في ظل الجائحة العالمية، تكتشف المؤسسات الخيرية ذاتها في الأسواق الناشئة وتتحدى الأفكار والمفاهيم التاريخية.
أشار عالم الاجتماع إرفينغ جوفمان أن أوقات الزعزعة هي الأمثل لفهم التفاعل الاجتماعي. وقد ينطبق هذا أيضاً على العمل الخيري الذي لا شك في أنه يشهد زعزعة حالياً. إن طبيعة جائحة "كوفيد-19" طويلة الأمد التي يسفر عنها فتكاً متزايداً جعلت كبرى المؤسسات في شمال الكرة الأرضية تحوّل حصة كبيرة من تمويلها نحو القطاع الصحي لدعم الإغاثة من الجائحة، حتى المؤسسات التي لم تكن تركز أساساً على القضايا الصحية.
المؤسسات الخيرية
سلّط هذا التحول الضوء على ديناميكية القوة غير المتكافئة عبر التاريخ من عدة جوانب، بين المؤسسات الخيرية في جنوب الكرة الأرضية (التي تشمل المؤسسات غير الحكومية والمؤسسات الاجتماعية ومقدّمي المنح ومتلقِّيها) والمؤسسات الغنية بالموارد في شمال الكرة الأرضية، فهي لم تبرز أسس الرقابة الضخمة التي تُفرَض على تخصيص التمويل فحسب، بل أزالت الستار الذي كان يُخفي سابقاً الإحباط الشديد من ممارَسات تقديم المنح المطبَّقة.
ومع ذلك، وجدت العديد من الجهات المتلقية للمنح أصواتها من خلال هذا التحول، فقد طالبوا بتسريع صرف المنح وإتاحة الاستفادة من التمويل في الجوانب التي يعتبرونها هم أكثر إلحاحاً. أما المؤسسات فقد خرجت بدورها خروجاً ملحوظاً عن ممارَسات توزيع المنح التقليدية التي نشأت في الشمال؛ حيث يضطر متلقو المنح إلى تكبّد عناء الخوض في عمليات التقديم المطوّلة لتلقي المنح، والانتظار لشهور للحصول عليها، واستخدامها بطرق محددة، وبدلاً من ذلك استجابت المؤسسات للاحتياجات الملحّة للعاملين الميدانيين في الخطوط الأمامية الموجودين في جنوب الكرة الأرضية.
في دراسة حديثة لـ 24 مؤسسة خيرية مقرها في جنوب الكرة الأرضية أو تعمل هناك – وخاصة الشرق الأوسط وإفريقيا وجنوب شرق آسيا – أجرينا مقابلات مع أكثر من 40 شخص من مقدّمي المنح ومتلقيها، وسألناهم عمّا إذا كانت الجائحة قد غيّرت عملهم، وكيف غيرته، ثم جمعنا الأفكار التي استخلصناها من هذه المقابلات مع كميات ضخمة من البيانات الثانوية التي تتضمّن تقارير عن هذا القطاع، وشروحات من الخبراء في هذا المجال، وبيانات بحثية حول تقديم المنح، وحلقات دراسية عبر الإنترنت حوله. تشير النتائج التي توصلنا إليها بوضوح إلى وجود رغبة في نصف الكرة الجنوبي في مواصلة إعادة ضبط الممارسات التقليدية في هذا القطاع بشكل جذري، وأيضاً رغبة في اتخاذ القرارات بوتيرة أسرع بحيث تلبّي الاحتياجات المحددة محلياً، وتقليل القيود المفروضة على التمويل، وجعل شروط تقديم التقارير أكثر فعالية. كما أشار الممارِسون في دول الجنوب إلى أن إجراء هذه التغييرات وإدامتها يساهم في ملء الفراغات المؤسسية التي ما زالت تعيق توزيع المنْح الفعال للأعمال الخيرية في الأسواق الناشئة، ولاسيما أنهم أبدوا إقبالاً متجدداً للتعاون بين بلدان الجنوب بهدف بناء شبكات أقران قوية، وتبادل المعرفة، وتأسيس مبادرات تمويل تعاوني.
نوضّح في هذه المقالة تلك الديناميكية المتغيرة، ونبيّن كيف تسهم بعض التدخلات المحددة في إضفاء الطابع المؤسسي عليها، وبالتالي تمكين جنوب الكرة الأرضية.
تحول مركز المعرفة والقوة
نظراً لأن المؤسسات في الجزء الشمالي عادة ما تكون هي المسؤولة عن التمويل، تترافق المنح مع العديد من الشروط والمعايير التي يحددها مقدّمو المنح المنفصلين فيزيائياً ومؤسسياً عن متلقي المنح والأشخاص الذين يخدمونهم، وهذا يؤدي إلى عدة أوجه من العجز.
على سبيل المثال، على الرغم من تحلّي العاملين في الخطوط الأمامية في النصف الجنوبي بالمعرفة القيّمة السياقية والمحلية وعلى اعتبار أنهم على دراية بالأوضاع السائدة، فهم ملزمون بتنفيذ القرارات التي اتُخذت واعتُمدت في الشمال. اشتكى بعض متلقي المنح الذين تحدثنا معهم من مقدِّمي المنح الذين يتمركزون في أسواق بعيدة وقليلاً ما يكون لهم حضور ميداني، بسبب عدم إصغائهم إلى المجتمعات المحتاجة على أرض الواقع، ناهيك بالتعاون معهم على إيجاد الحلول. أدى هذا القصور المستمر في المساهمات المجدية من المؤسسات في الجنوب على مر السنين، إلى إضعاف قدرة المؤسسات على ابتكار تدخلات أكثر فاعلية، وبالتالي تقويض قدرتها على تحقيق تأثير مستدام أو الدعوة للحصول على التمويل الأساسي الذي يحتاجونه بشدة.
أعلمتنا شاهين قاسم لاخا، مديرة الشراكات الاستراتيجية لمؤسسة "كونراد إن هيلتون فاونديشن" (Conrad N Hilton Foundation) الواقعة في الولايات المتحدة، أن المؤسسات في الجزء الشمالي يمكن أن تتعلم من الممارسين في الجزء الجنوبي، لكن تحقيق ذلك يتطلب "تبدلاً في تقدير الاختلاف الكبير لمؤسسات الأثر الاجتماعي في بلدان النصف الجنوبي، وكيف يمكننا دعمهم حسب تصوّرهم بدلاً من تصورنا نحن". على سبيل المثال، غالباً ما تستعين المؤسسات الخيرية في جنوب الكرة الأرضية التي لا تمتلك تقنيات أو قواعد بيانات متقدّمة بمعرفتها بالمجتمع المحلي – المبنية على سنوات من المشارَكة المجتمعية والمنتديات المحلية – لتحديد المواضع الأكثر احتياجاً. يعدّ غياب البيانات الإلكترونية عائقاً عند التنقل بين العمليات التقليدية للتقديم للمنح؛ لكن عندما نتحدّث عن تحديد مواضع تركيز الإغاثة من الجائحة، فإن الرؤية المحلية لا تقدر بثمن،
فمثلاً أشارت المؤسسة غير الحكومية "سيف ذا تشيلدرين" (Save the Children)، أنه عندما كانت بلدان النصف الشمالي تركّز على تأمين أجهزة التنفس الصناعي، كانت الحاجة الماسة الفعلية إلى إمدادات الأكسجين في المناطق "التي يتفشّى فيها سوء التغذية المزمن والالتهاب الرئوي عند الأطفال والملاريا" مثل شمال غرب نيجيريا؛ حيث تعمل مع المؤسسات المحلية لضمان ارتباط مساعيها جيداً برؤى الممارِسين المحليين، وقد أدت الزعزعة التي سببتها الجائحة إلى جعل المعرفة المحلية أساسية لتحقيق تدخلات فعالة وتخصيص الأموال في هذا المجال، لذا نلحظ الآن إقراراً واضحاً، وإن كان ضمنياً، من الشمال والجنوب بأن القرارات التشغيلية والتمويلية تقتضي وجود مساهمات أكبر من متلقي المنح في حالات الأسواق الناشئة المعقدة.
تعاني المؤسسات الخيرية في جنوب الكرة الأرضية كذلك من القضايا ذاتها التي يواجهها متلقّو المنح في المناطق الجغرافية الأخرى مثل موعد وتكاليف المعاملات المرتبطة مع الموافقة على المنح وصرفها، وعمليات المطالبة بإعداد التقارير، كما أنهم يواجهون تحيزاً مبنياً على مقاييس معينة من طرف المانحين الشماليين. فعلى حين أن الغاية قد تكون تعزيز الشفافية والمساءلة، لكن قد يؤدي التركيز الشديد على المقاييس من دون قصد إلى منح الأولوية للتدابير التي يمكن قياسها وليس للتدابير المهمة فعلاً. تحدث العديد من الأشخاص الذين أجرينا معهم مقابلات عن "اتخاذ المؤسسات منحى خاطئاً كلياً" عند وصف التحول من القصور التاريخي عن قياس التأثير إلى الهوس الحالي بالنتائج القابلة للقياس ومؤشرات الأداء الرئيسية.
إن قطاعي الصحة والتعليم خير مثال على ذلك. حيث يتلقى كلاهما تمويلاً أكبر بكثير من مجال بناء القدرات على مستوى القطاع مثلاً، وذلك يرجع جزئياً إلى أن قياس عدد الأطفال المسجلين في المدارس أو عدد الأفراد الذين تلقوا لقاح شلل الأطفال أسهل من تقييم التطور المؤسسي. فمثلاً تسهم شبكات التمويل المهني في تحسين النتائج المحققة اجتماعياً من خلال تقديم التدريب ومشاركة المعرفة وخلق فرص التمويل المشترك، ومع ذلك فإن كل هذه الأنشطة لا يناسب وضعها ضمن إطار منطقي عددي بسيط. ونتيجة لذلك، على الرغم من "الإقبال الظاهري على المجازفة" للأعمال الخيرية، يتدفق الكثير من رأس المال الخيري إلى المجالات المعروفة ذاتها، بدلاً من ملء الثغرات المؤسسية التي فيها مجازفة أكبر – بما فيها بناء القدرات.
حدّثتنا الرئيسة التنفيذية لمؤسسة "المجتمع المدني في غرب إفريقيا" (West Africa Civil Society Institute) نانا أفاديزنو، أن انتشار فيروس "كوفيد-19" كشف نقاط الضعف الرئيسية الحالية في العمل الخيري، التي فشلت في "تعزيز القدرات المؤسسية في جنوب الكرة الأرضية". حيث دفعت الضرورات العاجلة العديد من مقدّمي المنح إلى تجاوز الشروط، وتسريع صرف المنح، وتسهيل الحصول عليها. فقد قال أحد مقدّمي المنح الذين أجرينا معهم مقابلةً ساخراً: أصبحت الآن استمارة طلب المنحة التي تقدمها المؤسسة في منتهى البساطة لدرجة أنه "لا يمكن تسميتها استمارة بعد الآن"، كما سعى العديد من المؤسسات للحصول على تمويل إضافي لإنشاء صناديق تمويل الطوارئ. وفي العديد من الحالات، سمح مقدمو المنح بتوجيه التزامات المنح الحالية إلى نفقات الرواتب وبالتالي تجنب وجود فوائض مالية زائدة عن الحاجة، وهو تحد واضح للاعتقاد الراسخ بأن الأثر الحقيقي يعتمد على المنح الموجهة مباشرة إلى البرامج وليس إلى النفقات العامة. وبهذه الطريقة تم تلبية العديد من طلبات المنح الموجهة منذ مدة طويلة للمؤسسات الخيرية في جنوب الكرة الأرضية.
إحساس جديد بالتمكين
إلى جانب هذه التغييرات، حدثنا الأشخاص الذين أجرينا معهم مقابلات أنه على الرغم من الصعوبات فقد نتج عن انتشار فيروس "كوفيد-19" إحساس جديد بالتضامن المجتمعي. كانت استجابة الحكومة محدودة في العديد من مناطق جنوب الكرة الأرضية، وحشدت المؤسسات الخيرية لملء فجوات مهمة في الخدمة العامة. كما شجع الوباء على زيادة المشاركة بين بلدان الجنوب، وقد أدى الاعتماد على شبكات النظراء، وتبادل المعرفة المحلية، واعتماد نُهج أشمل، وبناء مجتمعات تتصف بقدر أكبر من اللامركزية، إلى تمكين المؤسسات في النصف الجنوبي وزيادة تأثير عملها.
على سبيل المثال؛ أخبرتنا نائلة فاروقي الرئيسة التنفيذية لمنتدى المؤسسات العربية، وهي شبكة مهنية لممارسي الأعمال الخيرية ما يلي:
يؤسفني قول ذلك، لكن الأزمة منحتنا معنى حقيقياً لهدفنا بطريقة ما. حتى أن الحاجة إلى مؤسستنا زادت أكثر من أي وقت مضى لأننا على صلة بتلك الشبكة، ولدينا قدرة حقيقة على المساهمة في توحيد الاستراتيجيات المختلفة التي يتبعها الناس لتعزيز القطاع والارتقاء به. إذ أننا نستطيع مشاركة المعلومات عبر البلاد والمؤسسات مع أولئك الذين لن تتاح لهم فرصة لقاء بعضهم في المستقبل القريب.
عندما اضطرت الكثير من المؤسسات الخيرية في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية إلى استحضار مواردها لتلبية الاحتياجات الطبية العاجلة؛ أدركت أيضاً أن بمقدورها قيادة التدخلات قيادة فاعلة. لنأخذ مؤسَّسة "أديسو" (Adeso) الصومالية مثالاً، وهي مؤسسة غير ربحية مسجلة في كينيا، حققت استفادة كبيرة من شبكة متطوعين لتقديم المشورة الطبية في أثناء الأزمة. تكاتف متطوعون صوماليون من جميع أنحاء العالم، ومن ضمنهم متخصصون صوماليون في الصحة العامة موجودون في كندا والولايات المتحدة، لتقديم الطبابة عن بعد، ودعم الأطباء المحليين. حيث حدثنا الرئيس التنفيذي دجان علي:
هذا المسعى، وهذا العمل التطوعي – وهو عملياً يضم صوماليين يعتمدون على صوماليين مثلهم – [جعلني أدرك أنه ينبغي لنا] أن نطمح إلى حشد المؤسسات غير الحكومية الأخرى والتعاون معها لندرك الكم الهائل من الموارد والقوة الكامنة فينا. فليس علينا أن نكون دائماً هؤلاء المتسولين المحترفين الذين ينتظرون عطايا المتبرعين. كان ذلك بالنسبة لي أحد أكثر الآثار الإيجابية … فلكل مشكلة جانب مشرق، وأظن أن ذلك كان الجانب المشرق لأزمة انتشار فيروس "كوفيد-19".
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.