كيف يمكن للمؤسسات توفير نظام غذائي يخدم العالم؟

الغذاء العالمي
Shutterstock.com/Arseni Shapurau
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يعدّ إنشاء نظام الغذاء العالمي القادر على توفير الغذاء لعدد أكبر من السكان في مواجهة تغير المناخ، من دون تكرار أضرار النظام الغذائي الصناعي، هو أحد التحديات الكبرى في وقتنا هذا. إذ لا يحصل واحد من كل تسعة أشخاص في جميع أنحاء العالم على الطعام المغذي والصحي، وستتفاقم هذه الأزمة مع اقتراب عدد سكان العالم من ثماني مليارات نسمة وعند مواجهة المزيد من القيود على الموارد. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، يفتقر 17.6 مليون شخص إلى الطعام الصحي.

نسمع الكثير عن التكنولوجيا الزراعية (agtech)، وهي التكنولوجيا التي تركز على تنمية المزيد من المحاصيل بموارد أقل، كطريقة لحل مشكلات إمدادات نظام الغذاء العالمي. لكن التكنولوجيا ليست السبيل الوحيد لقطاع زراعي يمكنه تلبية احتياجاتنا المتطورة. إذ يتبنى صغار المزارعين وشركات الأغذية على نطاق الولايات المتحدة نهجاً قائماً على المكان والمساواة لحل المشكلة، ويعملون على دعم النظم الغذائية المحلية بطريقة تمنح المجتمعات دوراً أكبر في تخصيص الموارد، إلى جانب خلق وظائف جيدة وإمكانية الإشراف على الأراضي.

تمويل نظام الغذاء العالمي

إن تمويل هذه المشاريع ضروري لبناء نظام غذائي عالمي مرن. وكلمة «صغير» في هذا القطاع لها دلالة كبيرة، فالمزارعون الصغار يطعمون 70% من سكان العالم ومسؤولون عن 20% من حجم المبيعات الزراعية في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على الوصول إلى الأراضي الزراعية ورأس المال بتكلفة ميسورة يقلص من عدد المزارع والمزارعين الجدد، وهي حقيقة مقلقة بالنظر إلى أن متوسط عمر المزارع الأميركي هو 58 عاماً.

لن يتدخل المستثمرون الذين يمّولون الحلول التقنية لحل هذه المشكلة، فهذا ليس ما أعدوا نفسهم من أجله. نحن بحاجة إلى نهج جديد لتمويل النظام الغذائي، نهج تتخطى فيه المؤسسات التي تتمتع برأسمال مرن وصبور بعض الشيء، وهو ما تحتاجه تلك المشاريع، خطط تقديم المنح وتبدأ في الاستثمار.

لماذا لا تنجح نهج الاستثمار الحالية؟

لا تعتبر أساليب الاستثمار الحالية في الزراعة في الولايات المتحدة ناجحة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنها لا تستهدف أجزاء النظام الغذائي التي تحتاج إلى أكبر قدر من المساعدة، والتي ستقدم بدوها الكثير من الفائدة؛ لا سيما المزارع والشركات الغذائية التي تنتج محاصيل محلية متنوعة بيولوجياً للمستهلكين المحليين. وجدت دراسة أجرتها مبادرة تمويل أصحاب الملكيات الصغيرة (Initiative for Smallholder Finance) أن المؤسسات المالية لا تقدم سوى ربع القيمة المقدرة بـ200 مليار دولار، وهي القيمة التي يحتاجها المزارعون أصحاب الملكيات الصغيرة حول العالم لتوسيع نطاق أعمالهم.

يكمن السبب الرئيسي لهذه الفجوة في أن أدواتنا المالية الحالية ليست منظمة بصورة جيدة لحلول النظام الغذائي. فقد جرى تهيئة المقرضين الزراعيين التقليديين لتمويل المزارع أحادية المحصول وواسعة النطاق، على الرغم من أن المزارع الصغيرة والمتنوعة أكثر مرونة، لا سيما في مناخ متغير. على الرغم من أن الكثير منهم يستخدم الأساليب الزراعية التي توفر تربة سليمة تزيد من الاحتفاظ بالمياه، وعزل الكربون، والتنوع البيولوجي.

في غضون ذلك، يبحث المستثمرون والمؤسسات المالية التي يتمحور تركيزها على نطاق أوسع عن ارتباط إيجابي بين المخاطر والعائد. ويعد هذا المعيار صعباً بالنسبة إلى القطاع الزراعي للوفاء به، نظراً لأنماط الأحوال الجوية غير المتوقعة، والآفات والأمراض، والأسواق التي لا تقدر القيمة الحقيقية للإنتاج الغذائي المستدام، بالإضافة إلى الدعم المقدم للإنتاج التقليدي، وتقلبات السوق. كما أنه أمر أكثر صعوبة بالنسبة إلى صغار المزارعين وشركات الأغذية، التي تميل إلى العمل بهوامش مالية ضئيلة علاوة على تلك المخاطر المتأصلة. في حين أن هذه المشاريع عالية المخاطر وذات عائد منخفض من الناحية المالية، لكن عملها ينسجم مع مهام العديد من المؤسسات؛ إذ إنها تعزز الاقتصادات الريفية من خلال توفير فرص عمل جيدة عبر سلسلة التوريد الغذائي، وتسمح للمزارعين بالاحتفاظ بحصة أكبر من إيرادات المستهلك، وغالباً ما يكون لها أثر بيئي أخف.

نحن بحاجة إلى المستثمرين الذين يرون قيمة هذه العوائد غير المالية لوضع المال بخدمة الشركات الزراعية الصغيرة. هذا هو المكان الذي يمكن أن تحقق فيه المؤسسات تأثير هائل. يمكن القول إن المؤسسات الخاصة هي الأفضل من ناحية القدرة على تمويل المزارعين أصحاب الملكيات الصغيرة وعائلاتهم، وأصحاب المشاريع الغذائية التحويلية، ومؤسسات النظام الغذائي، نظراً لأن الغرض من رأسمال المؤسسة هو تعزيز رسالة المؤسسة الخيرية، ويمكن لمعظم المؤسسات الخاصة استثمار 95% من أصولها أينما أرادوا.

تتبنى المزيد من المؤسسات استراتيجيات استثمار تتسم بالمسؤولية الاجتماعية لتلك الأصول. وغالباً ما يعني هذا أنهم يتجنبون الاستثمار في قطاعات معينة، مثل الوقود الأحفوري والتبغ، مما يحدّ من الضرر مقابل فعل المزيد من الأمور الخيرة. لكن هنالك عدداً متزايداً من المؤسسات، بما فيها «إف بي هيرون فونديشن» (F.B.Heron Foundation) و«كوراس فونديشن» (Chorus Foundation)، تستخدم أصولها لدعم الاستثمارات والقروض والضمانات للمؤسسات التي تتناول المشكلات الاجتماعية والبيئية. تدرك هذه المؤسسات أهمية حل المشكلات اليوم، بدلاً من خلق المزيد من الأصول لتقديم المنح غداً. نظراً لأن أكبر تحدياتنا المجتمعية والبيئية، بما في ذلك توفير الطعام للعالم، تلوح في الأفق، فإننا بحاجة إلى ذلك الالتزام لتكريس جميع الأصول من أجل إيجاد حلول للمشكلات اليوم.

بالنسبة إلى المؤسسات، فإن الاستثمار في الأفراد والجمعيات والشركات التي تقدم خدمات حيوية للمزارعين يتيح أمامها تعزيز نشاط رأسمالها المخصص لصندوق المنح ودعمه في هذا المجال.

نماذج تمويل جديدة لخدمة المشاريع الصغيرة

تعمل بعض المؤسسات على إدماج إطار عمل استثمار مؤثر، بحيث تستخدم الاستثمار العام والخاص في النظم الغذائية لتوليد الثروة المحلية، بدلاً من استخراجها. إنهم يستخدمون أدوات مثل «إم آر أي» (MRIs) (الاستثمارات المتعلقة بالرسالة) و«بي آر أي» (PRIs) (الاستثمارات المتعلقة بالبرنامج) لدمج المنح ورأس المال الاستثماري، وإنشاء نماذج جديدة تنقل رأس المال لخدمة الشركات الصغيرة.

تهدف «مؤسسة سويفت» (Swift) على سبيل المثال، إلى إحداث أثر عبر جميع فئات الأصول، مع التركيز على سبل عيش المزارعين أصحاب الملكيات الصغيرة، وسلامة التربة، والوصول إلى غذاء صحي متنوع. كما تدعم الشركة المشاريع الغذائية من خلال المنح ورأس المال الاستثماري والارتباطات مع المؤسسات والشبكات الأخرى. وتعزز التواصل والتعاون بين برنامجها وموظفي شؤون الاستثمار، وهي مجموعات تكون غالباً معزولة ضمن المؤسسات.

إحدى المؤسسات التي تدعمها «سويفت» هي «كاليفورنيا فارم لينك» (California FarmLink)، وهي مؤسسة مالية غير ربحية معنية بتنمية المجتمع وتعمل على دعم المزارعين في المراحل المبكرة من مشاريعهم من خلال تقديم المساعدة التقنية المباشرة والتعليم والارتباطات والموارد. تخدم «كاليفورنيا فارم لينك» المزارعين ومربي الماشية ضمن المجتمعات ضعيفة التمويل في وسط وشمال كاليفورنيا، بما في ذلك المبتدئين والأشخاص ذوي الموارد المحدودة والمهاجرين، من خلال برامج الوصول إلى الأراضي ورأس المال الذي ينطوي على معايير ائتمان أكثر مرونة مقارنة بالاستعانة بالمقرضين الزراعيين التقليديين. على سبيل المثال، تُقرض المؤسسة الأشخاص الذين لديهم أصول متواضعة أو الذين لا يمتلكون الأصول، لكن لديهم خبرة زراعية ويصلون إلى أسواق الدول المتقدمة. نظراً لأن مؤسسة «سويفت» منحت قرضاً إلى «كاليفورنيا فارم لينك»، فقد قدمت لها أيضاً منحة دعم عامة لعدة سنوات، بحيث حصلت على قدرة إضافية للوصول إلى المزارعين الذين تُعتبر محاصيلهم عضوية ومستدامة والذين لا يمكنهم الحصول على التمويل الذي يحتاجونه لتطوير أعمالهم.

يتطلب تطوير الهيكل الصحيح واستكمال إجراءات التحقق لهذا النوع من الاستثمار بعض المعرفة المتخصصة إلى جانب الموارد. وقد نظمت مؤسسة «سويفت» خطة للاستعانة بخبراء ميدانيين من أجل المساعدة في تولي إجراءات التحقق المالية، وإعداد الوثائق القانونية، وإجراءات الأنشطة البرنامجية لاتخاذ القرارات والإشراف. إذ استعانت باستشاري خبير في السلع المعبأة الموجهة للمستهلكين على سبيل المثال، من أجل مساعدة موظفي الاستثمار على تقييم فرصة الاستثمار المباشر في شركة توفر العسل البري الذي يتم جمعه بأساليب مستدامة من المناطق التي يسكنها السكان الأصليين في الهند.

صناديق نظام الغذاء العالمي

بالنسبة إلى المؤسسات التي لا ترغب في الاستثمار كثيراً في موارد الموظفين، من أجل البدء على أقل تقدير، تعدّ الاستثمارات في الصناديق المشتركة خطوة أولى جيدة. ونظراً لأنها تشمل العديد من المزارعين أو المشاريع، فإن هذه الصناديق تحدّ من المخاطر، بحيث يتقاسم المستثمرون المشاركون أي خسائر قد تتكبدها المحفظة. بعض الأمثلة على الصناديق التي تركز على نظام الغذاء العالمي تشمل صندوق مؤسسة إروكوا فالي فارملاند آر إي آي تي (Iroquois Valley Farmland REIT)، وصندوق تحويل النظام الغذائي التابع لمؤسسة «آر إس إف» (RSF)، وصندوق مؤسسة «كاليفورنيا فارم لينك».

يعدّ الوصول إلى الأراضي والقدرة على تحمل تكاليفها من أكبر التحديات التي يواجهها المزارعون الشباب، ويقدم صندوق «إيروكوا فالي فارملاند» نموذجاً جديداً للتمويل يسمح للمستثمرين بدعم ملكية الأراضي الزراعية. تمنح المؤسسة التي تتخذ من ولاية إلينوي مقراً لها للمستثمرين المعتمدين وغير المعتمدين إمكانية الوصول إلى محفظة مجموعة من الأراضي الزراعية العضوية. يمنح تمويل المستثمر المزارعين الذين يعتمدون الزراعة العضوية والمزارعين الذين ينتقلون إلى هذا النوع من الزارعة إمكانية الوصول إلى الأرض من خلال عقود إيجار طويلة الأجل وقروض عقارية بشروط تعود بالنفع على المزارعين، فضلاً عن خيار شراء الأرض في المستقبل. استثمر صندوق مؤسسة «إيروكوا فالي فارملاند» في أكثر من 50 مزرعة في 14 ولاية، تصل إلى ما يقرب من 10,000 فدان. ويدير جيل الألفية أكثر من نصف هذه المزارع، وباستخدام أساليب عضوية؛ يزرعون المحاصيل ويربون الماشية من أجل اللحوم والألبان، ويعملون على توسيع نطاق الوصول إلى تلك الأغذية العضوية.

تخفّض مؤسسة «إيروكوا فالي فارملاند» من المخاطر المتأصلة في الزراعة من خلال السماح للمستثمرين أو المؤسسات المؤثرة بدعم مزارع متعددة وتقديم ملفات للعوائد التي تعطي الأولوية لاحتياجات المزارعين، وهذا لا يعني أن عائدات المستثمرين تعتبر ضئيلة.

أما صندوق تحويل النظام الغذائي التابع لمؤسسة «آر إس إف» فهو وسيلة للمؤسسات للاستثمار باستخدام الصناديق المخصصة للاستثمارات المتعلقة بالبرنامج أو الاستثمارات المتعلقة بالرسالة. وغالباً ما تكون الاستثمارات المتعلقة بالبرنامج هي الخطوة الأولى للمؤسسة في الاستثمار المؤثر، نظراً لأنها تستخدم الأموال المخصصة لتقديم المنح. وعن طريق صندوق المؤسسة المالية «إف إس تي إف» (FSTF)، يمكن للمؤسسات إنشاء استثمارات متعلقة بالبرنامج في صندوق إقراض مباشر. يقدم صندوق «إف إس تي إف»، الذي يموّل حالياً 19 مشروعاً في جميع أنحاء الولايات المتحدة، قروضاً للمؤسسات التي تقدم خدمات البنية التحتية لمشاريع الغذاء المحلية (مثل المعالجة والتجميع والتوزيع) من أجل مساعدة صغار المزارعين على الوصول إلى الأسواق والموارد.

يتحدى المزارعون والمشاريع في أمثلة الصناديق المشتركة هذه؛ المشاريع ذات الحجم الصناعي، ويختبرون نماذج أعمال جديدة، ويدعمون نظامهم الغذائي المحلي. في حين أن العائد المالي قد يبدو منخفضاً بالنسبة إلى فرق الاستثمار ذات التوجهات التقليدية، لكن عوائد سلامة التربة، ورفاه المزارعين، وخلق فرص عمل، وتقديم الأغذية الصحية للمجتمعات يمكن أن تكون عالية. هذا هو السبب الكامن وراء أهمية رأسمال المؤسسة.

تجاوز العقبات التي تحول دون صمود النظم الغذائية

ستعمل المؤسسات التي تريد مواجهة تحديات نظام الغذاء العالمي بصورة فاعلة من أجل تقييم العقبات الداخلية التي قد تعيق النجاح. ويعدّ تحديد معوقات الاستثمار في الاستثمارات طويلة الأجل وقوية الأثر وذات العائد المنخفض مكاناً جيداً للبدء (انظر تقرير مؤسسة «ساردنا» Surdna حول رحلتها نحو الاستثمار المؤثر).

أما الخطوة التالية المثلى فهي خلق مجتمع تتشارك فيه المؤسسات الهدف ذاته، أو الانضمام إلى أحدها إن وجد، حيث يمكن للمؤسسات التعلم من بعضها البعض، وإخضاع بعضها للمساءلة، والمشاركة سوياً في الاستثمارات. يوجد على سبيل المثال شبكات مثل الزراعة المستدامة (Sustainable Agriculture) وممولي النظام الغذائي (Food System Funders)، وهي عبارة عن شبكات وطنية توفر فرص التعلم والتواصل للأعضاء.

نحن بحاجة إلى جميع أشكال رأس المال لإنشاء نظام الغذاء العالمي الأفضل، ولكن ربما تكون المؤسسات هي الأفضل في دعم الابتكار المتعلق بالأراضي، الذي سيؤدي في النهاية إلى تغيير واسع النطاق. ومن أجل الاضطلاع في هذا الدور، ينبغي الالتزام بإعادة التفكير في العلاقة بين المخاطر والعائد. يجب عليهم مواءمة استثماراتهم مع استراتيجيات تقديم المنح الخاصة بهم والانخراط مع المؤسسات الأخرى من أجل تشجيع ودعم الانتقال. وعندما يحدث ذلك، سنتمكن من تمويل مستقبل النظم الغذائية الذي نحن بحاجة إليه.

اقرأ أيضاً: استخدام التفكير التصميمي لاستئصال أسباب الفقر

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.