يشهد مجال ريادة الأعمال الاجتماعية الناشئ نمواً متسارعاً ويستقطب اهتماماً متزايداً من قطاعات متعددة. ويرد هذا المصطلح بكثرة في وسائل الإعلام، ويتردد على ألسنة المسؤولين الحكوميين، وأصبح متداولاً على نطاق واسع في الجامعات، كما يشكل ركيزة أساسية في استراتيجيات عدد من المؤسسات البارزة في القطاع الاجتماعي، مثل مؤسسات أشوكا وشواب وسكول فاونديشن.
تتعدد أسباب شيوع ريادة الأعمال الاجتماعية. فعلى أبسط المستويات، ثمة ما يثير الإعجاب والانبهار في شخصيات رواد الأعمال وفي قصص دوافعهم والطرق التي يسلكونها لتحقيق ما يصبون إليه. وينجذب الناس إلى رواد الأعمال الاجتماعيين، مثل محمد يونس الذي حاز جائزة نوبل للسلام العام الماضي، للأسباب نفسها التي تجعلهم يفتنون برواد الأعمال التجارية، مثل ستيف جوبز، فهذه شخصيات استثنائية تبتكر أفكاراً لامعة وتنجح على الرغم من الصعاب في تطوير منتجات وخدمات جديدة تحدث تحولاً جذرياً في حياة الناس.
بيد أن الاهتمام بريادة الأعمال الاجتماعية يتجاوز مجرد شيوعها أو الإعجاب بمن يمارسونها، فهي تعبر عن الحاجة الملحة إلى إحداث تغيير اجتماعي حقيقي. وهذا ما يجعلها متميزة؛ إذ تنطوي على عائد اجتماعي مستدام قادر على إحداث تحول جوهري عميق الأثر في المجتمع، وهو ما يضفي على هذا المجال وممارسيه طابعاً فريداً يميزهم عن سواهم.
وعلى الرغم من وضوح الفوائد المحتملة التي تقدمها ريادة الأعمال الاجتماعية في نظر الكثيرين من الداعمين والممولين لهذه الأنشطة، فإن تعريف ما يفعله رواد الأعمال الاجتماعيون لتحقيق هذا المستوى من العائد لا يزال غامضاً. والواقع أننا نرى أن مفهوم ريادة الأعمال الاجتماعية اليوم أبعد ما يكون عن الوضوح. ونتيجة لذلك، اتسع نطاق هذا المجال حتى غدا مظلة شاملة لمجموعة كبيرة من الأنشطة التي تعود بالنفع على المجتمع بمختلف أشكالها.
من بعض الجوانب، قد يبدو هذا الاتساع في المفهوم إيجابياً. فإذا كانت الموارد تتدفق بغزارة إلى القطاع الاجتماعي، وإذا كان العديد من القضايا، التي لم تكن لتحظى بتمويل كاف، تحصل اليوم على الدعم لأنها تندرج تحت مظلة ريادة الأعمال الاجتماعية، فقد يبدو من المقبول أن يكون التعريف فضفاضاً. غير أننا نعتقد أن هذه فرضية معيبة وموقف ينطوي على قدر من المجازفة.
اكتسب مفهوم ريادة الأعمال الاجتماعية جاذبيته لأنها تنطوي على وعود كبيرة. بيد أن هذه الوعود قد لا تتحقق إذا شمل تعريفها عدداً كبيراً من الجهود "غير الريادية" لأنها تفقد ريادة الأعمال الاجتماعية مصداقيتها وتضيع جوهرها الحقيقي. وبسبب هذا الخطر، نرى ضرورة وضع تعريف أدق لريادة الأعمال الاجتماعية يتيح لنا تحديد الأنشطة التي تندرج "في نطاق هذا المجال" والتي تقع خارجه. ولا نهدف من ذلك إلى إجراء مقارنة مجحفة بين إسهامات مؤسسات الخدمات الاجتماعية التقليدية ونتائج ريادة الأعمال الاجتماعية، بل تسليط الضوء ببساطة على ما يميز إحداهما عن الأخرى.
إذا تمكنا من وضع تعريف دقيق ومحدد، فسيتمكن الداعمون لريادة الأعمال الاجتماعية من استثمار مواردهم في تطوير مجال واضح المعالم وتعزيزه وترسيخ دعائمه. أما في غياب هذا التحديد فسيصبح أنصار ريادة الأعمال الاجتماعية عرضة لخطر إتاحة هدف آخذ في الاتساع لمهاجمة المشككين وستزداد الذرائع للمنتقدين المتشائمين كي يقللوا من شأن الابتكار الاجتماعي والقائمين عليه.
الانطلاق من مفهوم ريادة الأعمال
يجب أن يبدأ أي تعريف لمصطلح "ريادة الأعمال الاجتماعية" بعبارة "ريادة الأعمال" نفسها، فكلمة "الاجتماعية" ليست سوى توصيف لها. وإذا لم يكن لمفهوم ريادة الأعمال معنى واضح، فلن يكون لإضافة صفة "الاجتماعية" إليه جدوى من أي نوع.
مصطلح "ريادة الأعمال" نعمة ونقمة في آن واحد؛ فمن جانبه الإيجابي، يوحي بقدرة فطرية فريدة على استشعار الفرص واغتنامها، ويجمع بين التفكير غير التقليدي والعزيمة الاستثنائية على الإبداع وإضافة قيمة حقيقية في العالم. أما جانبه السلبي، فهو أن "ريادة الأعمال" لا تكتسب صفة الريادة إلا بعد حين، إذ لا يمكن إدراك الأثر الحقيقي للأنشطة الريادية إلا بعد مرور فترة من الزمن.
من اللافت كذلك أن من يمنى بفشل ذريع بمشروعه يفقد الحق بوصفه رائد أعمال ولو امتلك السمات الشخصية التي تميز رواد الأعمال كلها، مثل القدرة على استشعار الفرص والتفكير غير التقليدي والإصرار، ويوصف بأنه فاشل. حتى أشخاص مثل بوب يونغ، الذي اشتهر بتأسيس شركة ريد هات سوفتوير، لا يطلق عليهم وصف "رائد أعمال متسلسل" إلا بعد تحقيق أول نجاح لهم؛ إذ لا تعد إخفاقاتهم السابقة جزءاً من مسيراتهم الريادية إلا في ضوء ذلك النجاح الأول. ومشكلة التعريفات اللاحقة للنتائج أنها تتصف بالغموض وصعوبة التحديد في معظم الأحيان، فليس من السهل فهم ما لم يثبت نجاحه بعد. وبوسع أي شخص أن يدعي أنه رائد أعمال، لكن ما لم يكن في رصيده نجاح واحد على الأقل، فسيجد صعوبة كبيرة في إقناع المستثمرين بالمغامرة معه. وهؤلاء المستثمرون، بدورهم، يتعين عليهم تحمل قدر أكبر من المخاطرة عند تقييم مصداقية من يزعمون امتلاك روح الريادة، والأثر المحتمل للمشروعات الناشئة التي يطلقونها.
حتى مع أخذ هذه الاعتبارات في الحسبان، نرى أن استخدام مصطلح "ريادة الأعمال" في سياق "ريادة الأعمال الاجتماعية" يتطلب أولاً أن نتعمق في فهم المقصود أصلاً بمفهوم الريادة. فهل تعني مجرد الانتباه للفرص؟ أم القدرة على الإبداع؟ أم الإصرار؟ على الرغم من أن هذه السمات السلوكية وغيرها تمثل جزءاً من الصورة وتقدم للمستثمرين المحتملين مؤشرات مهمة، فإنها لا تعبر عن جوهر المفهوم بأكمله. فمثل هذه الأوصاف تستخدم أيضاً في وصف المخترعين والفنانين والمسؤولين التنفيذيين وغيرهم من الأطراف الفاعلة في المجتمع.
على غرار معظم الباحثين في مجال ريادة الأعمال، نبدأ بعالم الاقتصاد الفرنسي، جان باتيست ساي، الذي وصف رائد الأعمال في مطلع القرن التاسع عشر بأنه الشخص الذي "ينقل الموارد الاقتصادية من مجال ذي إنتاجية منخفضة إلى مجال ذي إنتاجية أعلى وعائد أكبر"، موسعاً بذلك المعنى الحرفي للكلمة الفرنسية (entrepreneur) التي تعني "المبادر" أو "من يشرع في تنفيذ عمل" ليشمل مفهوم خلق القيمة.
بعد نحو قرن من الزمان، بنى عالم الاقتصاد النمساوي جوزيف شومبيتر على هذا المفهوم الأساسي المتمثل في خلق القيمة، مضيفاً إليه ما يمثل بلا شك أكثر الأفكار تأثيراً في فهم ريادة الأعمال. فقد رأى شومبيتر في رائد الأعمال القوة الدافعة للتقدم الاقتصادي، التي لولاها لأصبحت الاقتصادات راكدة ومقيدة بنيوياً ومعرضة للاضمحلال. وهنا يبرز ما سماه شومبيتر "أونترنيمر" (Unternehmer) وهي كلمة ألمانية تعني رائد الأعمال الذي يجسد الروح الريادية القادرة على اكتشاف الفرص التجارية، سواء تمثلت في مادة أو منتج أو خدمة أو نشاط، ويؤسس مشروعاً لتطبيقها. ويرى شومبيتر أن ريادة الأعمال الناجحة تطلق سلسلة من التفاعلات المتتابعة وتشجع رواد أعمال آخرين على البناء على الابتكار ذاته وتوسيعه إلى أن تبلغ العملية مرحلة "التدمير الخلاق"، وهي الحالة التي تصبح فيها المبادرة الجديدة والمشروعات المنبثقة عنها قادرة على جعل المنتجات والخدمات ونماذج الأعمال القائمة عديمة الجدوى فعلياً.
وعلى الرغم من أن شومبيتر قدم الشخصيات الرئيسية في تحليله بصيغة أقرب إلى البطولة، فإن دراسته ترسخ ريادة الأعمال ضمن منظومة اقتصادية متكاملة، إذ تنسب إلى دور رائد الأعمال أثراً متناقضاً: مزعزعاً وخلاقاً في الوقت نفسه. فقد رأى شومبيتر في رائد الأعمال قوة دافعة للتغيير داخل الاقتصاد الكلي، بينما كان بيتر دراكر على النقيض من ذلك؛ إذ لم ير أن رواد الأعمال قوى دافعة للتغيير، بل أنهم أذكياء ومثابرين في استثمار التغيير. ووفقاً لدراكر، فإن "رائد الأعمال يبحث دائماً عن التغيير، ويستجيب له، ويستثمره باعتباره فرصة سانحة"، وهي الفرضية التي تبناها لاحقاً إزرائيل كيرزنر، الذي اعتبر اليقظة والانتباه أهم القدرات التي تميز رائد الأعمال.
بغض النظر عما إذا كان المفكرون الاقتصاديون يصورون رائد الأعمال بوصفه مبتكراً يحدث نقلة نوعية أو مستثمراً مبكراً للفرص، فإنهم يجمعون على ربط ريادة الأعمال بمفهوم الفرصة. ويرى كثيرون أن رواد الأعمال يتمتعون بقدرة استثنائية على رصد الفرص الجديدة واغتنامها، وبما يلزم من التزام ودافع لملاحقتها، فضلاً عن استعداد لا يتزعزع لتحمل المخاطر الكامنة فيها.
انطلاقاً من هذا الأساس النظري، نرى أن ريادة الأعمال تعبر عن مزيج من 3 عناصر مترابطة: السياق الذي تنشأ فيه الفرصة، ومجموعة السمات الشخصية اللازمة لتحديد هذه الفرصة والسعي وراءها، وتحقيق نتيجة محددة منها.
لشرح تعريفنا لريادة الأعمال وتوضيحه، سنتناول عن قرب عدداً من رواد الأعمال الأميركيين المعاصرين، سواء كانوا أفراداً أم ثنائيات: ستيف جوبز وستيف ووزنياك مؤسسا شركة آبل، وبيير أوميديار وجيف سكول مؤسسا شركة إيباي، وآن ومايك مور مؤسسا شركة سنغلي، وفريد سميث مؤسس شركة فيديكس.
السياق الريادي
تنطلق ريادة الأعمال مما نطلق عليه السياق الريادي. فعند ستيف جوبز وستيف ووزنياك، تمثل هذا السياق في نظام حوسبة كان المستخدمون يعتمدون فيه بالكامل على أجهزة الكمبيوتر المركزية الكبيرة التي تتحكم بها فرق تكنولوجيا المعلومات، التي كانت تحرس تلك الأجهزة وكأنها ممتلكات لا يجوز المساس بها. كان المستخدمون ينجزون مهامهم الحوسبية بالفعل، لكن بعد طول انتظار وباستخدام البرامج التي يصممها موظفو تكنولوجيا المعلومات حصراً. وإذا أراد المستخدمون أن يؤدي أحد البرامج وظيفة غير مألوفة، كان يقال لهم أن ينتظروا 6 أشهر حتى إنجاز البرمجة المطلوبة.
من منظور المستخدمين كانت التجربة غير فعالة وغير مرضية. لكن بما أن نموذج الحوسبة المركزي كان الخيار الوحيد المتاح فقد قبلوا بالأمر الواقع واعتبروا التأخيرات ومواطن القصور جزءاً من آليات عملهم، ما أفضى إلى حالة توازن وإن كانت غير مرضية.
يصف علماء تفاعلات النظم هذا النوع من التوازن بأنه "حلقة ملاحظات متوازنة"، لأن النظام لا يتعرض فيه لقوة مؤثرة بما يكفي لكسر حالة التوازن السائدة. ويمكن تشبيهه بعمل منظم الحرارة في جهاز تكييف الهواء: فعندما ترتفع درجة الحرارة، يعمل المكيف ليخفضها، وحين تنخفض مجدداً إلى الحد المطلوب، يتوقف المكيف عن العمل آلياً.
كان نظام الحوسبة المركزي الذي اضطر المستخدمون لتحمله يمثل نوعاً من حالات التوازن، لكنه توازن غير مرض. وكأن منظم الحرارة في جهاز التدفئة قد ضبط على درجة أدنى من المستوى المريح بخمس درجات، فبقي الجميع في الغرفة يشعرون بالبرد. ومع أنهم يدركون أن درجة الحرارة ثابتة ويمكن التنبؤ بها، فإنهم يكتفون بارتداء ملابس أدفأ، على الرغم من أنهم يتمنون لو لم يضطروا إلى ذلك.
رصد بيير أوميديار وجيف سكول حالة توازن غير مرضية ناجمة عن عجز الأسواق القائمة على الموقع الجغرافي عن تحقيق التوافق الأمثل بين مصالح البائع والمشتري؛ إذ كان البائع غالباً يجهل هوية أنسب المشترين، بينما لا يعرف المشتري بدوره من هم أنسب البائعين، أو أي بائعين أصلاً. ونتيجة لذلك، لم تكن السوق مثالية لأي من الطرفين. على سبيل المثال، كان من يبيع سلعاً منزلية مستعملة يقيم معرضاً صغيراً أمام منزله يجتذب المشترين القاطنين في الجوار فحسب، دون أن يضمن حضور العدد المثالي أو النوعية المرجوة من المشترين. أما من يبحث عن سلع نادرة فكان يضطر إلى تقليب دليل الهاتف والاتصال المرة تلو الأخرى في محاولة للعثور على ما يريد، وغالباً ما كان ينتهي به المطاف إلى الاكتفاء بما لا يلبي تطلعاته. وبما أن المشترين والبائعين لم يتمكنوا من تخيل حل أفضل، ظل هذا التوازن المستقر، وإن كان دون المستوى الأمثل، قائماً.
وكذلك آن ومايك مور، إذ لاحظا حالة توازن دون المستوى الأمثل ناجمة عن محدودية الخيارات المتاحة أمام الآباء لحمل أطفالهم الرضع. فالوالدان اللذان يرغبان في إبقاء أطفالهما قريبين منهما في أثناء إنجاز المهام اليومية الأساسية لم يكن أمامهما سوى خيارين: إما أن يتعلما كيف يوازنان بين حمل الطفل بذراع واحدة وأداء الأعمال بالذراع الأخرى، وإما أن يضعا الطفل في عربة أو مهد أو أي وسيلة مشابهة ليبقى بالقرب منهما. وكان كلا الخيارين غير مثالي. فالجميع يعلم أن الأطفال الرضع يستفيدون كثيراً من الاتصال الجسدي الوثيق مع آبائهم وأمهاتهم، بيد أن أكثر الآباء والأمهات حناناً وإخلاصاً لا يستطيعون حمل أطفالهم طوال الوقت. ومع غياب أي بدائل أخرى، استمر الوالدان في التأقلم مع هذا الوضع، يتنقلان بالطفل من جهة إلى أخرى، ويبرعان في أداء المهام بيد واحدة، أو يحاولان إنجاز أعمالهما في أثناء فترات نوم صغيرهما.
في حالة فريد سميث، كانت حالة التوازن دون المستوى الأمثل التي رصدها تتمثل في خدمات الشحن السريع لمسافات طويلة. فقبل ظهور شركة فيديكس، لم يكن إرسال طرد إلى مدينة بعيدة أمراً يسيراً على الإطلاق؛ إذ كانت شركات النقل المحلية تستلم الطرد وتنقله إلى شركة نقل رئيسية تتكفل بشحنه جواً إلى المدينة المقصودة ومن ثم تسليمه إلى جهة ثالثة لتوصيله إلى الجهة المعنية، أو ربما يعود إلى فرع الشركة المحلية نفسها في تلك المدينة إذا كانت تمتلك شبكة وطنية. كان هذا النظام معقداً من الناحية اللوجستية، يتضمن سلسلة طويلة من عمليات التسليم بين أطراف متعددة، ويخضع توقيته لجدول مواعيد الشركات الناقلة الرئيسية. وغالباً ما كانت تحدث أخطاء أو تأخيرات، دون أن يتولى أحد مسؤولية حلها. ومع مرور الوقت، اعتاد المستخدمون هذا الواقع وتقبلوا خدمة بطيئة وغير موثوقة وغير مرضية، وهي حالة غير مريحة لكنها مستقرة؛ لأنه لم يكن في وسع أي مستخدم تغييرها.
السمات الريادية
ينجذب رائد الأعمال إلى حالة التوازن دون المستوى الأمثل؛ إذ يرى في طياتها فرصة لتقديم حل جديد أو منتج أو خدمة أو عملية مبتكرة. وسبب رؤية رائد الأعمال فرصة لابتكار شيء جديد في حين يراها الآخرون مجرد عقبة يتعين التعايش معها، هو مجموعة السمات الشخصية الفريدة التي يمتلكها، مثل الإلهام والقدرة على الإبداع والمبادرة باتخاذ إجراءات مباشرة، والجرأة والصلابة. وهذه السمات جوهرية في عملية الابتكار.
يستمد رائد الأعمال إلهامه من الرغبة في تغيير حالة التوازن غير المرضية. وقد يكون دافعه إلى ذلك شعوره بالإحباط بصفته مستخدماً، أو تعاطفه مع مستخدمين آخرين يعانون الإحباط ذاته. وفي بعض الأحيان، يستبد برائد الأعمال شغف عارم بتغيير الواقع القائم إلى درجة تدفعه إلى هدم الوضع الراهن برمته. ففي حالة شركة إيباي، كانت المستخدم المحبط هي صديقة أوميديار، التي كانت تجمع موزعات حلوى بيز الشهيرة.
يفكر رائد الأعمال بأسلوب إبداعي ويطور حلاً جديداً يؤدي إلى إحداث قطيعة جذرية مع الحل القائم. فهو لا يسعى إلى تحسين النظام الحالي من خلال إجراء تعديلات طفيفة، بل يبحث عن طريقة مختلفة تماماً لمعالجة المشكلة. فلم يعمل أوميديار وسكول على البحث عن وسيلة أفضل لترويج معارض البيع المنزلية، ولم يبتكر جوبز وووزنياك خوارزميات تسرع تطوير البرمجيات المخصصة، كما لم يخترع سميث طريقة تجعل عمليات تسليم الطرود بين شركات النقل والشركات الناقلة الرئيسية أكثر كفاءة وخالية من الأخطاء؛ بل توصل كل منهم إلى حل جديد كلياً ومبدع تماماً للمشكلة التي واجهها.
ما إن يستلهم رائد الأعمال الفرصة ويتوصل إلى حل إبداعي حتى يبادر إلى اتخاذ إجراء مباشر. فهو لا ينتظر تدخل أحد آخر، ولا يحاول إقناع غيره بحل المشكلة، بل يتخذ بنفسه إجراءً مباشراً وينشئ منتج أو خدمة جديدة ويطلق المشروع الذي ينهض بها. فلم يشن جوبز وووزنياك حملة ضد الحواسيب المركزية، ولم يحثا المستخدمين على التمرد على أقسام تكنولوجيا المعلومات، بل ابتكرا الحاسوب الشخصي الذي مكن المستخدمين من التحرر من تبعية النظام المركزي. ولم تكتف مور بتأليف كتاب ترشد فيه الأمهات إلى كيفية إنجاز المزيد من المهام في وقت أقل، بل ابتكرت منتج سنغلي، وهو حامل أطفال أمامي أو خلفي بلا إطار، يتيح للوالدين حمل أطفالهم مع إبقاء اليدين حرتين. وبطبيعة الحال، يحتاج رائد الأعمال إلى التأثير في الآخرين: أولاً المستثمرين، حتى إن كانوا من الأصدقاء أو أفراد العائلة، ثم الزملاء والموظفين الذين سيعملون معه، وأخيراً العملاء الذين سيقتنعون بأفكاره وابتكاراته. والمقصود هنا هو تمييز الإجراء المباشر الذي يتخذه رائد الأعمال عن الإجراءات غير المباشرة أو الداعمة.
يظهر رواد الأعمال جرأة استثنائية طوال مسيرة الابتكار، إذ يتحملون عبء المخاطرة ويواجهون الفشل وجهاً لوجه، وربما أكثر من مرة. وغالباً ما يقتضي ذلك منهم الجرأة على إجراء مجازفات كبيرة وفعل أشياء يعتبرها الآخرون متهورة أو حتى مستحيلة التنفيذ. على سبيل المثال، اضطر فريد سميث إلى إقناع نفسه والعالم من حوله بجدوى امتلاك أسطول من الطائرات وبناء مطار ضخم ومركز فرز في مدينة ممفيس، لتوفير خدمة التسليم في اليوم التالي دون أن يغادر الطرد حيازة شركة فيديكس في أي مرحلة من مراحل الشحن. وقد أقدم على هذه الخطوة في وقت لم تكن فيه أي من الشركات المنافسة الراسخة تمتلك سوى أساطيل من الشاحنات المخصصة للاستلام والتوصيل المحلي، ولم تدر أي منها مطاراً ولم تمتلك هذا العدد الهائل من الطائرات.
وأخيراً، يتمتع رواد الأعمال بقدر كبير من الصلابة التي تمكنهم من تنفيذ حلولهم الإبداعية وتحفيز اعتمادها في السوق. فلا توجد مبادرة ريادية تمضي قدماً دون عقبات أو منعطفات غير متوقعة، وعلى رائد الأعمال أن يجد طرقاً إبداعية لتجاوز الحواجز والتحديات التي تطرأ. فقد كان على فريد سميث أن يبحث عن وسيلة تبقي المستثمرين واثقين من أن شركة فيديكس ستصل في نهاية المطاف إلى الحجم المطلوب لتغطية نفقات البنية التحتية الضخمة من الشاحنات والطائرات والمطار وأنظمة تكنولوجيا المعلومات اللازمة للنموذج الجديد الذي ابتكره. وقد اضطرت فيديكس إلى تحمل خسائر بمئات الملايين من الدولارات قبل أن تحقق تدفقاً نقدياً إيجابياً، ولولا التزام رائد الأعمال الذي كان على رأسها، لكانت الشركة قد صفيت قبل بلوغ تلك المرحلة بوقت طويل.
النتيجة الريادية
عندما ينجح رائد الأعمال في توظيف سماته الشخصية لمعالجة حالة توازن دون المستوى الأمثل، فإنه يخلق حالة توازن جديدة أكثر استقراراً توفر درجة أعلى من الرضا للمشاركين في النظام. وبالاستناد إلى الفكرة الأصلية لجان باتيست ساي، يعمل رائد الأعمال على إحداث تحول دائم من توازن منخفض الجودة إلى آخر أكثر جودة وكفاءة. وهذا التوازن الجديد دائم لأنه يمر أولاً بمرحلة البقاء ثم يثبت استقراره، حتى إن استمرت بعض مظاهر التوازن القديم (مثل أنظمة الشحن المكلفة والأقل كفاءة أو معارض البيع المنزلية وما شابهها). ومع مرور الوقت، تتجاوز عملية البقاء والنجاح حدود رائد الأعمال ومشروعه الأصلي، إذ يتحقق الاستقرار والاستمرار من خلال تبني السوق العامة للابتكار وانتشار محاولات المحاكاة على نطاق واسع ونشوء منظومة متكاملة داخل التوازن الجديد وحوله تضمن له الديمومة والثبات.
حين ابتكر جوبز وووزنياك الكمبيوتر الشخصي، لم يكتفيا بتقليص اعتماد المستخدمين على أجهزة الكمبيوتر المركزية، بل كسرا تلك التبعية تماماً، محولين مركز السيطرة من "الغرفة الزجاجية" إلى سطح المكتب. وما إن رأى المستخدمون حالة التوازن الجديدة تتشكل أمام أعينهم حتى سارعوا إلى تبنيها، ليس مع شركة آبل فحسب، بل مع كل المنافسين الذين اندفعوا إلى الساحة. وفي فترة وجيزة نسبياً، كان المؤسسان قد أنشآ منظومة كاملة تضم عدداً كبيراً من موردي الأجهزة والبرامج والملحقات، إلى جانب قنوات التوزيع والموزعين الذين يقدمون خدمات أو حلولاً إضافية، ومجلات الكمبيوتر والمعارض التجارية، وغيرها.
وبفضل هذه المنظومة الجديدة، كان في وسع شركة آبل أن تخرج من السوق بعد بضع سنوات من دون أن يتزعزع استقرارها. بعبارة أخرى، لم يكن التوازن الجديد قائماً على وجود مشروع واحد، أي آبل في هذه الحالة، بل على تبني النموذج واستنساخه ونشوء عدد كبير من الشركات والأعمال المرتبطة به. وبلغة شومبيتر الاقتصادية، أسفر هذا الأثر التراكمي عن ترسيخ نظام حوسبة جديد أطاح بالنظام القديم القائم على أجهزة الكمبيوتر المركزية، وجعله عديم الجدوى.
في حالة أوميديار وسكول، أتاح تأسيس شركة إيباي وسيلة أفضل لربط المشترين بالبائعين، ما خلق حالة توازن أكثر تقدماً. وقد نشأت أساليب جديدة كلياً لممارسة الأعمال، إلى جانب شركات جديدة أسهمت في نشوء منظومة قوية لا يمكن تفكيكها بسهولة. وبالمثل، ابتكر فريد سميث عالماً جديداً في مجال توصيل الطرود، رفع معايير الخدمة، وغير أساليب العمل التجاري، وأفرز منافسين جدداً، وأدخل اسم شركته إلى لغة الناس وتفاعلاتهم اليومية.
في كل حالة من هذه الحالات، كان الفارق بين جودة التوازن القديم والجديد كبيراً للغاية. وسرعان ما أصبح التوازن الجديد قادراً على الاستمرار ذاتياً، وولد المشروع الريادي الأصلي عدداً كبيراً من المقلدين والمنافسين. وقد ضمنت هذه النتائج مجتمعة أن يحقق سائر المستفيدين تقدماً ملموساً ويبلغوا مستوى أعلى من الفعالية.
الانتقال إلى ريادة الأعمال الاجتماعية
إذا كانت هذه هي المكونات الأساسية لريادة الأعمال، فما الذي يميز ريادة الأعمال الاجتماعية عن نظيرتها الهادفة للربح؟ نعتقد أولاً أن أنسب الطرق وأوضحها لتعريف ريادة الأعمال الاجتماعية هو تأكيد اتساقها مع ريادة الأعمال ذاتها، بوصفها قائمة على العناصر الثلاثة نفسها. وأي نهج آخر لن يؤدي إلا إلى مزيد من الغموض والانتقاص من القيمة التوضيحية للمفهوم نفسه.
ولفهم ما يميز كلاً من فئتي رواد الأعمال عن الأخرى، من المهم تبديد الفكرة القائلة إن الفارق يتمثل في الدافع فحسب، أي أن رواد الأعمال يسعون إلى تحقيق المكاسب المالية، في حين يسعى رواد الأعمال الاجتماعية إلى تحقيق منافع إنسانية أو اجتماعية أوسع تعبر عن روح الإيثار. فالحقيقة أن رواد الأعمال نادراً ما يكون الحافز المالي هو ما يدفعهم، لأن احتمالات تحقيق ثروات كبيرة ضئيلة بطبيعتها. بل إن كلاً من رائد الأعمال التجاري ورائد الأعمال الاجتماعي يستمدان دافعاً قوياً من الفرصة التي يكتشفانها، فيسعيان وراء تحقيق رؤاهما بلا هوادة، ويستشعران مكافأة نفسية كبيرة من عملية تحويل أفكارهما إلى واقع ملموس. وسواء عملا في سوق تجارية أو ضمن إطار غير ربحي، فمعظم رواد الأعمال لا يتلقون التعويض الكامل عن الوقت والمخاطر والجهد ورأس المال الذي يكرسونه لمشروعاتهم.
نرى أن الفارق الجوهري بين ريادة الأعمال التجارية وريادة الأعمال الاجتماعية يكمن في عرض القيمة نفسه. فعند رائد الأعمال التجاري، يقوم عرض القيمة على خدمة أسواق قادرة على تحمل كلفة المنتج الجديد أو الخدمة المبتكرة، ويهدف إلى تحقيق ربح مالي، ويتوقع منذ البداية هو ومستثمروه تحقيق مكاسب مالية شخصية. ويمثل الربح عنصراً لا غنى عنه لاستدامة أي مشروع، كما يشكل الوسيلة التي تمكنه في نهاية المطاف من تحقيق هدفه الأسمى المتمثل في انتشار الابتكار على نطاق واسع داخل السوق وبلوغ حالة توازن جديدة.
أما رائد الأعمال الاجتماعي، فلا يهدف منذ البداية إلى تحقيق أرباح مالية كبيرة لمستثمريه، الذين يتمثلون غالباً في جهات مانحة أو مؤسسات حكومية، ولا لنفسه شخصياً، بل يسعى إلى تحقيق قيمة تتمثل في أثر تحويلي جوهري واسع النطاق يعود بالنفع على شريحة كبيرة من المجتمع أو على المجتمع بأسره. وعلى خلاف عرض القيمة في ريادة الأعمال التجارية، الذي يفترض وجود سوق قادرة على تحمل كلفة الابتكار وقد يوفر للمستثمرين عوائد مالية مجزية، يوجه رائد الأعمال الاجتماعي عرضه نحو فئة محرومة أو مهمشة أو شديدة الضعف، تفتقر إلى الوسائل المالية أو النفوذ السياسي الذي يمكنها من تحقيق هذا الأثر التحويلي بنفسها. ولا يعني ذلك وجود قاعدة صارمة تمنع رواد الأعمال الاجتماعية من تبني عروض قيمة مدرة للربح؛ إذ يمكن لمشروعاتهم أن تحقق دخلاً وأن تتخذ شكل كيانات ربحية أو غير ربحية. غير أن ما يميز ريادة الأعمال الاجتماعية هو إعلاء المنفعة الاجتماعية على أي اعتبار آخر، وهو ما وصفه أستاذ جامعة ديوك، غريغ ديس، في مؤلفاته الرائدة في هذا المجال، بأنه "تحقيق أثر اجتماعي يجسد جوهر الرسالة".
نعرف ريادة الأعمال الاجتماعية بأنها تقوم على 3 عناصر مترابطة: (1) تحديد حالة توازن مستقرة لكنها غير عادلة، تسبب إقصاء شريحة من البشر أو تهميشها أو معاناتها وهي تفتقر إلى الوسائل المالية أو النفوذ السياسي الذي يمكنها من تحقيق أي أثر تحويلي بنفسها. (2) اكتشاف فرصة كامنة داخل هذا التوازن غير العادل، وصياغة عرض قيمة اجتماعية، وتوظيف الإلهام والقدرة على الإبداع والمبادرة باتخاذ إجراءات مباشرة، والجرأة والصلابة لتحدي هيمنة هذا الوضع القائم. (3) إرساء حالة توازن جديدة أكثر عدلاً واستقراراً تطلق الطاقات الكامنة أو تخفف معاناة الشريحة المستهدفة، ومع مرور الوقت وبفضل المحاكاة وانتشار النموذج ونشوء منظومة مستقرة حول هذا التوازن الجديد، تضمن لتلك الشريحة، بل للمجتمع بأسره، آفاق مستقبل أفضل.
يمثل مؤسس بنك غرامين وأبو مفهوم التمويل المتناهي الصغر، محمد يونس، مثالاً كلاسيكياً لريادة الأعمال الاجتماعية. فقد رصد حالة توازن مستقرة لكنها بائسة بطبيعتها، تمثلت في محدودية الخيارات المتاحة أمام فقراء بنغلادش للحصول حتى على أصغر القروض. إذ لم يكن بإمكانهم الحصول على تمويل من النظام المصرفي الرسمي لعدم استيفائهم شروط الاقتراض، ولم يكن أمامهم سوى اللجوء إلى المرابين المحليين الذين يفرضون أسعار فائدة فاحشة. وغالباً ما لم يجدوا بداً في نهاية المطاف من التسول في الشوارع. وهكذا استقر توازن بالغ القسوة يبقي الفقر المستشري في بنغلادش قائماً ويزيده تفاقماً، بكل ما ينطوي عليه من بؤس ومعاناة.
تصدى يونس للنظام القائم وأثبت أن الفقراء يشكلون فئة جديرة بالثقة الائتمانية حين أقرض، من ماله الخاص، المبلغ الشهير اليوم وقدره 27 دولاراً موزعاً على 42 امرأة من قرية جوبرا، وقد سددت النساء القرض كاملاً. واكتشف يونس أن رأس المال الضئيل كان كفيلاً بتمكين النساء من استثمار قدراتهن على كسب الدخل. فبآلة خياطة واحدة، مثلاً، كانت المرأة تستطيع تفصيل الملابس وكسب ما يكفي لسداد القرض وشراء الطعام وتعليم أطفالها وانتشال أسرتها من الفقر. وحافظ بنك غرامين على استدامته من خلال فرض فائدة على قروضه وإعادة تدوير رأس المال لمساعدة نساء أخريات. وجلب يونس إلى مشروعه الإلهام والقدرة على الإبداع والمبادرة باتخاذ إجراءات مباشرة والجرأة والصلابة، وأثبت جدواه، وتمكن خلال عقدين من الزمن من إطلاق شبكة عالمية من المؤسسات التي استنسخت نموذجه أو طورته بما يتلاءم مع دول وثقافات مختلفة، ليرسخ بذلك مفهوم التمويل المتناهي الصغر باعتباره قطاعاً عالمياً قائماً بذاته.
يقدم الممثل والمخرج والمنتج الشهير روبرت ريدفورد مثالاً آخر، أقل شيوعاً لكنه ليس أقل أهمية، على ريادة الأعمال الاجتماعية. ففي مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، قرر ريدفورد أن يوجه مسيرته الفنية الناجحة نحو توسيع المساحة المتاحة للفنانين داخل قطاع السينما. وقد لفت انتباهه آنذاك وجود مجموعة من القوى المتباينة التي تتحكم في المشهد السينمائي. فقد رصد حالة توازن مستقرة لكنها قمعية في جوهرها، تمثلت في الطريقة التي كانت هوليوود تعمل بها؛ إذ بات نموذجها التجاري مدفوعاً على نحو متزايد بالمصالح المالية، وأخذت أعمالها الإنتاجية تميل إلى الأفلام التجارية الباهظة الإنتاج المليئة بالإثارة والعنف، بينما أصبح النظام الذي تهيمن عليه شركات الإنتاج أكثر مركزية وتحكماً في أساليب تمويل الأفلام وإنتاجها وتوزيعها. وفي الوقت نفسه، لاحظ ريدفورد بزوغ تكنولوجيات جديدة، مثل أجهزة التصوير والمونتاج الرقمية الأقل تكلفة والأيسر استخداماً، أتاحت لصناع الأفلام أدوات تمكنهم من بسط قدر أكبر من السيطرة على أعمالهم الإبداعية.
رأى ريدفورد في ذلك فرصة سانحة لرعاية هذا الجيل الجديد من الفنانين، فسارع إلى اغتنامها. فأنشأ أولاً معهد صن دانس بهدف "إخراج المال من المعادلة" وتوفير بيئة داعمة ومساحة آمنة للمخرجين الشباب لتطوير أفكارهم وتجريبها. ثم أسس مهرجان صن دانس السينمائي ليكون منصة لعرض أعمال صانعي الأفلام المستقلين. ومنذ البداية، تمحور عرض القيمة الذي قدمه ريدفورد حول المخرج المستقل الناشئ الذي لم تحظ موهبته بالتقدير الكافي ولم تخدمه السوق التي كانت خاضعة لاحتكار شركات الإنتاج في هوليوود.
أسس ريدفورد معهد صن دانس بوصفه مؤسسة غير ربحية، مستفيداً من شبكة علاقاته الواسعة التي تضم مخرجين وممثلين وكتاباً وغيرهم من العاملين في المجال، وداعياً إياهم إلى مشاركة خبراتهم مع صانعي الأفلام المبتدئين بصفة موجهين متطوعين. كما وضع سياسة تسعير لمهرجان صن دانس السينمائي تضمن أن تكون تكلفة المشاركة والحضور في متناول جمهور واسع، ليبقى المهرجان جاذباً ومفتوحاً أمام مختلف الفئات. وبعد مرور خمسة وعشرين عاماً، كان لمعهد صن دانس دور محوري في إطلاق حركة السينما المستقلة، التي تتيح اليوم لمخرجي الأفلام المستقلة إنتاج أعمالهم وتوزيعها، وتمنح جمهور السينما فرصة الوصول إلى طيف متنوع من الخيارات، بدءاً من الوثائقيات التي تفتح آفاق التفكير إلى الأعمال العالمية الجريئة والرسوم المتحركة الطريفة. وهكذا ولد توازن جديد كان يعد قبل عقد واحد فقط هشاً، لكنه بات اليوم راسخاً ومستقراً.
تمثل فيكتوريا هيل مثالاً نموذجياً على رائدة أعمال اجتماعية لا يزال مشروعها في مراحله الأولى، وتنطبق عليه معاييرنا قبل تحقق نتائجه. فهي باحثة متخصصة في علوم الأدوية شعرت بإحباط متزايد من هيمنة قوى السوق على قطاعها. فعلى الرغم من أن شركات الأدوية الكبرى كانت تمتلك براءات اختراع لعقاقير قادرة على علاج عدد من الأمراض المعدية، فهذه الأدوية لم تخضع للتطوير لسبب بسيط، وهو أن الفئات السكانية الأشد احتياجاً إليها لم تكن تملك القدرة على تحمل كلفتها. وبحكم تركيز شركات الأدوية على تحقيق العوائد المالية لمساهميها، انصرفت إلى تطوير العقاقير الموجهة للأمراض التي تصيب الفئات الميسورة وتسويقها في أسواق الدول المتقدمة القادرة على دفع ثمنها.
قررت هيل أن تتحدى هذا التوازن المستقر الذي رأت فيه ظلماً صارخاً لا يمكن التغاضي عنه. فأنشأت معهد ون وورلد هيلث، أول شركة أدوية غير ربحية، تحمل على عاتقها مهمة ضمان وصول الأدوية الموجهة لعلاج الأمراض المعدية في دول العالم النامي إلى من يحتاجون إليها، بغض النظر عن قدرتهم على دفع ثمنها. وقد تجاوز مشروع هيل اليوم مرحلة إثبات المفاهيم، إذ نجح في تطوير أول دواء له واختباره والحصول على موافقة الجهات الرقابية عليه في الهند، وهو عقار بارومومايسين، الذي يوفر علاجاً فعالاً ومنخفض التكلفة لداء الليشمانيات، وهو داء يودي بحياة أكثر من 200,000 شخص سنوياً.
وعلى الرغم من أنه لا يزال من المبكر الجزم بقدرة هيل على إرساء حالة توازن جديدة تضمن علاجاً أكثر إنصافاً للأمراض التي تصيب الفقراء، فإنها بلا شك تجسد المعايير الجوهرية لريادة الأعمال الاجتماعية. فأولاً، حددت هيل حالة توازن مستقرة لكنها غير عادلة في قطاع الأدوية. ثانياً، رأت فرصة للتدخل واغتنمتها، مستثمرة الإلهام والقدرة على الإبداع والمبادرة باتخاذ إجراءات مباشرة والتحلي بالشجاعة في إطلاق مشروع جديد يوفر حلولاً للفئات المحرومة. ثالثاً، تعمل بثبات على تأكيد جدوى نموذجها من خلال نجاح مبكر يبرهن على إمكاناته الواعدة.
سيكشف الزمن إذا ما كانت ابتكارات هيل ستلهم آخرين لاستنساخ تجربتها، أو إذا ما كان معهد ون وورلد هيلث نفسه سيبلغ من النطاق والتوسع ما يكفي لإحداث تحول دائم في هذا التوازن القائم. غير أن المؤشرات تبدو واعدة؛ فحين ننظر إلى المستقبل بعد عقد أو أكثر، يمكن لجهاتها الاستثمارية، ومنها مؤسسة سكول، أن تتخيل اليوم الذي يكون فيه معهد ون وورلد هيلث قد أرسى نموذجاً جديداً في قطاع صناعة الأدوية يحقق المنافع الاجتماعية الراسخة والطويلة الأمد ذاتها التي أرساها اليوم قطاعا التمويل المتناهي الصغر والسينما المستقلة.
حدود ريادة الأعمال الاجتماعية
في تعريف ريادة الأعمال الاجتماعية، من المهم أيضاً رسم حدود هذا المفهوم وتقديم أمثلة على الأنشطة التي قد تكون جديرة بالثناء ولكنها لا تندرج ضمن تعريفنا. فعدم وضع هذه الحدود يجعل مصطلح ريادة الأعمال الاجتماعية فضفاضاً إلى حد يفقده معناه الجوهري.
نميز بين شكلين رئيسيين من الأنشطة ذات القيمة الاجتماعية ينبغي التفريق بينهما وبين ريادة الأعمال الاجتماعية. فالنوع الأول هو تقديم الخدمات الاجتماعية؛ إذ يتصدى فرد مقدام ومتفان لحالة توازن بائسة مستقرة، مثل معاناة الأيتام أبناء ضحايا وباء الإيدز في إفريقيا، ويؤسس برنامجاً لمعالجة هذه المشكلة، كأن ينشئ مدرسة للأطفال تضمن لهم الرعاية والتعليم. ولا شك في أن المدرسة الجديدة ستساعد الأطفال المستفيدين منها، وربما تمكن بعضهم من كسر حلقة الفقر وتغيير مجرى حياتهم. غير أنه ما لم يكن المشروع مصمماً للتوسع على نطاق واسع، أو جذاباً بما يكفي لإلهام أعداد كبيرة من المقلدين والمبادرين بتكراره، فمن غير المتوقع أن يفضي إلى حالة توازن جديدة أفضل.
لا تتجاوز هذه الأنواع من مشروعات الخدمات الاجتماعية نطاقها المحدود؛ فتبقى آثارها محصورة، ومجال خدماتها مقصوراً على فئة محلية، ويتحدد حجمها بما يتوافر لها من موارد. وهي بطبيعتها مشاريع هشة، ما يجعلها عرضة للتوقف أو انقطاع خدماتها عن الفئات التي تخدمها. ويوجد في أنحاء العالم ملايين من هذه المؤسسات ذات النوايا الحسنة والأهداف النبيلة، وغالباً ما تكون أمثلة يحتذى بها في التنفيذ، ولكن ينبغي عدم الخلط بينها وبين ريادة الأعمال الاجتماعية.
يمكن إعادة تصور مشروع مدرسة تعنى بالأيتام أبناء ضحايا وباء الإيدز بحيث يغدو نموذجاً لريادة الأعمال الاجتماعية، غير أن ذلك يتطلب خطة تجعل من المدرسة نفسها نواة لشبكة متكاملة من المدارس، مع ضمان توفير المقومات التي تكفل استدامتها الذاتية. وعندئذ يتحقق توازن جديد مستقر، بحيث لو أغلقت إحدى المدارس، يبقى نظام قوي يضمن حصول الأيتام على التعليم بصورة منتظمة ومستدامة.
لا يكمن الفارق بين هذين النوعين من المشروعات، ريادة الأعمال الاجتماعية وتقديم الخدمات الاجتماعية، في السياقات الريادية التي انطلقت منها، ولا في الصفات الشخصية لمؤسسيها، بل في النتائج التي تحققها. تخيل لو أن أندرو كارنيغي اكتفى ببناء مكتبة واحدة، ولم يتخيل نظام المكتبات العامة الذي يخدم اليوم ملايين المواطنين الأميركيين. كانت تلك المكتبة الواحدة ستعود بالنفع دون شك على المجتمع المحلي الذي يحتضنها، لكن الرؤية التي تبناها كارنيغي لإنشاء منظومة متكاملة من المكتبات العامة، بما أرسته من حالة توازن جديدة ودائمة تضمن للمواطنين جميعاً الوصول إلى المعرفة والمعلومات، هي ما رسخ مكانته بوصفه رائد أعمال اجتماعياً حقيقياً.
الفئة الثانية من المشروعات الاجتماعية هي النشاط الاجتماعي. ففي هذا النوع من المبادرات، ينطلق الدافع من الحالة نفسها، أي من إدراك وجود توازن بائس ومستقر يحتاج إلى تغيير. كما أن سمات الناشطين في هذا المجال تتماثل في كثير من الجوانب مع سمات رواد الأعمال الاجتماعيين، مثل الإلهام والقدرة على الإبداع والجرأة والصلابة. غير أن ما يميز الناشط الاجتماعي هو النهج الذي يسلكه في إحداث التغيير؛ فهو لا يتخذ إجراءات مباشرة مثلما يفعل رائد الأعمال الاجتماعي، بل يسعى إلى إحداث التغيير بطريقة غير مباشرة، من خلال التأثير في الآخرين، مثل الحكومات والمؤسسات غير الحكومية والمستهلكين والعاملين وغيرهم، لحثهم على اتخاذ الخطوات اللازمة. وليس بالضرورة أن يؤسس الناشطون الاجتماعيون مؤسسات أو مبادرات لدعم التغييرات التي ينشدونها. وبمقدور النشاط الاجتماعي الناجح أن يحقق تحسينات ملموسة في الأنظمة القائمة، بل قد تفضي جهوده في بعض الحالات إلى توازن جديد، غير أن الطابع الاستراتيجي لجهوده يظل متميزاً بتركيزه على التأثير أكثر من الإجراء المباشر.
لم لا نطلق على هؤلاء اسم "رواد أعمال اجتماعيين"؟ إن أطلقنا عليهم هذا الاسم، فلا يعد ذلك خطأ فادحاً، بطبيعة الحال. لكن هذه الفئة من الناس لها اسم معروف وتاريخ راسخ ومكانة رفيعة منذ زمن بعيد، هي امتداد لتقليد جسده كل من مارتن لوثر كينغ والمهاتما غاندي وفاتسلاف هافل. إنهم ناشطون اجتماعيون. وإطلاق مسمى جديد كلياً عليهم، مثل "رواد الأعمال الاجتماعيين"، من شأنه أن يثير اللبس لدى الجمهور العام الذي يعرف مسبقاً معنى "الناشط الاجتماعي"، وهو ما لن يفيد أياً من الطرفين، لا الناشطين الاجتماعيين ولا رواد الأعمال الاجتماعيين.
المساحات الرمادية والنماذج الهجينة
بعد أن وضعنا تعريفاً لريادة الأعمال الاجتماعية وميزناها عن كل من تقديم الخدمات الاجتماعية والنشاط الاجتماعي، ينبغي أن نقر بأن الممارسة على أرض الواقع كثيراً ما تمزج بين هذه النماذج الخالصة أو تبتكر نماذج هجينة تمزج عناصر منها. ويمكن النظر إلى التعريفات الثلاثة في صورتها النموذجية الخالصة مثلما يبينها المخطط إلى اليمين.
في صورتها النموذجية الخالصة، يتخذ رائد الأعمال الاجتماعي الناجح إجراءً مباشراً يفضي إلى نشوء توازن جديد ومستدام، بينما يسعى الناشط الاجتماعي إلى التأثير في الآخرين ليتولوا هم إحداث هذا التوازن الجديد والمستدام، في حين يركز مقدم الخدمة الاجتماعية على اتخاذ إجراءات مباشرة تهدف إلى تحسين نتائج التوازن القائم دون تغييره.
من المهم التمييز بين هذه الأنواع من المبادرات الاجتماعية في صورها النموذجية الخالصة، غير أن الواقع العملي يزخر بالنماذج الهجينة أكثر من تلك الخالصة. ويمكن القول إن محمد يونس، على سبيل المثال، استخدم النشاط الاجتماعي لتسريع أثر بنك غرامين وتعظيمه، وهو المثال الكلاسيكي لريادة الأعمال الاجتماعية. فمن خلال نموذج هجين متتابع، يبدأ بريادة الأعمال الاجتماعية ويتبعها بالنشاط الاجتماعي، حول يونس التمويل المتناهي الصغر إلى قوة عالمية للتغيير.
تتخذ مؤسسات أخرى طابعاً هجيناً يجمع بين ريادة الأعمال الاجتماعية والنشاط الاجتماعي في آن معاً، وتمثل هيئات وضع المعايير أو منح الشهادات مثالاً واضحاً على ذلك. فعلى الرغم من أن أنشطة هيئة وضع المعايير نفسها لا تحدث التغيير الاجتماعي مباشرة، فإن التغيير الفعلي ينتج عن الجهات التي تتبع هذه المعايير، سواء بدافع الاقتناع أو نتيجة الإلزام، لأنها هي التي تتخذ الإجراءات المؤدية إلى إحداث التغيير في المجتمع. ومع ذلك، تستطيع الهيئة أن تجسد مفهوم ريادة الأعمال الاجتماعية من خلال ابتكار منهجية مؤثرة لوضع المعايير وتسويقها لدى الجهات الرقابية والمشاركين في السوق. ويمثل اعتماد شهادات "المنتجات المتداولة وفق مبادئ التجارة العادلة" وتسويقها مثالاً مألوفاً على ذلك، إذ أسهمت مؤسسات مثل كافيه دايركت في المملكة المتحدة وترانس فير يو إس أيه في الولايات المتحدة في إنشاء أسواق متخصصة متنامية للقهوة وغيرها من السلع التي تباع بسعر مميز يضمن تعويضاً أكثر إنصافاً لأصحاب المشاريع الصغيرة من المنتجين.
تقدم حملة روغمارك التي أطلقها كيلاش ساتيارثي مثالاً لافتاً على النموذج الهجين. فحين أدرك أن جهوده في إنقاذ الأطفال الذين يعملون في صناعة السجاد في ظروف قاسية وغير إنسانية بالهند لا يمكن أن تحدث التغيير المنشود بمفردها، وجه اهتمامه إلى قطاع صناعة السجاد نفسه. فأنشأ برنامج اعتماد يحمل اسم روغمارك، إلى جانب حملة علاقات عامة تهدف إلى توعية المستهلكين الذين يسهمون من دون قصد في إدامة توازن غير عادل. ومن خلال ذلك، عزز ساتيارثي فاعليته بصفته مقدم خدمة اجتماعية بتبنيه الاستراتيجية غير المباشرة التي تميز الناشطين الاجتماعيين. فشراء سجادة تحمل ملصق روغمارك يضمن للمستهلكين أنها صنعت من دون استخدام عمالة الأطفال، وفي ظل شروط عمل عادلة. وقد رأى ساتيارثي أن توعية عدد كاف من المشترين المحتملين من شأنها أن تتيح فرصة حقيقية لإحداث تغيير شامل في صناعة السجاد بأسرها.
يمثل ابتكار ساتيارثي لملصق روغمارك مزيجاً فريداً من ريادة الأعمال والنشاط الاجتماعي؛ إذ كان الملصق في حد ذاته حلاً مبتكراً استلزم اتخاذ إجراءات مباشرة، لكنه في الوقت نفسه أداة لتوعية الآخرين والتأثير فيهم، بهدف نهائي يتمثل في ترسيخ توازن جديد أكثر عدلاً واستدامة في مجالي الإنتاج والسوق.
إن الجمع بين تقديم الخدمات الاجتماعية والنشاط الاجتماعي على نحو عملي وموجه يمكن أن يفضي أيضاً إلى نتائج تعادل تلك التي تحققها ريادة الأعمال الاجتماعية. فخذ مثلاً مؤسسة تقدم خدمة اجتماعية تدير مدرسة واحدة لفئة محدودة الموارد وتحقق نتائج باهرة لتلك المجموعة الصغيرة من الطلاب. إذا استخدمت المؤسسة هذه النتائج لإطلاق حركة ضغط اجتماعية تدعو إلى تقديم دعم حكومي واسع لتبني برامج مماثلة على نطاق أكبر، فسيكون مقدم الخدمة الاجتماعية قد أحدث تحولاً في التوازن العام وحقق أثراً يعادل أثر رائد الأعمال الاجتماعي.
تقدم مؤسسة مانشستر بيدويل كوربوريشن التي أسسها بيل ستريكلاند برنامجاً تعليمياً مرموقاً على مستوى الولايات المتحدة، يجمع بين الفنون والتدريب المهني في المناطق الحضرية الداخلية. وقد أطلقت المؤسسة المركز الوطني للفنون والتكنولوجيا بهدف تعميم نموذجها القائم في مدينة بيتسبرغ وتطبيقه بصورة منهجية في مدن أخرى. ويقود ستريكلاند حملة مناصرة تهدف إلى حشد الدعم الفيدرالي لتوسيع نطاق هذا النموذج. وحتى الآن، افتتحت 4 مراكز جديدة في الولايات المتحدة، وهناك عدد آخر قيد التجهيز. ومع وجود شبكة مستدامة من المراكز في مدن في بلاد مختلفة، يكون ستريكلاند قد نجح في إرساء حالة توازن جديدة. ولهذا السبب تحديداً، تستثمر مؤسسة سكول وغيرها من الجهات الداعمة في جهود ستريكلاند لتوسيع أثر مشروعه وتعزيز استدامته.
ما الجدوى من التمييز بين النماذج المختلفة، سواء كانت خالصة أم هجينة؟ إن امتلاك مثل هذه التعريفات الواضحة يزودنا بأدوات أفضل لتقييم الأنشطة الاجتماعية وتمييز أنواعها. ففهم الوسائل التي يحقق بها أي مشروع نفعه الاجتماعي وطبيعة هذا النفع الذي يسعى إليه، يتيح للجهات الداعمة، وفي مقدمتها مؤسسة سكول، التنبؤ بدرجة استدامة تلك المنافع ومدى اتساعها واستشراف الطرق التي يجدر بالمؤسسة اتباعها للتكيف مع المتغيرات بمرور الوقت ووضع تقدير أدق وأكثر موضوعية للإمكانات الريادية التي يمكن أن تسفر عنها مبادرتها.
ما هي أهمية هذا الموضوع؟
بعد أن ظل موضوع ريادة الأعمال مهملاً فترة طويلة من الزمن في أوساط خبراء الاقتصاد، الذين انصب اهتمامهم على النماذج السوقية القائمة على الأسعار لأنها أكثر قابلية للتحليل المعتمد على البيانات، استعاد هذا المجال في الأعوام الأخيرة مكانته في دائرة البحث والاهتمام. فاستناداً إلى الأسس التي وضعها شومبيتر، سعى ويليام باومول وعدد محدود من الباحثين إلى إعادة رائد الأعمال إلى موقعه المستحق في نظرية "الإنتاج والتوزيع"، مبرهنين في الوقت نفسه على الدور المحوري الذي تؤديه ريادة الأعمال في هذا الإطار. ووفقاً لما ذكره الرئيس التنفيذي لمؤسسة إيوينغ ماريون كوفمان، كارل شرام، فإن رواد الأعمال، "على الرغم من تجاهلهم أو إقصائهم صراحة من المشهد الاقتصادي"، يمثلون المكون الجوهري لنظام الاقتصاد الحر، وعنصراً لا غنى عنه في الاقتصادات السوقية.
نحن نخشى أن يهمل المفكرون البارزون مجال ريادة الأعمال الاجتماعية، كما نخشى أن يؤدي الاستخدام العشوائي لهذا المصطلح إلى تقويض أهميته وقيمته المحتملة بالنسبة للساعين إلى فهم كيفية تغير المجتمعات وتقدمها. فنحن نؤمن بأن أهمية ريادة الأعمال الاجتماعية في تقدم المجتمعات لا تقل عن أهمية ريادة الأعمال في تقدم الاقتصادات، وأنها تستحق قدراً من البحث والدراسة الجادة يفوق ما حظيت به حتى الآن.
من الواضح أن أمامنا الكثير مما ينبغي تعلمه وفهمه عن ريادة الأعمال الاجتماعية، بما فيه الأسباب التي تجعل دراستها لا تحظى بالاهتمام الكافي. ونحن نرى أن وضع تعريف أوضح لريادة الأعمال الاجتماعية سيسهم في تطوير هذا المجال، وينبغي فهم رائد الأعمال الاجتماعي على أنه الشخص الذي يوجه جهوده نحو حالة توازن غير محمودة لكنها مستقرة، تؤدي إلى إهمال فئة من البشر أو تهميشها أو معاناتها؛ ويوظف إلهامه وقدرته على الإبداع ومبادرته باتخاذ إجراءات مباشرة وجرأته وصلابته للتعامل مع هذا الواقع؛ ويسعى في النهاية إلى إرساء توازن جديد مستقر يضمن منفعة دائمة للفئة المستهدفة وللمجتمع بأسره.
يساعد هذا التعريف على التمييز بين ريادة الأعمال الاجتماعية وتقديم الخدمات الاجتماعية والنشاط الاجتماعي. وإن كان مقدمو الخدمات الاجتماعية والناشطون الاجتماعيون ورواد الأعمال الاجتماعيون كثيراً ما يستلهمون أساليبهم بعضهم من بعض ويطورون نماذج هجينة، فإننا نرى في ذلك ظاهرة لا تسبب التباساً بقدر ما تعكس احتراماً متبادلاً، بخلاف الاستخدام العشوائي لهذه المصطلحات. ونأمل أن تسهم هذه التصنيفات في توضيح القيمة المميزة التي يقدمها كل نهج من هذه المنهجيات للمجتمع، وأن تؤدي في نهاية المطاف إلى فهم أعمق وصنع قرارات أكثر استنارة لدى الساعين إلى تحقيق التغيير الاجتماعي الإيجابي.