اشترك
الوضع المظلم
الوضع النهاري

الاستمرار بالحساب الحالي

كيف يمكننا مواجهة الفقر؟

إعداد : إريك ميد

 

تم النشر 20 يونيو 2022

شارك
شارك

كم نحن حريصون على حل مشاكلنا! وكم نبحث بإصرار عن إجابة أو منفذ أو علاج! نحن لا ننظر في المشكلة بحد ذاتها، لكننا بقلق نلتمس إجابة وهي دائماً ما تكون متوقعة. وبالرغم من أن المشكلة تنشأ وحدها، فنحن نحاول إيجاد إجابة بعيداً عنها. فالبحث عن الإجابة يعني تجنب المشكلة… ويكمن الحل بعدم الانفصال عنها، حيث إن الإجابة جزء من المشكلة نفسها، وليست منفصلة عنها – تعليقات على الحياة من دفاتر جدو كريشنامورتي.

لدينا جميعاً تجربة مع الفقر؛ فهو يمثل للبعض منا ذكرى قريبة، بينما يُشكل الوضع الراهن للبعض الآخر. قد لا نمتلك مكاناً لنسكنه أو طعاماً لنأكله أو مالاً لنشتري به ما نحتاج إليه. أو قد نواجه تداعيات افتقارنا لهذه الأشياء في مراحل سابقة من حياتنا. أو أننا قد نكون فقراء بالمعنى المجازي، حيث إننا لا نمتلك الموارد أو الفرص التي يحصل عليها الآخرون بسهولة. وفي أي حال من الأحوال، من المرجح أننا لا نحتاج إلى البحث طويلاً في تاريخ عوائلنا لنجد أسلافاً قد عانوا الفقر المدقع والمطلق.

لكن بالنسبة لمعظمنا، على المستوى العملي، قد تكون أكثر تجربة ملموسة نمتلكها مع الفقر هي تعاملنا مع شخص فقير وجهاً لوجه، مثلاً عندما نتوقف عند إشارة مرور، ويقترب منا رجل يحمل لافتة من الورق المقوى ويطلب المال، أو عندما تقترب منا امرأة في أثناء مغادرتنا لمتجر بقالة وتطلب منا بعض الفكّة لتتمكن من شراء الطعام لأطفالها.

في مثل هذه اللحظات، نشعر أن ثقل المعاناة البشرية بأكملها قد أُلقي على كاهلنا، نشعر بفيض من المشاعر، حيث يملؤنا الغضب بسبب الفقر وانعدام العدالة، والغضب لحال الشخص الذي يعاني، والضيق لأنه طلب منا المال، أو بالذنب لأننا لم نمنحه ما يكفي. ومن الصعب التعايش مع هذه المشاعر لفترة طويلة.

لذا نحاول تحليل الموقف بشكل منطقي؛ ربما يكون الرجل الذي يحمل اللافتة مدمناً على المشروبات الكحولية، أو مصاباً بمرض عقلي، أو محارباً قديماً يعاني اضطراب ما بعد الصدمة. وقد تكون المرأة أرملة، أو مهاجرة غير شرعية، أو جزءاً من عملية احتيال تستخدم التسوّل كذريعة لها. وإذا كانت نتائج تحليلنا المنطقي تُحرّض داخلنا الرغبة بالمساعدة -هذا إذا اخترنا تفسيراً يصور هذا الشخص بمنحى إيجابي- فنبدأ حينها بالتساؤل عمّا يمكننا فعله لتقديم المساعدة. ربما نستطيع تقديم بعض المال، أو الاتصال بدائرة الخدمات الاجتماعية، أو إعادتهم إلى عائلاتهم.

لكننا بعد ذلك نتساءل عن الأثر الذي تُحدثه أفعالنا حقاً. نسأل أنفسنا، هل كان الأمر يستحق العناء؟ وما الفرق الذي يُمكن أن نصنعه حقاً؟ إن تقييمنا للأثر الذي نتسبب به يغذي الأفعال التي نختار القيام بها في نهاية المطاف -سواء إذا اخترنا التبرع بالمال أو تقديم مساعدة أكثر موضوعية أو غض النظر ببساطة، وفي هذه الحالة يساعدنا التقييم المنخفض لتأثير أفعالنا على تسويغ اتخاذنا لهذا القرار.

هذه هي الطريقة التي نستجيب بها كمجتمع للفقر عادة. فنحن نحدد الأسباب ونقترح الحلول ونقيّم أثرها. وكلّ من هذه الاستجابات تبدو منطقية ومناسبة تماماً، إلا أن كلاً منها تشبه الإدمان الذي يساعدنا على تجنّب التجربة العاطفية التي يثيرها الفقر داخلنا، نتيجة لذلك، تفوتنا الخبرة والمعرفة التي كنا سنكتسبها إذا اختبرنا تلك التجربة بالكامل.

كبشر، عندما نواجه أي شيء لا نحبه، فإن استجابتنا الأولى غالباً ما تكون البحث عن تفسير منطقي. لماذا هو هنا؟ كيف حدث هذا؟ من فعل هذا؟ لماذا؟ وفي حالة الفقر، نرغب في معرفة أسبابه. من أين يبدأ الفقر؟

ترون في الأعلى لائحة بأسباب الفقر التي تظهر على موقع "ويكيبيديا". وإنها للائحة مدهشة؛ فهي تتضمن الحروب والأمراض والديكتاتورية والكوارث والإفراط في الاعتماد على الزراعة وقلة التصنيع والعنف المنزلي والحمل لدى المراهقين. لكن هل هذه هي أسباب الفقر حقاً؟ أهذه الأسباب هي ما تجعل الفقر موجوداً؟

بالطبع لا، فكل هذه الأشياء -من ضمنها الفقر- كانت موجودة بشكل أو بآخر منذ بداية الوجود البشري. فالفقر هو الحالة الأولية للجنس البشري، إنه لا يحتاج إلى سبب. حيث انطلقت التجربة البشرية من حالة الفقر وحتى وقت قريب نسبياً، كانت قضية يائسة إلى حد ما. والحرب والأمراض والتمييز العرقي وغيرها من "الأسباب" المذكورة سابقاً ليست إلا تداعيات أخرى لهذا اليأس، الذي هو الأساس الذي تنبثق منه البشرية.

إن الفقر ليس شيئاً جديداً دخل إلى الوجود الإنساني المُبهج لأسباب مختلفة متنوعة ويجب علينا إقصاؤه مجدداً. كما لا يمكننا تحديد أسبابه ومعالجتها واحدة تلو الأخرى، ومشاهدة الفقر يختفي. نحن نبحث عن الأسباب فقط لأننا نتوق إلى إيجاد تفسير منطقي سيساعدنا على كبت المشاعر التي يُحركها الفقر داخلنا، وننظر إلى الأسباب كي يبدو لنا الفقر "منطقياً". نريد تحجيم الفقر، لنجعله جزءاً من النظام حولنا بدلاً من أن يكون جزءاً منا.

التعلّق بالحلول

نقوم بعدها بوضع حلول للفقر والقيام بإجراءات لتنفيذ هذه الحلول. وبذلك لا نضطر إلى مواجهة تجربتنا العاطفية مع الفقر لأننا بالفعل نفعل ما نستطيع فعله للتخلص منه. ولكن من أين تنشأ هذه الحلول؟

في كتابه "طبيعة الفقر الجماعي"، كتب جون كينيث غالبريث أن ما يعتبره الناس سبباً للفقر هو دائماً افتقارهم هم إلى ما يمكنهم تقديمه إلى الفقراء. نريد جميعاً أن نكون ذوي قيمة، لذلك نصوغ رؤية للعالم نضع فيها الحلول للمشاكل التي نلاحظها. ويشير غالبريت إلى أن النماذج الغربية الأولى من التطور الاقتصادي صُممت لتقديم المساعدة التقنية والمالية إلى البلدان الفقيرة، نظراً لأن هذا ما كان يمكن للغرب تقديمه.

بشكل مشابه، الحلول المقترحة اليوم هي أفكار وسياسات وتقنيات تنتشر بشكل متزايد في الغرب. فالابتكارات المالية (مثل التمويل المتناهي الصغر) كانت ذات شعبية كبيرة. والشمول الاجتماعي رائج أيضاً نظراً لأن البلدان الغربية تسنّ التشريعات لمواجهة الفصل والتمييز. وكما نحمي حقوق الأقليات في الغرب، فلا بد أن البلدان النامية تحتاج إلى فعل ذلك أيضاً. وتصبح تنمية اليافعين مهمة مع وضع البلدان الغربية آمالها في أجيال الألفية لديها.

كل حل من هذه الحلول الهادفة ليس سيئاً بحد ذاته. وفي الواقع، قد تكون جميعها أوجُهاً لعالم لا يوجد فيه الفقر، تماماً كما أن ما يسمى بأسباب الفقر هي أوجُهٌ من عالم يوجد فيه. وبعض أوجه هذا العالم الخالي من الفقر نمتلكها بالفعل، وبالتالي نحن نعتبرها حلولاً. لكن هناك العديد من الأوجه التي لا نمتلكها بعد، ولن نعثر عليها إلا إذا كنا مستعدين لخوض التجربة العاطفية التي يضعنا الفقر داخلها.

التعلّق بالتأثير

إن اهتمام المانحين بإحداث تأثير ملموس بلغ ذروته في السنوات الأخيرة. ويهدئنا هذا الإدمان من خلال ترسيخ الفقر على أنه شيء "في الخارج" يمكننا "من هنا" تغييره، من خلال إرضائنا بالنجاحات الموثقة وخلق الأعذار عندما نقيّم أن جهودنا لن تكون ذات فائدة تذكر.

لماذا نشعر أننا مجبرون على إحداث تأثير؟ فالفقر هو الحالة الأولية للجنس البشري، وهو موجود منذ نشأة البشرية. وأنا لا أقلل من شأن التحسينات المتزايدة المتوافرة، ولكن نظراً للدور الأساسي الذي يلعبه الفقر في المسيرة البشرية فهل من المرجح أن استجاباتنا الهادفة له ستُحدث تأثيراً قابلاً للقياس على مدار عدة سنوات؟

لا أعتقد ذلك، بل أظن أننا نقيم تأثيرنا بشكل أساسي لدعم ادعاءاتنا الأنانية بالكفاءة، ولنقوم بتحجيم الفقر وطمأنة أنفسنا أننا نصنع فرقاً في العالم -أن حياتنا لها معنى. وهذا الإحساس بالمعنى يعتمد على التكوين الزمني؛ فنحن نجعل الغد أفضل من اليوم. ولكن هل هناك استجابة متاحة للفقر تكون هادفة بمعزل عن البنية الزمنية؟

مواجهة الفقر في الحاضر

في الوقت الحالي، يصبح لحياتنا معنى عندما نكون حاضرين تماماً لمن يعانون من حولنا. يعرّف المدرب التنفيذي دوغ سيلسبي الحضور بأنه "حالة من الوعي، في الوقت الحالي، تتميز بالتجربة المحسوسة للانفصال عن الزمن والترابط والحقيقة الأكبر". يسمح الحضور للشخص الآخر بالتعبير عن المشاعر التي طال أمدها والتخلص منها والتي ربما أسهمت في تكرار الكوارث في حياته، ويتيح له تخيل طريقة جديدة جذرياً لوجوده في العالم. عندها فقط يمكنهم الاستفادة الكاملة من الموارد والفرص التي قد تكون موجودة بالفعل من حولهم.

ولكن لكي نكون حاضرين تماماً من أجل الفقراء، يجب علينا أولاً أن نكون حاضرين تماماً مع أنفسنا ومشاعرنا. إن كلمة "مشاعر" باللغة الإنجليزية مشتقة من الجذر اللاتيني الذي يحمل معنى "الخروج من". فمن داخل الفضاء العاطفي الذي يخلقه الفقر فينا سنجد طريقنا للخروج منه في النهاية. وعلى العكس، فالجذر اللاتيني لكلمة "التعلق" يعني "التسليم" أو "الاستسلام". نحن نستسلم إلى تعلقنا بشيء ما على وجه التحديد لنتجنب أن نكون حاضرين.

  • تعلقنا بالأسباب يجعلنا منفصلين بدلاً من متصلين، ما يجعل الفقر جزءاً من نظام موجود في الخارج وليس جزءاً منا هنا.
  • تعلقنا بالحلول يضعنا في إطار زمني ذهنياً، حيث المستقبل أفضل من الحاضر.
  • تعلقنا بالتأثير يتجاهل الحقيقة الكبرى عبر الاحتفاء بإنجازاتنا الفردية.

إذا حررنا أنفسنا من هذا التعلق فقد نجد حل الفقر الذي يختبئ ضمن مشكلة الفقر بحد ذاتها. قد نجد أن المشكلة هي، كما يقترح كريشنامورتي، تخلق نفسها بنفسها؛ قد نرى أن العالم لا يعاني أي مشاكل، بل الأشخاص يعانون المشاكل لأنهم يرغبون في أن يكون العالم على غير ما هو عليه. دعونا نتقبل العالم كما هو ونبدأ نقاشاً جديداً حول العيش هنا. ثم دعونا "نخرج" من هنا.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!