كيف بالإمكان بناء ثقافة شاملة وعادلة حول العلم والمشاركة العلمية؟

تعزيز التكافؤ
shutterstock.com/Marko Aliaksandr
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تقدم منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي الجزء الثاني من سلسلة “كيف تؤسس العلوم الخيرية التكافؤ؟” والتي تحدثنا في جزئها الأول عن العمل الخيري العملي وكيف بإمكانه خلق حقبة جديدة من الشراكة مع أصحاب البشرة الملونة، وتعرفنا إلى نهج “العلوم المدنية”. في هذا الجزء سوف نستكمل الحديث عن نُهج العلوم المدنية وكيفية تعزيز التكافؤ والتعاون لخلق مشاركة تحول السلطة.

كيف نستثمر في شبكات العلاقات لتسريع اتباع استراتيجيات التواصل المبنية على المساواة؟

إن الأعمال الخيرية قادرة على أن تبذل جهداً أكبر للتعاون مع المجموعات التي تسعى جاهدةً إلى بناء ثقافة شاملة وعادلة حول العلم والمشاركة العلمية، وقادرة على التعلم منها ودعمها والتواصل معها، لا سيما الثقافة التي تركز على قيادة ذوي البشرة الملونة.

وفي دراسة أجرتها باحثتان في التواصل العلمي كاثرين كانفيلد وسَن شاين مينيزيس في عام 2020 بعنوان “حالة التواصل العلمي الشامل” (Inclusive Science Communication)، تدرس الأبحاث  والممارسات الحالية لتحقيق التواصل العلمي الشامل. ووضحت الباحثتان أن هذه المساعي تتسم بالتعمُّد من ناحية تمثيل الهويات المهمشة ودعمها، وبالتبادلية بغاية “معالجة أوجه عدم المساواة في الماضي والحاضر من خلال إقامة شراكات متكافئة”، وبالتفكُّر من خلال “إمعان التفكير المتواصل والنقدي والمنهجي”، مع التكرار وفق الحاجة لمعالجة أوجه عدم المساواة التي تنتج في أثناء التفاعلات. وجد الحراك المتنامي للتواصل العلمي الشامل مؤسسةً مستضيفةً في ندوة “ندوة التواصل العلمي الشامل” (Inclusive SciComm Symposium)، التي نظمتها “سَن شاين” ومعهد “ميتكالف” التابع لجامعة “رود آيلاند”، بدعم خيري.

ولاحظت الباحثتان في دراستهما أيضاً أن التواصل العلمي الشامل مرتبط “بالتركيز المشترك على العلاقات المتكافئة”. يجب أن تتجاوز هذه العلاقات مجرد تحقيق المنفعة المتبادلة وتسعى إلى تصحيح حالات التفاعل غير المتكافئ لبلوغ شراكات متكافئة فعلاً.

تتجلى أهمية بناء العلاقات في أوقات الأزمات بالذات. “بلانيت ماس كونيكت” هو مشروع بحثي تشاركي مجتمعي تموله “معاهد الصحة الوطنية” أو “إن آي آتش” (National Institutes of Health – NIH)، التي تعاونت مع المجتمعات في ماساتشوستس لحوالي 15 عاماً (أحد المؤلفين المشاركين في كتابة هذه المقالة هو الباحث الرئيسي في المشروع). طور المشروع في أوائل عام 2020 لوحة معلومات “كوفيد-19” للتعامل مع مخاوف المجتمع بشأن الجائحة. استناداً إلى مساهمات المجتمع، تتضمن لوحة المعلومات رسومات توضيحية ومعلومات متاحة باللغات الإنجليزية والإسبانية والبرتغالية. ومن خلال عمليات الإصغاء والتعاون المتكررة، تطور المشروع بتواتر شبه يومي ليعكس أولويات وخبرات المجتمع.

يضم مجلس المشروع الاستشاري ممثلين من المجتمعات التي يخدمها المشروع، في مدينتي بوسطن الكبرى ولورانس في ولاية ماساتشوستس، ولديهم سلطة التأثير على إعداد البرامج. وإضافةً إلى هيكليات المساءلة الرسمية، يضم المشروع موظفين من المجتمع وشبكة من العلاقات غير الرسمية التي دامت عشر سنوات. تعد لوحة معلومات “كوفيد-19” إحدى ثمار مشاركة تعاونية كهذه. يمثل تطورها السريع ونجاحها أهمية الجمع بين إتاحة المعلومات العلمية والصحية المتغيرة، والسلطة المؤسسية والتواصل، وذلك باستثمار الوقت والموارد لبناء علاقات موثوقة.

كيف نحسّن دعم مسؤولي توسيع الحدودليكونوا من عوامل التغيير؟

إن تحويل التركيز في العلوم والتواصل العلمي لتعزيز التكافؤ يتطلب أيضاً توسيع نطاق الأشخاص المخولين لتمثيل العلم. فوجود المبعوثون الموثوقون ضروري لتحقيق التواصل الفعال. والثقة بدورها لا تعتمد على الاعتقاد أن شخصاً ما مؤهل وماهر فحسب، بل الاعتقاد أنه يهتم بقيمك وأولوياتك ورفاهك. يعد وجود ما يسميه الباحثون بـ “مسؤولي توسيع الحدود” فعالاً جداً لبناء علاقات موثوقة وتواصل فعال أكثر، وهم الأشخاص والمؤسَّسات القادرون على التنقل بين مختلف المجتمعات والمجالات لإتاحة تبادل المعرفة الفعال، الذي يشمل مشاركة اللغة والقيم مع مجموعات متنوعة، والترجمة لهم.

في إطار المساعي التي سلطت الضوء عليها دراسة “حالة التواصل العلمي الشامل”، تسعى “هيئة جنوب إفريقيا للتقدم العلمي والتكنولوجي” (South African Agency for Science and Technology Advancement)، وجامعة “كوازولو ناتال” (University of KwaZulu-Natal) وغيرها، إلى نشر العلم بلغات السكان الأصليين لإفريقيا. تتبع “كاثرين” و”سَن شاين” أفعالاً مثل “إنهاء استعمار الكتابة العلمية”، تهدفان بذلك إلى التصدي لإقصاء لغات السكان الأصليين من الخطاب العلمي الذي كان يجري في حقبة الفصل العنصري. حتى اليوم، أتيح للطلاب في المدارس العامة في جنوب إفريقيا إجراء امتحانات العلوم إما باللغة الإنجليزية أو الأفريكانية فقط. في المؤسسة الصحفية “ذا أوبين نوتبوك” (The Open Notebook)، يروي الكاتب في المجال العلمي سيبوسيسو بييلا قصة الكتابة عن اكتشاف حفريات فصيلة جديدة من الديناصورات في لغته الأم الزولو. يتطلب ذلك تصور القصة بطريقة مختلفة. إذ يشرح بقوله: “نأمل أن لا يضطر الصحفيون من جنوب إفريقيا في يوم ما إلى المعاناة للعثور على كلمات للتحدث عن العلم بلغاتنا الأم. أن نتمكن من رواية القصص العلمية التي تهم الأفارقة بلغاتهم”.

بالنسبة للجمعيات الخيرية الملتزمة بتوطيد الروابط بين العلم والمجتمع، فإن تطبيق منظور التكافؤ لدعم مسؤولي توسيع الحدود ومضاعفة عددهم وتدريبهم أمر ضروري لبناء علاقات ومشاركة مستدامة. لكن المؤسسات والممولين غالباً لا يعترفون بمسؤولي توسيع الحدود. ففي الأوساط الأكاديمية، تشتد الضغوط على مسؤولي توسيع الحدود ذوي البشرة غير البيضاء من أعضاء هيئة التدريس، الذين تثقل كاهلهم دائماً “ضريبة الأقلية” المؤسسية، وهي العمل الإضافي الذي يكون غالباً غير مرئي والذي يتضمن الخدمة في عدد غير متكافئ من اللجان، والمشاركة في مجموعة واسعة من الأعمال الرامية إلى تحقيق التنوع، التي يقتصر عملهم عليها غالباً، ودعم الطلاب ذوي البشرة غير البيضاء بمعدلات أعلى من دعم نظرائهم البيض. كما أكد الباحثون داكنو البشرة، فإن العبء غير المتكافئ الملقَى على كاهل الباحثين ذوي البشرة غير البيضاء لأداء مهام توسيع الحدود والخدمة، إلى جانب قلة الاعتراف والمكافآت التي تقدمها المؤسسات مقابل هذا العمل، يعزز التمثيل غير الكافي لأصحاب البشرة غير البيضاء في المجال العلمي. يتفاقم عدم التكافؤ المنهجي عندما تتقاطع الهوية العرقية مع الهويات والتركيبات السكانية الأخرى غير الممثلة تمثيلاً كافياً، مثل النوع والجنس والخلفية الاجتماعية والاقتصادية.

في محاولة إيجاد حل لذلك، اقترحت تيريزا ويليامسون، الجراحة العصبية الزميلة في مركز جامعة “ديوك” الطبي، وزملاؤها قائمةً باستراتيجيات “إصلاح ضريبة الأقليات”، التي تضم تقديم تعويضات إضافية أو تمويل أبحاث أعضاء الهيئة التدريسية ذوي البشرة غير البيضاء مقابل عملهم في اللجنة والتواصل الخارجي، وتشجيع أعضاء الهيئة التدريسية البيض على بذل جهود أكبر رامية إلى تحقيق التنوع.

مع تحول المواقف لصالح تقديم دعم أكبر للمشاركة العامة التفاعلية في الأوساط الأكاديمية، أتيحت الفرصة للعمل الخيري لتركيز اهتمامه على المجتمعات التي عانت من الإقصاء والأذى في المؤسسات العلمية، وتوسيع دعمه للأشخاص القادرين على تأدية دور مسؤولي توسيع الحدود في هذه المجتمعات.

صُمِّم برنامج “زمالة العلوم المدنية” (Civic Science Fellows) ليكون الشرارة الأولى لهذا التغيير الثقافي ويوسعه على المدى البعيد. وبدعم من مؤسسة “العلوم في المجتمع” ومؤسسات خيرية أخرى، يقدم البرنامج الدعم المالي والتدريب لمسؤولي توسيع الحدود الذين يعملون في المؤسَّسات التي تمنح الأولوية لتوطيد الروابط بين العلم والمجتمع. تضم المؤسسات المضيفة لأول مجموعتين مجتمعات علمية ومؤسسات أكاديمية ومؤسسات إعلامية.

تركز العديد من مشاريع الزملاء على إيجاد موارد لمساعدة الشبكات على إدراج نهج التنوع والمساواة والشمول. تؤسس “إيفل غونتان”، زميلة العلوم المدنية التي تستضيفها “رابطة مراكز العلوم والتكنولوجيا” (Association of Science and Technology Centers)، أدوات تواصل تساعد المتاحف العلمية على المواءمة مع قيم المجتمع وأولوياته. تقول “إيفل”: “تكمن حكمة عظيمة في المجتمعات، ويتمثل جزء من دورنا بصفتنا زملاء في العلوم المدنية في إعلاء هذه الحكمة حتى يمكن مشاركتها مع شريحة أوسع من المجتمع”.

إضافةً إلى البحث عن رؤى حول نُهج ومبادئ العلوم المدنية من خلال عمل الزملاء، يسعى البرنامج إلى فهم أي أنواع الدعم تتيح التجارب الأكثر إيجابية للمجموعات المتنوعة من القادة. ومن خلال الحوار المستمر مع الزملاء، تتبع مؤسسة “العلم في المجتمع” والشركاء الآخرون الأنماط التي تؤدي إلى الحصول على نتائج إيجابية، بما في ذلك أهمية بناء مجتمع داعم، وإقامة علاقات تواصل مع شبكة أوسع، وجعل نهج التنوع والمساواة والشمول محور تصميم محتوى البرنامج، ومشاركة الدروس المستخلصة والحوارات.

كما أن العمل الخيري قادر على تعزيز مهمة مسؤولي توسيع الحدود في المؤسسات الوسيطة التي تؤدي المهام الديمقراطية الأساسية، مثل صحافة المصلحة العامة المحلية. أسس الصحفي المخضرم “غلين بوركينز” مؤسَّسة “كيو سيتي ميترو” (QCity Metro) في مدينة شارلوت بولاية نورث كارولاينا، بدعم من مؤسسات خيرية محلية ووطنية. تعد مؤسسة “كيو سيتي ميترو” إحدى أولى المؤسسات الإخبارية الرقمية البحتة في البلاد التي تخدم المجتمع المحلي داكن البشرة. في بداية الجائحة في مارس/آذار عام 2020، طرحت “كيو سيتي ميترو” سلسلة أسئلة في وسائل الإعلام حول سبب تركز النسبة الأكبر من حالات كوفيد-19 بين أفراد المجتمع داكن البشرة، وهذه فجوة بدأ مسؤولو الصحة المحليون في معالجتها في النهاية. أبلغ المنبر الإعلامي لاحقاً عن دعوات لإنشاء مواقع اختبار في مجتمعات أصحاب البشرة الداكنة، وفي النهاية أضافت مدينة شارلوت المزيد من وحدات الاختبار المتنقلة استجابةً لذلك.

كيف نتعاون في خلق مشاركة تحول السلطة؟

يجب أن يضمن التواصل العلمي الشامل والهادف قدرة المجتمعات التي كانت مستبعدة على صياغة القرارات التي تنبثق من أي حوار جديد. وهذا يتطلب الإصغاء الفعال إلى آراء الأشخاص الأكثر تضرراً من عدم التكافؤ، والأقل احتمالاً هو إتاحة صناعة القرارات المرتبطة بمجال العلوم. وكذلك يتطلب الإصغاء الذي تصفه “كيلي غولي”، مديرة المبادرة في مؤسسة “جيمس إيرفين فاونديشن” (James Irvine Foundation) والرئيسة المشاركة لمؤسسة “فَند فور شيرد إنسايت” (Fund for Shared Insight)، بأنه “الإصغاء بتمعن لدرجة تأثر المصغي بمن يصغي إليه”.

كما أظهر البحث الذي تدعمه مؤسسة “فَند فور شيرد إنسايت” وغيرها، إمكانية تحقيق المؤسَّسات نتائج أفضل عندما تصغي إلى الأشخاص الأكثر تضرراً بالمشاكل واحترامهم واعتبارهم خبراء في التجارب التي يعيشون فيها ومصممين مشاركين للمبادرات. تحُد رؤاهم من الجهود المبذولة حسنة النية المتدرجة من القمة إلى القاعدة التي قد تفشل أو تحدث ضرراً أكبر.

في أواخر الثمانينيات، انتشر وباء فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز في الولايات المتحدة لسنوات وحصد أرواح عشرات آلاف من الأميركيين. لكن الحكومة الفيدرالية لم تخصص سوى ميزانية بحثية ضئيلة لدراسة هذا المرض، ولم تسع سوى شركة أدوية واحدة فقط إلى إيجاد علاج. كان نقص الدعم نتيجة تأثير المرض على الفئات الموصومة أكثر من غيرها، ولا سيما الفئات المهمشة.

رداً على فشل الحكومة والمؤسسات الطبية في تقديم الدعم، أجرت مجموعة العمل السياسي “التحالف المعني بالإيدز لإطلاق العنان للقوة” (ACT UP) أبحاثها الخاصة واحتجت – في الشوارع، في مكاتب السياسيين، في اجتماعات شركات الأدوية، و أمام مقر معاهد الصحة الوطنية وإدارة الغذاء والدواء – للضغط على المجتمع العلمي والحكومة لاتخاذ الإجراءات اللازمة. أحدث نشاط تلك المجموعة، الذي كان يجري ضمن المؤسسات وخارجها في الوقت ذاته، اكتشافاً دوائياً ثورياً وأتاح الحصول عليه، كما ساهم في توسيع التجارب والتصنيفات الطبية لتشمل التركيبات السكانية الأخرى، خاصة النساء والأشخاص الذين ينتمون إلى أعراق مختلفة، الذين استبعدوا من العمليات الإجرائية العلمية والتنظيمية وأدوا دوراً في الأنشطة المتعلقة بالإيدز كان يُغض الطرف عنه في معظم الأحيان.

كما حفزت الجهود المجتمعية على تحسين التواصل الهادف إلى تبديد مخاوف الأشخاص المتأثرين بالفيروس، التي شملت دعم الإجراءات الوقائية والمساعدة في الإسكان والتأمين والرعاية. تقود هذه المساعي المتأصلة في الأصوات التي حولت تركيز العلم ومنهجه إلى تقدم هائل في مكافحة مرض أصبح جائحة عالمية استمرت لعقود.

تتمثل تطلعات العلوم المدنية في أن تُأخذ وجهات النظر الناس ورفاههم على محمل الجد في العلم والسياسة العامة والعمل الخيري، وتدرج بأسلوب فعال في حل المشكلات وصناعة القرار. نحتاج إلى أن تكون هذه المشاركة مستمرة، وأن تكون موجودة قبل وقوع الأزمة، لأننا سنواجه موجات من التحديات العالمية المعقدة في المستقبل، التي ترتبط فيها المشاكل والحلول بالعلم والتكنولوجيا.

يساهم العمل الخيري في ذلك بزيادة دعمه للمنح الدراسية والممارسة لدراسة قضايا نهج التنوع والمساواة والشمول واعتبارها قضايا علمية تحويلية تتيح للأدلة إثراء الممارسة في مختلف المجالات العلمية والأعمال الخيرية. يمكننا دعم المجتمعات التي تفتقر الوصول إلى مناهل العلم للاستفادة من الخبرات في مختلف التخصصات في سعيها لبناء مستقبل أفضل. ويمكننا التواصل مع الأشخاص الذين يطورون العلوم المدنية التي تركز على المساواة بوسائل لا تقوّي تلك المساعي الفردية فحسب، بل تخلق أيضاً أمراً أكبر من مجموع الأجزاء.

اقرأ الجزء الثالث من المقال: كيف يمكن دعم التغيير المنهجي لتحقيق المساواة العرقية؟

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.