم التغير الاقتصادي القائم على المعرفة، ومنها تفعيل الأردن مشروع تطوير التعليم نحو اقتصاد المعرفة (Education Reform for knowledge Economy. ERfKE) للفترة بين عامي 2013 و2015 لإكساب الطلبة في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي مهارات ابتكارية عالية لتمكينهم من المشاركة في اقتصاد المعرفة، كما تبنّت السعودية خطة التنمية التاسعة (2010 - 2014) لتوجيه التعليم الجامعي نحو اقتصاد المعرفة.
ووفّرت العولمة شبكات لتدفق المعلومات وسهّلت تواصل العالم ببعضه البعض، فتحوّل مركز اهتمام المؤسسات من مجرد التطوير المباشر للمنتجات إلى الاهتمام بالتعليم والابتكار وإثراء المعرفة، وبالتالي تغيير المنظومة التعليمية والتشجيع على الابتكار ما يعزز بناء اقتصادات المعرفة؛ التي باتت أمراً ضرورياً لضمان نمو قوي وطويل الأجل للدول النامية والاستعداد للتحديات المستقبلية، ومن هذا المنطلق عملت الباحثة المصرية رحاب محمود عبد العظيم على دراسة بعنوان: أثر تعليم الابتكار على اقتصاد المعرفة استهدفت من خلالها البحث في كيفية مساهمة التعليم في بناء اقتصاد المعرفة بالتركيز على تنمية القدرات الابتكارية والإبداعية للطالب في جميع المراحل الدراسية.
أهمية تحسين التعليم والمهارات في إنشاء اقتصاد المعرفة
تُعد الكفاءات البشرية عنصراً أساسياً في الاقتصاد القائم على المعرفة، ويجب التركيز عليه لتطويره وتنميته ليحقق المستوى المطلوب، إذ وجدت دراسة بريطانية بعنوان: التعليم والعولمة ومستقبل اقتصاد المعرفة (Education, Globalisation and the Future of the Knowledge Economy) أن قضايا المهارات والموارد البشرية أصبحت أكثر أهمية للميزة التنافسية للشركات.
على الرغم من أن التعليم والابتكار حجر أساس لاقتصاد المعرفة؛ إلا أن سلبيات التعليم التقليدي القائم على الحفظ والتلقين يخلق فجوة بين التعليم الجامعي وسوق العمل، ما يستنزف الوقت والطاقة ويشتت الطالب بسبب اعتماد نظام قديم لا يلائم الحاضر ومتطلبات المستقبل. وفي دراسة أجراها باحثا علم الاجتماع ريتشارد أروم (Richard Arum) وجوسيبا روكسا (Josipa Roksa) عام 2011 وعُرضت نتائجها في كتاب بعنوان: التعلم المحدود في حرم الجامعة ( Limited Learning on College Campuses)؛ تبيّن أنه بعد عامين من الدراسة في الجامعة، لم تشهد المهارات المعرفية لـ45% من الطلاب أي تحسن ملحوظ، ولم تتطور قدرة 36% من الطلاب على تحليل المشكلات بعد مرور أربعة أعوام من الدراسة الجامعية.
تعاني المنظومة التعليمية أيضاً من غياب النشاطات الابتكارية ما يسبب تراجع اقتصاد دول دون أخرى، وكذلك ضعف العلاقة بين مؤسسات البحث والتطوير وقطاعات التعليم، وفي هذا الإطار أكدت دراسة سويدية بعنوان: اقتصاد المعرفة والابتكار والتحديات الجديدة للجامعات: مقدمة في المشكلة الاستثنائية (The knowledge economy, innovation and the new challenges to universities: introduction to the special issue) أهمية إجراء تحليل شامل للعلاقات المتبادلة بين الجامعات وأصحاب المصلحة الخارجيين، والتركيز على الاستفادة من كفاءة الأبحاث الجامعية في جهود الشركات وصانعي السياسات فيما يتعلق بالابتكار.
وعليه، يجب التركيز على تطوير المهارات الابتكارية للطلاب وتشجيع التعلم القائم على التفكير التحليلي وحل المشكلات، والاستخدام الفعّال للتكنولوجيا في عرض المعرفة والتفاعل مع الطلاب، وتطوير توزيع البناء الداخلي للمدارس والجامعات، فكيف يمكن تحقيق ذلك؟
أفكار مقترحة لتطوير النظام التعليمي
يلزم إعداد طلاب فاعلين في عالم اقتصاد المعرفة رؤية تربوية معاصرة تتوافق مع المستجدات والتطورات العلمية، والتخطيط الاستراتيجي لتطوير التعليم في مراحله الأساسية والجامعية وتوجيهه نحو الابتكار لإنتاج المعرفة ونشرها وتوظيفها والمشاركة فيها واستخدامها؛ بهدف تحسين مناحي الحياة بالاستفادة من شبكة المعلومات، والتطبيقات التكنولوجية، لذلك، توصلت الدراسة المصرية سالفة الذكر إلى عدة مقترحات وأفكار حول كيفية مساهمة التعليم في بناء مفهوم اقتصاد المعرفة وخصائصه وأدواته ليتركز في ذهن وخبرة الطالب:
1- إدراج مناهج لتعليم الابتكار والتصميم
من الضروري تدريب الطالب على التفكير خارج الصندوق ووضع تصورات وأفكار بديلة للمشروع المطلوب منه، ليدرك أهمية الابتكار وكيف يمكنه أن يكون مبتكراً وصانعاً للتصورات، وهنا يمكن الاستعانة بكتاب مثل التعليم التصميمي: حل المشكلات والخبرة البصرية (Design Education: Problem Solving and Visual Experience) لبيتر جرین (Peter Green) وتدريس طرق الابتكار الممنهجة لخبراء التفكير التصميمي أمثال كريستوفر جونز (Christopher Jones) وتيم براون (Tim Brown) لتنمية القدرات الابتكارية لدى الطلاب وتوسيع آفاقهم وقدراتهم ومهاراتهم.
من جهة أخرى، يحتاج مناخ الأعمال المتغير، إلى نهج تكنولوجي إداري يجمع بين نظريات الإدارة العامة وممارسات إدارة التكنولوجيا لربط مجتمعات الأعمال، وأكدت دراسة أسترالية بعنوان: تعلم إدارة التكنولوجيا والابتكار في اقتصاد المعرفة: نهج إداري تكنولوجي (Technology and innovation management learning in the knowledge economy : A techno-managerial approach) أن هذا النهج أصبح مجالاً مهماً للدراسة في معظم كليات إدارة الأعمال، ويعد استجابة استراتيجية لإدارة تنمية الصناعة التي تحرّكها المعرفة.
2- كيفية عرض الأفكار وتسجيلها وحمايتها
تطوُر الطالب لا يرتبط بقدرته على استخراج الأفكار فقط، وإنما يجب أن يكون قادراً على إظهار فكرته بوضوح، لذا يجب تدريبه باستمرار على المثول أمام الجمهور وإطلاق أفكاره بثقة والاعتماد على الأمثلة التي تعزز أفكاره، وكذلك، يجب أن يدرك الطالب كيفية استثمار أفكاره وتسجيلها وتسويقها وأهمية حقوق الملكية الفكرية.
3- خلق بيئة تدريس مختلفة وجذابة ومتنوعة
يتطلب اقتصاد المعرفة اعتماد وسائل تعليمية متقدمة تجعل الطالب على اتصال تام بواقعه المتجدد، لذا يمكن اعتماد أسلوب هاركنس (Harkness) أو نظام الطاولات المستديرة في الفصل؛ بهدف تحويل قاعة الدرس إلى مكان للتفاعل والحوار بدلاً من النهج التعليمي المعتمد على الإلقاء والتلقين، وتمثل طريقة المدرسة المفتوحة في كوبنهاغن تجربة تعليمية معاصرة تحل فيه التمارين الرياضية بديلاً عن طابور الصباح الرتيب، ويبدأ الطلاب يومهم الدراسي بمباراة كرة المضرب، بعدها يجتمع المعلم مع الطلاب لمدة 5 دقائق لشرح فكرة المشروع الجديد، وتختار كل مجموعة مكاناً لعقد جلسة عصف ذهني وتحديد موعد العرض لزملائهم ومعلميهم.
اعتمدت التجربة الدنماركية أيضاً على نقل المعرفة من خلال دمج التكنولوجيا المحيطة بالطالب في كل مكان في البيئة التعليمية؛ فالنوافذ مصممة لحساب نسبة ثاني أكسيد الكربون بالمكان، وإذا زادت عن الحد المقبول تُفتح النوافذ تلقائياً لتجديد الهواء والحفاظ على التوازن داخل المكان.
ويمكن الابتعاد عن نمط التعليم التقليدي أيضاً من خلال إطلاق مشاريع خدمية تدفع الطالب وتشجعه على التفكير بحلول فعّالة لمعالجة مشكلة في بيئته التعليمية أو تطويرها، على سبيل المثال، يمكن للمدرسة إطلاق مسابقة لأفضل فكرة لتطوير حديقة المدرسة.
4- آلية لمتابعة المعارض والمسابقات الابتكارية
تُقيم الكثير من الجهات والدول العديد من المعارض الدائمة والمؤقتة لعرض الأفكار المبتكرة، مثل مسابقات الابتكارات العلمية التابعة لجامعة الملك فيصل، ومسابقة غيست للتكنولوجيا (GIST Tech-I Pitch Competition)، وبالتالي يجب أن يكون الطالب على اطلاع بهذه الفعاليات للتعرف إلى حجم التطور المتسارع، وإدراك حجم المنافسة والتحديات المستقبلية.
5- التنسيق بين المؤسسات التعليمية والجهات المعنية
للاستفادة من مخرجات التعليم، يجب تفعيل آلية للتعاون بين المؤسسات التعليمية المختلفة بكافة مراحلها ومراكز البحوث والتطوير والشركات لتبادل المنفعة والعرض والطلب، وبالتالي يمكن الربط بين التعليم وأنشطة البحوث من خلال تأسيس قاعدة ممتدة لشبكة المعلومات في المؤسسات الجامعية وإمدادها بموارد المعرفة والبنية التحتية الأساسية.
مُخرجات خطط تطوير النظم التعليمية
يساعد التركيز على تنمية مهارات العنصر البشري في إخراج جيل من المبتكرين ورواد الأعمال والمستخدمين الواعين المدركين لتحديات المستقبل، ويزيد من معدل المشاركة في بناء المستقبل ويحقق أيضاً إنتاجية أكبر في العمل وكفاءة أفضل في الأداء ما يؤدي إلى النهوض باقتصاد البلاد؛ وهذا ما زاد من التوقعات بتغيير خريطة العالم الاقتصادية بحلول عام 2030، لتصبح الصين، التي تركز على مهارات العنصر البشري، من أكبر 10 اقتصادات في العالم بحسب شركة ستاندرد تشارترد (Standard Chartered) للخدمات المالية.
إذاً، من خلال تحويل مواردنا البشرية الهائلة إلى قوى عاملة ماهرة ومجهزة بقدرات إبداعية ومبتكرة، يمكننا إنشاء رأس مال معرفي ليحل محل رأس المال المادي المطلوب لاقتصاد قائم على المعرفة.