شارك الطفل السوري اللاجئ فوزي، 11 عاماً، قصته المتمثلة في رؤية شقيقه يموت أمامه مباشرة جرّاء تفجير داخل ملعب بمحافظة إدلب، ضمن سلسلة "الجانب الذي لا تراه مني" (The Me You Can't See) التي أنتجها الأمير هاري تشارلز، دوق ساسيكس، والإعلامية أوبرا وينفري، وتستعرض السلسلة أهمية الدعم النفسي والصحة النفسية والرفاهية العاطفية من خلال قصص إنسانية حول العالم.
تُظهر الحلقة الطبيب النفسي للأطفال عصام داود وهو يمرّر رسماً إلى "فوزي" يحمل صورة طفل صغير يرتدي عباءة بطل خارق، وأشار إليها داود قائلاً: "هذا أنت يا فوزي"، ويُرمز بهذه العباءة إلى قوة الطفل وشجاعته لتخطي التجارب المريرة.
السؤال المطروح هنا، هل تسفر الجهود المقدمة حالياً لتوسيع نطاق خدمات الرعاية النفسية في ظل الأزمات؟ في الواقع، فشل العالم في تحقيق معظم أهداف الصحة النفسية لعام 2020، على الرغم من تسليط جائحة كورونا الضوء على الحاجة المتزايدة لهذه الخدمات، وبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية، في عام 2020، حقق 52% فقط من الدول الأعضاء الهدف المرتبط ببرامج تعزيز الصحة النفسية والعقلية والوقاية منها، وهو أقل من هدف 80% المنشود، بينما تمكّنت من بلوغ هدف خفض معدل الانتحار بنسبة 10%.
تشهد الدول تقدماً بطيئاً في تبني السياسات والخطط والقوانين المتعلقة بالصحة النفسية، لكن وجود مؤسسات خيرية تعمل على تقديم الدعم النفسي والرعاية النفسية على الخطوط الأمامية للأزمات الإنسانية، يبقى عاملاً أساسياً لضمان السلامة العقلية للأفراد والتعافي من آثار الصراعات والحروب والكوارث، وفي هذا الإطار تستعرض منصة ستانفورد للابتكار الاجتماعي أمثلة على تلك المؤسسات.
"هيومانتي كرو" (Humanity crew)
قَدِم الفلسطيني عصام داود من حيفا ليعمل طبيباً عاماً للاجئين على شواطئ جزيرة ليسبوس اليونانية، لكنه أدرك وزوجته "ماريا" أن هؤلاء اللاجئين بحاجة للمساعدة في تخطي المشاهد والمواقف الصعبة المتجذرة في عقولهم مثل مشهد الفوضى على الشاطئ، والمركب المُكتظ الذي يتساقط منه الركاب، ومشاعر الخوف من الموت غرقاً والإرهاق الجسدي خلال رحلتهم الشاقة عبر البحر، فنشأت فكرة مؤسسة "هيومانتي كرو" (Humanity crew) في عام 2015 لتقديم خدمات الدعم النفسي والرعاية النفسية، وزرْع الأمل والتمكين في نفوس اللاجئين بدلاً من اليأس والضعف.
تطوّع داود وزوجته ماريا الحاصلة على شهادة في الحقوق للعمل في المستشفيات أو السواحل التي كانت تقصدها قوارب اللاجئين، وخلال الشهر الأول من عملهما في ليسبوس كان الوضع فوضوياً، وعلى الرغم من إنقاذ عشرات اللاجئين من حافة الموت، إلا أن 54 لاجئاً لقوا حتفهم، وأدرك الزوجان أن الرعاية النفسية يجب أن ترافق الإسعافات الأولية أو تكون مكمّلة لها، ففكّرا بإطلاق مؤسسة أُطلق عليها في البداية اسم "متطوعون لأجل الإنسانية" تضم طبيبين مختصين بعلم النفس السريري، وكان الاسم بمثابة دعوة للمتطوعين حول العالم لمساعدة اللاجئين والنازحين في استعادة أمانهم النفسي.
واجهت "هيومانتي كرو" في بداياتها صعوبات تمويلية، وكان رصيدها في أحد الأيام لا يتجاوز 6 دولارات، إلا أن دعم المانحين الأفراد مكّنها من الاستمرار، وكان روّاد العطاء أشبه بملاكها الحارس، إذ تبرع أحدهم بمبلغ 30 ألف يورو وآخر ساعدها على إنشاء حساب مصرفي دولي (IBAN)، وفي عام 2018، أصبح الدكتور داود زميلاً في سلسلة "محاضرات تيد" (TED Talks) وكانت المحاضرة التي قدمها في مدينة فانكوفر بمثابة بداية لاستقطاب الدعم والمساعدة من مؤسسات كبيرة. منذ انطلاقها، دعمت "هيومانتي كرو" 600 ألف شخص في 14 بلد، وقدمت 43,900 ساعة في جلسات الدعم النفسي للاجئين، وعملت على تدريب 7895 شخص من المهنيين وعمال الإغاثة.
تقدم المؤسسة خدماتها بما يناسب الخلفية الثقافية للاجئين ولغتهم الأم، ويعتمد نهجها على الأنشطة المجتمعية، وجلسات المجموعة المركزة، والجلسات الفردية للحالات المعرضة للخطر، وتُساعد خدمات المؤسسة اللاجئين في تخطي المراحل الأربع لرحلة اللجوء؛ تتمثل المرحلة الأولى في الاضطراب النفسي الناجم عن هرب اللاجئين من ديارهم، والثانية في حالة القلق من الحياة داخل المخيمات، تليها مرحلة عدم القدرة على تحديد وجهة اللجوء، وأخيراً المساعدة على الاندماج في الحياة الجديدة.
تتّبع المؤسسة طريقة مميزة لخلق قصة جديدة يتفاعل معها عقل الطفل اللاجئ لتحل محل التجارب السلبية التي عاشها خلال رحلة اللجوء، إذ يقوم المتطوعون بعد عملية الإنقاذ بالتقاط صور للأطفال ويطلبون منهم ترك تواقيعهم عليها للذكرى، وحال استقرارهم في المخيم، يحثّ المتطوعون الأطفال على تأليف أغاني عن شجاعتهم، وبالتالي لن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم ضحايا وإنما أبطال خارقين.
تهتم المؤسسة بزيادة الوعي والمعرفة حول الصحة النفسية للاجئين، وحثّ المجتمع على جعل دعم الصحة النفسية مكوناً أساسياً ضمن خطط مواجهة الأزمات، لذا تنظم تدريبات متخصصة وورش لمختصي الصحة النفسية والعقلية والعاملين في مجال المساعدات الإنسانية والمتطوعين واللاجئين مع تأكيد مراعاة النوع الاجتماعي والخصوصية الثقافية واللغوية، كما تُجري "هيومانتي كرو" أبحاثاً ميدانية وسريرية تتعلق بالصحة العقلية للاجئين وتشاركها مع المجلات الأكاديمية والمؤتمرات الدولية ووسائل الإعلام.
تُعد أهمية الاستمرارية في العلاج مكوناً أساسياً في الدعم النفسي والاجتماعي، لذا أطلقت المؤسسة العيادة عبر الإنترنت في ديسمبر/كانون الأول 2017 لمواصلة دعم الحالات من مواقع مختلفة، وتضم العيادة شبكة من مختصي الصحة النفسية لتقديم الدعم والعلاج عن بُعد للسكان النازحين حول العالم، وتتيح للمهنيين إمكانية تقديم الدعم من مواقع جغرافية مختلفة.
"إمبريس" (Embrace)
تُعد المعاناة الخفيّة أكثر إيلاماً من تلك التي يمكن رؤيتها وعلاجها جسدياً، وتؤتي جهود الدعم النفسي ثمارها عندما تقترن بالتخطيط المناسب والمُستدام، والأدوات القائمة على الأدلة، والجهود التعاونية والشاملة، والقيادة القوية، والمواطنين المتفانين في المجتمع، وعليه انطلقت مؤسسة "إمبريس" التي تأسست في لبنان عام 2013 للتوعية بالمرض النفسي وضمان تمتّع كل شخص بصحة نفسية أفضل والوصول إلى رعاية كريمة دون حواجز اجتماعية وسياسية وشخصية.
تُدير المؤسسة خط الحياة الوطني في لبنان (1564) للدعم العاطفي والخط الساخن لمنع الانتحار، بالشراكة مع البرنامج الوطني للصحة النفسية في "وزارة الصحة العامة"، ويتضمن شبكة من المشغلين المدرَبين تدريباً عالياً لتقديم الدعم العاطفي عبر الهاتف، وتقييم مخاطر الانتحار والإحالات إلى خدمات الصحة العقلية المجتمعية، وتوفر المؤسسة الدعم للمشغلين من خلال أفراد مهنيين يضمنون التشغيل السلس للشبكة، وتلقت الشبكة 15,117 مكالمة منذ عام 2017، وتمكنت من الوصول إلى 15,455 شخصاً عبر جلسات التوعية والتواصل منذ عام 2014.
يُعد هذا الخط الساخن الأول من نوعه في المنطقة لمواجهة محاولات الانتحار، ويساعد في الحد من معدل حالات الانتحار في لبنان والتي تبلغ 3.1% من بين كل 100 ألف شخص، وبحسب "منظمة الصحة العالمية" يفقد شخص واحد حياته بسبب الانتحار كل ثلاثة أيام، ويحاول شخص واحد الانتحار كل 6 ساعات في لبنان.
كان عام 2020 صعباً على دول العالم أجمع، لكن في لبنان تتالت الصدمات حتى عجز اللبنانيون عن إحصائها، ابتداءً من انهيار الليرة اللبنانية وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية، مروراً بجائحة كورونا وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب الذي تسبب بمقتل ما يزيد عن 200 شخص وإصابة نحو 6 آلاف، فضلاً عن دمار البنية التحتية، ومنذ عام 2020 قدمت "إمبريس" 4,568 استشارة في مركزها، وتضم الجلسات ساعة واحدة من العلاج النفسي أو الاستشارات النفسية، وجلسات أكثر إيجازاً مثل استشارات التمريض والتدخلات السريرية والمتابعة النفسية، ووفرت العلاج لـ 534 مستفيداً.
وفي أغسطس/آب 2020، قدّمت العيادة 690 استشارة للأشخاص المحتاجين لعلاج نفسي لكنهم عاجزون عن تحمّل تكلفته، فيلجؤون إلى المؤسسة لتقديمها العلاج مجاناً، خصوصاً أنها تعاونت مؤخراً مع عدد من الصيدليات لتغطية تكلفة الأدوية النفسية.
كشف تقرير المؤسسة بين شهري أغسطس/آب ونوفمبر/تشرين الثاني 2020، أن 83% من أصل 903 أشخاص بين 18 و65 عاماً، أبلغوا عن شعورهم بالحزن يومياً عندما سُئلوا عن مشاعرهم خلال العشرة الأيام التالية من الانفجار، وعبّر ما يزيد عن 84% عن شعورهم بحساسية أكبر تجاه الأصوات العالية والمخاطر، وبعد مرور شهر، وجّهت المؤسسة بالتعاون مع تطبيق "ماي ساي" (Mysay) الأسئلة نفسها لنحو نصف الأشخاص المستطلعين سابقاً، ووجدت أنهم يشعرون بتحسّن، إلا أنّ العديد منهم لا يزالون في حالة حزن، وتراجع عدد الأشخاص الذين يشعرون بحالة حزن شديد إلى 55% أما الذين يشعرون بالقلق فتراجع عددهم إلى 54%.
بحسب التقرير ذاته، أبدت الإناث استعداداً أكبر من الذكور للإبلاغ عن حزنهنّ، أو تحمّلهنّ أعباء إضافية من ضغوط الحياة، وأظهرن تحسناً أقلّ مع مرور الوقت، ولفت التقرير إلى أن غالبية المشاركين في الاستطلاع وجدوا الدعم من الأصدقاء وأفراد العائلة.
ختاماً، جهود الدعم النفسي والرعاية النفسية التي تقدمها مثل هذه المؤسسات تتيح لأي شخص يعاني من الصدمات إمكانية ارتداء عباءة البطل الخارق، والنهوض من جديد لمواجهة الحياة بالثقة والأمل.