التواطؤ في استدامة الشركات

معاجلة مشكلة المناخ
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، عملتُ في مجال استدامة الشركات مع مجموعة من الزملاء الشباب الأذكياء المتفائلين. عملنا دون مقابل مادي يذكر من مكتب صغير بجوار الحمام في معهد روكي ماونتن (Rocky Mountain Institute)، وهو مركز أبحاث متخصص بالاستدامة. تحت أكوام عالية من تقارير الطاقة ونسخ لم تُقرأ من صحيفة نيويورك تايمز، قمنا بصياغة مسودات لكتيبات تعريفية وأبحاث استشارية تبين أن الشركات الكبرى كانت الكيانات الوحيدة التي تتمتع بالإمكانات والذكاء والمرونة اللازمة لحل مشكلة التغير المناخي، ناهيك عن امتلاكها لحافز تحقيق الأرباح من وراء ذلك. كُنا محاطين شخصياً وفكرياً بمُنشئي الحركة: أموري لوفينز، خبير كفاءة الطاقة، وبول هاوكينز، مؤلف كتاب “إيكولوجي أوف كوميرس (Ecology of Commerce)، وراي أندرسون، الذي غيرت اكتشافاته البيئية شركة إنترفيس المحدودة (Interface, Inc.) – بالإضافة إلى مهندسين أكْفاء مثل المهندس لوك لي، الذي يشبّه تصميم الأنظمة بالمطبخ الصيني؛ حيث تستفيد من كل شيء، حتى أرجل الدجاج.

كنا نعتقد أن الأرباح التي يمكن أن تحققه الشركات والمحفزات الاستراتيجية ستشكل دافعاً قوياً للتحرك لإنقاذ العالم، ومعالجة التغير المناخي، والقضاء على التلوث والنفايات. لم يكن الالتزام بممارسات تحافظ على البيئة، مثل التقليل من استهلاك الطاقة باستخدام مصابيح وأدوات كهربائية أفضل، أو زيادة الكفاءة من خلال التصميم والهندسة، أو إضافة مصادر طاقة متجددة، أمراً يتماشى مع المسؤولية تجاه البيئة فحسب، بل كان مفيداً أيضاً لتحسين الأرباح. صفقة رابحة لطرفين، وتحقق فائدة للبيئة والشركات.

هذه الرؤية هي ما دفع أشخاصاً مثلي للانخراط في المجال، وهي كانت محوراً للعديد من أحاديث مؤتمرات تيد (Ted Talks) الرائعة، كما أنها ألهمت الزبائن والموظفين والمستثمرين. بالإضافة إلى أن استدامة الشركات تتبنى قيمة واضحة: يمكن للتصميم الجيد، دون أي تكلفة، تحقيق أشياء عظيمة. انظر إلى كوب قهوتك من ستاربكس على سبيل المثال: إذا أضفت القشدة بعد القهوة، فإنك ستحتاج إلى قشة للتحريك، وهي قطعة من خشب الغابات خضعت لعمليات تصنيع ونقل وتغليف وتوزيع. لكن إذا أضفت القشدة قبل صبّ القهوة (وهو حلٌّ تصميمي)، فإنك لن تحتاج إلى عصا تحريك في هذه الحالة. وهكذا، تكون قد وظّفت الذكاء للاستغناء عن شيءٍ مادّي؛ لقد قلّلت النفايات بفضل فكرة. يا لها من طريقة مثيرة للغاية للنظر إلى مشكلاتنا من زاوية أخرى! تخيّل شعور العَظَمة الذي ستشعر به بعد استبدال مصابيح الإضاءة في المرآب، كما فعلتُ باكراً في مسيرتي المهنية، بحيث ينخفض إجمالي الاستطاعة الكهربائية المُستهلَكة من 400 إلى 30 واط، مع توفير إضاءة أفضل باستخدام مصابيح تدوم لمدة أطول. ليس من الضروري أن تكون عالماً فذاً حتى تشعر أن هذا النوع من الأشياء أمرٌ مُلهمٌ. تخيل تركيب مراحيض لا تستخدم الماء وعديمة الرائحة في ناطحات السحاب؛ إذ إن تكلفة ضخ المياه تشكل 8% من إجمالي طاقة المبنى، ما سيوفر المياه والطاقة.

هذه الأشياء، التي أطلقنا عليها اسم الفوائد المتتالية، حدثت بالفعل. ولكن بعد 25 عاماً أو أكثر، حتى مع نمو- أو ازدهار!- حركة الأعمال المستدامة، ما زال تغير المناخ مستمراً، وهو المقياس الوحيد الأكثر أهمية لإمكانية تحقيق مستقبل مستدام. والكوكب الذي تشتعل فيه النيران، ويغرق في الفيضانات، ويُزعزعه الجفاف والمجاعة والحروب وموجات الحر – حيث تنشغل الحكومات والمواطنون بالاستجابة للكوارث بدلاً من الاستقرار والازدهار- لا يتماشى مع تصوّر أي أحد لمعنى الاستدامة. على الرغم من ذلك وعلى مدار فترة ثورة استدامة الشركات، تحوّل التغير المناخي من أمر مُقلقٍ إلى شيء محتوم، وأدى بطريقة أو بأخرى إلى ارتفاع الحرارة الكارثي الذي يتجاوز درجتين مئويتين. حتى إن السنوات السبع الماضية كانت  الأعلى حرارة على الإطلاق في السجلات المتوفرة.

في مواجهة هذا الواقع الصعب، حتى الانتصارات المُحققة مثل قيام مجموعة كبيرة من الشركات الكبرى بخفض البصمة الكربونية بمعدل 30%، وهو أمرٌ بطولي خارق ويصعب تحقيقه للغاية، لن تتمكن حتى من التأثير الملموس على مشكلة المناخ. تكمن المشكلة في أن الكثير من الأشخاص والحكومات والأعمال التجارية الأخرى لا يكترثون بكل بساطة لهذه القضية. حتى التخفيضات الجذرية للكربون، في الولايات المتحدة على الأقل، ليست كافية: إن مجتمعنا شديد التلوث بمصادر الكربون لدرجة أنه حتى الأشخاص المشردين يمتلكون بصمة كربونية كبيرة بنحوٍ غير مستدام.

لذلك، استنتجتُ أن الجدوى التجارية للتحرك بشأن القضايا البيئية، والتي تظل الاستراتيجية الرئيسية للشركات في مواجهة التغير المناخي، لا تتعلق بالاستدامة بقدر ما هي مرتبطة بنوايا ممارسيها ورؤاهم. والأسوأ من ذلك، أن التركيز على الممارسات المستدامة بدلاً من ترشيد استهلاك الطاقة أدى عن غير قصد إلى تعزيز هيمنة صناعة الوقود الأحفوري على سياسة الحكومة وإجراءاتها، ما وفر غطاءً للسماح لشركة إيكسون موبايل (ExxonMobil) وغيرها بتضخيم الأرباح والانبعاثات العالمية من غازات الاحتباس الحراري، دون أي مضايقات.

إن التغيير المنهجي هو الطريق الوحيد لتحقيق استقرار المناخ. ولكن ما نجحت فيه حركة استدامة الشركات حقاً هو ضمان أن يعمل الجميع ضمن مجال عمل ضيق محدد بما يترك الشيء الوحيد الذي نحتاج إلى تغييره، وهو الاقتصاد المعتمد على الوقود الأحفوري، كما هو دون تغيير ودون تهديد.

إلهاء حسن النية

لا تكمن المشكلة فقط في الممارسات المستدامة للشركات والتي لا يمكن توسيع نطاقها أو حجمها، على الرغم من أن هذا الأمر صحيح ووثيق الصلة بالموضوع. بل في أن هذه الممارسات تحلّ محل الإجراءات التي تحقق نتائج فعلية.

إن أي شركة ستصبح في عين وسائل الإعلام وفي وعي الزبون شركة “خضراء” بمجرد سعيها للاستدامة بمفهومها الشائع وقيامها بجميع الأعمال مثل تحمل المسؤولية وإعداد التقارير والالتزام بالمعايير، ومراجعات المنظمة الدولية للمعايير (آيزو) 140001 وإعداد ملفات المبادرة العالمية لإعداد التقارير، والحصول على شهادات نظام الريادة في تصميمات الطاقة والبيئة (LEED) وشهادات الأساس وشهادات الطرف الثالث، وجميعها وثائق داعمة للهدف وتُظهر الالتزام إلا أنها لا تُقلل الانبعاثات. لا تضطر مثل هذه الشركات إلى القيام بالنشاط السياسي الشاق الذي قد يؤدي إلى خفض الانبعاثات العالمية بالفعل مثل المناصرة السياسية، واستخدام الصوت العام، والشهادة في واشنطن، وبناء التحالفات الصاخبة وغير المريحة وضغط الأقران، وسحب الاستثمارات أو المناشدة العامة للحدّ من السلوك السيئ. بل إنها لا تحتاج إلى تخفيض الانبعاثات كي تتم عنونتها كشركة قائدة في المجال، كل ما ينبغي على هذه الشركات فعله هو أن تطمح لذلك.

لكن تبعات هذه الطريقة قد تكون في الواقع من مجرد إلهاء. من الناحية العملية، يبدو أن هذه الإجراءات مصممة صراحة للحصول على شهادة بمحافظة الشركة على البيئة دون المطالبة بالعمل الجاد المتمثل في ممارسة نفوذها وخوض النشاط السياسي (الذي يمكن أن يزعج المساهمين وربما يكون غير مريح، وقد يؤدي إلى الحث على إصدار القوانين وغضب المسؤولين المُنتَخبين الذين يحتاج منهم المدراء إلى خدمات أخرى). في الواقع، خلال المراحل الأولى من مكافحة التغير المناخي، تجنبت الشركات حتى الاعتراف بعلوم المناخ، لأنها يمكن أن تتجنب بسهولة هذا الانزعاج المترافق مع ما أصبح (ولا يزال) لازمةً شائعة: “إن هذا النوع من الأمور يدر الكثير من الأرباح، يجب أن نفعله بغض النظر عن ما يقول العلم!” ويمكننا بوضوح أن نرى في ذلك تأسيساً لبداية الانحدار الأخلاقي. تخيل أن نقول: “بوضع التمييز العرقي جانباً، يجب علينا معاملة الأشخاص بمساواة لأنه أمر مفيد لصافي الأرباح!”

ولكن كان من المهم جداً أن تعترف الشركات بالعلم، لأن السياسة كانت، في ذلك الوقت وحتى اليوم، تتم على أساس إنكار العلم. وتتسم العديد من المواقف الغريبة بالصعوبة لأنها أيضاً مواقف أخلاقية. كما فسّر لي مرةً أحد رجال الدين: “لم يتعرض بعض الأنبياء للعنف لأنه دعوا إلى المحبة واللطف، بل تعرضوا لذلك لأنهم دعوا إلى تحقيق العدالة”. بمعنى ما، يعد تغيير المصابيح الكهربائية وتقليل البصمة الكربونية هو فعل يعبر عن المحبة واللطف، وهذا كلام جميل، إلا أن المعالجة المنهجية لمشكلة المناخ وجهاً لوجه، هي أمر يتمحور في نهاية المطاف حول تحقيق العدالة. وهذا ما سيتسبب لك بالكثير من المضايقات والمشاكل.

الازدواجية

في العديد من الحالات، تصبح المراوغة نوعاً من الازدواجية الصريحة: مثل بطلة فيلم بينيلوبي (Penelope)، تعلمت الشركات الكبرى أن تنسج غطاء تخفي خلفه رصيدها من انبعاثات الكربون المسموح بها وتقليل النفايات في النهار، ثم تحله في الليل من خلال مساهماتها في الشركات وجماعات الضغط. يلتزم “القادة” في حركة استدامة الشركات الصمت حول هذه السياسة بطريقة أو بأخرى. وفي الوقت نفسه، مع تركيز الجزء الأكبر من نشاطاتهم ورسائلهم على كيفية جعل عملياتهم الخاصة أكثر حفاظاً على البيئة، فإنهم يقدمون الأموال إلى سياسيين مثل ميتش ماكونيل أو غيره من مُنكري أزمة المناخ مثل ديفيد بوردو (كما فعلت كل من مايكروسوفت، وبنك أوف أميركا (Bank of America)، وشركة السيارات الكهربائية الرائدة جنرال موتورز، من بين عدة شركات أخرى). لو فاز بوردو بالانتخابات، لكانت إجراءات معالجة أزمة المناخ أمراً مستحيلاً في مجلس الشيوخ الأميركي، ما سيلغي كل التطلعات لحل مشكلة التغير المناخي التي قد تكون هذه الشركات تعمل عليها. نجد أن بعض الشركات التي تنادي بالحفاظ على البيئة قد تقوم أيضاً بتصميم وبيع خدمات استضافة سحابية، وبرمجيات ذكاء اصطناعي مخصصة، وأدوات لتعلم الآلة يمكن استخدامها لإيجاد وتوزيع الوقود الأحفوري على نحوٍ أفضل مع الادعاء بالاهتمام بقضية التغير المناخي. (لن أقوم بتسميتها، لكن هناك مايكروسوفت، وأمازون، وحتى فترة قريبة كانت معهم جوجل أيضاً). في بعض الحالات، تمارس هذه الشركات الضغط المباشر ضد أهدافها البيئية المُعلَنة، مثلما فعلت جنرال موتورز بخصوص معايير السيارات في عهد ترامب، على الرغم من عضويتها في مجموعة استدامة الشركات الكبرى سيريس (CERES). وكما أشار سيناتور رود آيلاند، شيلدون وايتهاوس، توجد شركات كبرى تتخذ إجراءات مهمة داخل بنية الشركة وتشارك قصتها مع العالم، لكنها تُطلق مجموعات الضغط التابعة لها لتفعل العكس.

تمتد الازدواجية في الغالب إلى ما يتجاوز مشكلة المناخ لتشمل المسؤولية والعدالة الاجتماعية، وهذه القضايا جزء لا يتجزأ من حركة حل أزمة المناخ. وكما لاحظ أوسيتا نوانافو، هناك العديد من الشركات الكبرى التي تدعو نفسها شركات مسؤولة، تمول ممارسات غير ديمقراطية عبر دعم مجموعات مثل مشروع إعادة تقسيم الأغلبية التابع للجنة قيادة الدولة التابعة للحزب الجمهوري، ويقول:

“كوكاكولا، على سبيل المثال، التي أعلن رئيسها التنفيذي في شهر يونيو/حزيران أنها ستقوم بتوظيف ‘مواردها وطاقاتها في المساعدة على إنهاء دائرة التمييز العرقي المنهجي’، يتعين عليها في الغالب الكفّ عن توظيف مواردها في إعادة انتخاب مشرّعي الولايات التابعين للحزب الجمهوري – بما فيها ولايات مثل جورجيا حيث يقع مقر الشركة وحيث يقوم الجمهوريون بالمحاربة لحرمان الأميركيين الأفارقة من حقوقهم”.

كان المبدأ التالي الذي تخلت عنه كوكاكولا أنها سمحت بإقرار قانون قمعي جداً لاستبعاد الناخبين في جورجيا، ثم انتقدته شفهياً بعد وضعه موضع التنفيذ. لقد حصلت على القانون الذي أرادته لحماية الوضع الراهن، ثم عارضته عبر لعب دور الصالحين الساخطين على القانون، لكن بعد إقراره.

مثال آخر، تمتلك شركة بروكتر آند غامبل” (Proctor and Gamble) تقارير عن الاستدامة تعود حتى عام 1999، كما أنها نشرت إعلاناً عن العدالة العرقية في عام 2020. إلا أن الشركة خلال الدورة الانتخابية لعام 2016 تبرعت للجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ بحوالي ضعف ما تبرعت به للديمقراطيين. وبمعرفة كيف يتصرف الحزب الجمهوري (GOP) حيال المناخ والتمييز العرقي، كيف تتطابق الادعاءات مع هذه الممارسات؟

اللعب لصالح صناعة الوقود الأحفوري

على مر السنين، أودت بنا هذه الأنواع من الاكتشافات الكئيبة إلى مكان أكثر تعاسة: كانت الإجراءات التي تتخذها الشركات تحت شعار استدامة الشركات المُربحة للجميع والجيدة للكوكب تحقق بالضبط ما ترغب به صناعة الوقود الأحفوري. تضمن هذه التحركات أن تتحمل الشركات المسؤولية عن مشكلة المناخ على اعتبارها تحدياً خاصاً بها حول نسبة الانبعاثات الفردية لكل منها فقط، بدلاً من اعتبارها قضية تحتاج لمعالجة منهجية. أدى ذلك إلى التركيز على إجراءات استدامة محدودة وتافهة لدرجة أنها عاجزة، حتى لو أرادت، عن زعزعة سيطرة صناعة الوقود الأحفوري على الحوكمة. تمثل هذه الطريقة، ولو جزئياً، ما يطلق عليه عالم المناخ مايكل مان “حرب المناخ الجديدة“.

فكر في الأمر. تحب شركات الوقود الأحفوري المكاتب والمنازل ذات الانبعاثات الصفرية. والشركات المحايدة من ناحية الأثر الكربوني. وتعويض الكربون. وتتحدث عن الاقتصاد الدائري، حيث يتم إعادة استخدام الأشياء وإعادة تدويرها. أو فكرة الأهداف المستندة إلى العلم حيث تحدد الشركات نصيبها العادل من عبء خفض الكربون في العالم (كما لو كان ذلك منطقياً على الإطلاق – ما هو نصيبك العادل في إخماد حرائق الغابات التي تهدد منطقتك؟) كذلك تحب شركات الوقود الأحفوري أن يقوم المواطنون والشركات بتأدية أدوارهم، وتتحدث عن أن كل خطوة مهمة. عموماً، تحب هذه الشركات أن تركز على نفسها، لا على النظام.

تحب شركات الوقود الأحفوري هذه الأشياء لأنها تصرف انتباه الشركات والمواطنين عن الإجراءات التي قد تتخذها الشركات والتي من شأنها أن تسبب الضرر بالفعل لصناعة الوقود الأحفوري، وهي أفعال تخشاها هذه الصناعة؛ منها إخراج الأموال التي تضخها الشركات في السياسة، أو التهجم على رخصها الاجتماعية التي تحتاجها الصناعة للعمل. أو تعرية هذه الصناعة على حقيقتها، أو اعتماد السياسة العامة التي تلغي أشكال الدعم الجانبية وتشجع الطاقة المتجددة والكهرباء. أو القيام بمقاطعات واحتجاجات ضد خطوط الإمداد أو العمليات التي تجريها الشركات. أو شغل مكاتبهم الرئيسية من قبل الناشطين. أو تشريعات وكالة حماية البيئة الأميركية، وفرض ضرائب الكربون بالحجم الصحيح، وتغطية وسائل الإعلام التي تتعمق بالفعل فيما تعنيه كلمة “أخضر” أو “صديق للبيئة” (انظر: البنوك الأميركية الكبرى تعلن بصخب عن فرض حظر على تمويل عمليات الحفر في القطب الشمالي الذي لا يتم مثلما يجب كما أنه محفوف بالمخاطر ومكلف على أي حال)، والرؤساء التنفيذيون أصحاب النفوذ الذين يعلنون الحاجة إلى سياسة صارمة لمعالجة أزمة المناخ في وسائل الإعلام الرئيسية. إنهم يكرهون الانتخابات الحرة والنزيهة التي تمكّن الغالبية العظمى من الأميركيين الذين يهتمون بالنشاط المناخي الهجومي.

كيف وجدنا أنفسنا في هذا المأزق؟

عندما أدرك فرع من صناعة الوقود الأحفوري، صناعة البلاستيك، في أواخر الستينيات أن الزجاجات وعبوات الألبان كانت تسد الطرق السريعة والأنهار، كانوا يعلمون أن عليهم إزالة اللوم عن أنفسهم وتحميله المواطنين. لقد فعلوا ذلك ببراعة، من خلال إعلان الهندي الباكي الشهير، الذي لعب فيه ممثل (من أصل صقليٍّ) دور أميركي من السكان الأصليين يذرف دمعة بسبب قيام الأميركيين المتهورين بتكويم القمامة. ونجح الأمر. بدلاً من ملاحقة صناعة البلاستيك، تحمل الأميركيون مسؤولية المشكلة بمفردهم، على الرغم من أنه لم يكن لديهم المزيد من الطلب على الزجاجات البلاستيكية أكثر مما أصروا على نقله أو زجاجات المشروب الباردة التي تم إيصالها بطريقة غير حضارية.

لاحقاً، تبنت صناعة الوقود الأحفوري الاستراتيجية ذاتها، كما تبنت سابقاً نكران شركة بيغ توباكو (Big Tobacco) أزمة المناخ. وكما قال مارك كوفمان: “عيّنت شركة بريتيش بتروليوم (BP) المتخصصة في العلاقات العامة أوجيلفي آند ماذر للترويج أن التغير المناخي ليس خطأ شركة نفط عملاقة، ولكن خطأ الأفراد”. وكانت النتيجة هي حاسبة البصمة الكربونية المبتكرة: أداة لتحديد مدى الذنب الذي يقع على عاتقنا جميعاً، وتحويل اللوم بسلاسة من المهندسين المسؤولين عن المشكلة إلى بيادق الأنظمة. تذكر: لم يقم المواطنون الأميركيون بإنشاء القوانين المعززة للكربون والبنية التحتية التي تحكم عالمنا. بل إن تأثير الصناعة هو من فعل ذلك.

التواطؤ في الجريمة

كما اتضح، فإن الرؤية العظيمة التي مفادها أن الشركات يمكنها من خلال عملياتها الخاصة أن تقود الحلول لمعالجة التغير المناخي، تصب مباشرةً في مصلحة متعهدي عالم يعاني من الاحترار. سأصيغ الأمر بوضوح أكبر: لم تكن ممارسات الاستدامة التي تقوم بها الشركات إلهاءً (سيئاً) فحسب، ولا مراوغة للتملص من العمل الشاق المثير للجدل (أمر شرير)، ولا حتى كانت ازدواجية متعمدة (فساد). بل كانت الطريقة شريرة لأنها كانت تمثل تواطؤاً في الجريمة. التواطؤ مع صناعة الوقود الأحفوري والبنية التي أنشأتها – مثل تحكمها في الحكومة، واحتكارها للاقتصاد، وأشكال الدعم الخفية والثابتة الخاصة بها، ودعمها للممارسات غير الديمقراطية التي قد تقيد التشريعات عبر الوكالات السياسية، وإنشائها لعالم يعيش مواطنوه في اقتصاد معتمد على الوقود الأحفوري لم يتسببوا هم به إلا أنهم مع ذلك يلومون أنفسهم على وجوده.

إن استدامة الشركات كما تتم ممارستها ودراستها وتعليمها والكتابة عنها حالياً تظل الطريقة الأفضل لتمكين نجاح قطاع الوقود الأحفوري في تسريع الكارثة المناخية. وبعد مرور 50 عاماً من بث إعلان الهندي الباكي، لا نزال نتعمق في محاولة اكتشاف كيف يمكن لشركاتنا أن تصبح محايدة للكربون، وكيف يمكننا العمل من داخل النظام ومن خلال قوى السوق لحل مشكلة المناخ. عندما تحرز بعض الشركات تقدماً طفيفاً خارج نطاق السياسة، فإن الأكاديميين والعامة ووسائل الإعلام يمتدحونهم بكل الوسائل. في غضون ذلك، ينظر إلى الأشخاص الذين ينتقدون هذه الشركات – في الواقع، هم مهووسون ومتطرفون واشتراكيون- على أنهم فقط لا يفهمون الرأسمالية. جورج مونبيوت. أيمي ويسترفيلت. شيلدون وايتهاوس. بيل مويرز. بيرني ساندرز. ناعومي كلاين. بيل ماكيبين. إميلي أتكين.

دور الأكاديميين

الحقيقة هي أن الأكاديميين والباحثين وخبراء الاستدامة هم الذين وجّهوا الأشخاص مثلي في الاتجاه الخاطئ. حتى في يومنا هذا، في معاقل التعليم العالي، تعلن بعض الأصوات الرائدة، وليس جميعها، أنه يمكننا إعادة اختراع الأعمال التجارية من أجل الصالح العام. بعض الأكاديميين يقاومون، لكنهم يظلون على الهامش. نتيجة لذلك، تضمن درجة ماجستير إدارة الأعمال المستدامة أن يتم دفن الخريجين في الغرف الخلفية للقيام بحسابات رصيد الكربون، عالقين في صندوق مصنوع من حلول مربحة للجميع والعمليات التشغيلية الخضراء كحل للتغير المناخي. لا يمكن لهؤلاء الخريجين التحريض ضد سياسة الشركة أو التأثير عليها أو اتخاذ موقف سياسي أو حتى التحدث إلى الرئيس التنفيذي. وبغض النظر عن مناصبهم، لا يمكنهم التأثير على التغير المناخي أو على الاستدامة الحقيقية. والأسوأ من ذلك، أن الإشارة إلى عدم فعالية هذه الاستراتيجية المعطلة، لأنها تتعارض على نحو صارخ مع الوضع الراهن الراسخ، يمكن أن تتسبب في تصنيف الموظف على أنه غير مستقر أو راديكالي خطر. كافح صديق وزميل في شركة كبيرة ذات تطلعات خضراء ضخمة لسنوات من أجل حمل الشركة على الالتزام بـ “حلول الكربون المستندة إلى السوق”، وهو أدنى حد للسياسة الصديقة للبيئة على الإطلاق. (وكان هذا الكفاح لحث الشركة فقط على الموافقة أن مثل هذه الحلول مقبولة، لا أن تعلن عنها). الحقيقة هي أن عمل معظم مدراء استدامة الشركات يسير دون هدف واضح، ولا يحقق عمل هؤلاء أي نفع يذكر.

إلا أن ما يثير الحزن، هو أن معظمنا من الممارسين لا نزال غير قادرين على التفكير خارج ذلك الصندوق حتى الشركات التي تفهم هذا الأمر – مثل سيلز فورس (Salesforce)، التي تعتبر في الواقع رائدة في نوع الإجراء الفعال الذي أتحدث عنه – لا تزال تؤكد في الغالب على معالجة بصمتها الخاصة في موادها العامة، وتُهمّش تقريباً التوجه للسلطة الحاسمة والضغط عليها لتفعل ذلك جيداً. قد يكون الجانب الكبير الواقع على عاتق الشركات الأميركية، التي تضيّع السياسات العامة سعياً وراء الفتات من العمليات التشغيلية، بدأ مع مباركة قطاع الوقود الأحفوري ودعمه، ولكن تم شراؤه وتنفيذه بواسطة أشخاص من الداخل: خبراء وقادة الاستدامة، والجامعات والشركات ومراكز الفكر.

مُستقبل نصنعه بأيدينا

إن الصحافة المشابهة لتلك التي يتّبعها رواة الحقيقة المذكورون أعلاه هي إحدى الطرق التي يمكننا بها شقّ طريقنا للخروج من هذا الوضع. إلا أن تعميم ذلك المستوى من النزاهة والتحري صعب في عالم محكوم ومُمتلك بالكامل: تكتب إميلي أتكين في قناة إم إس إن بي سي (MSNBC)، التي تعرض إعلانات التمويه الأخضر عن الطحالب التي تُقاضى شركة إكسون موبايل (ExxonMobil) بسببها. ومن هنا تنبع الأهمية المتزايدة لدور الأكاديميين؛ على الرغم من أن الجامعات نفسها تتأثر بشدة بالدولارات التي يضخها الوقود الأحفوري، فقد تكون أكثر استقلالاً من وسائل الإعلام ويمكن أن تبدأ تغييراً جذرياً في فهمنا للشركات المستدامة من خلال توجيه الأبحاث والمناهج الدراسية نحو الأساليب التي تعالج بالفعل مشكلة المناخ، بدلاً من التظاهر بفعل ذلك فحسب.

يعج التحالف للأبحاث حول استدامة الشركات – وهو تحالف غامض ونبيل – بالمتمردين الذين يفهمون النقاط التي أُثيرت في هذا التحليل، ونتيجة لذلك، يمكن أن يبدؤوا في توجيه البحث بعيداً عن النقاشات المثقفة حول نقاط الاهتمام الصغيرة والتركيز على الجانب الأكاديمي لحلول المناخ الحقيقية. وأكرر أن هذه الحلول لن تدور حول فاعلية الموارد أو الحسابات المعقدة التي تظهر أن فعل الخير يوفر القيمة السهمية للشركة، ولكن حول استخدام السلطة والثورة، وهو نوع الدراسة التي أجرتها ثيدا سكوكبول (Theda Skocpol)، ولكن من وجهة نظر تجارية. ولا يتمحور السؤال هنا حول الاستطلاع التقليدي لتصنيفات الشركات: “كيف يمكن للشركات الانتفاع من كونها صديقة للبيئة؟”، بل يكمن السؤال في “كيف يمكن للشركات أن تكون جزءاً من الثورة الاجتماعية والسياسية المفيدة، وحتى تتحرى عنها؟” المفارقة هي معرفتنا أنه يمكن القيام بذلك لأن قطاع الوقود الأحفوري كان ناجحاً إلى حد كبير في فعل العكس تماماً.

من الممكن أيضاً أن تستفيق الشركات وتفي أخيراً بوعدها في إنشاء حركة الاستدامة. وفي حين يكون الأمل هنا استراتيجية خاسرة، توجد عدة مؤشرات أن هذا الأمر سيحدث بالفعل، على الرغم من أن الإجراءات الناتجة تطورية للغاية لذا لن تتمكن من تحقيق تغيير سريع. قام لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة بلاك روك (BlackRock)، وأكبر مدير مالي في العالم، بتغيير المحادثة في مجالس إدارة الشركات، وكان آخر إنجازاته دعوة الشركات في محفظته الاستثمارية إلى تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050. صحيح أن هذا الأمر يتجاوز الجانب السياسي للمشكلة، إلا أنه يستهدف قسماً كبيراً من عالم الشركات الكبرى. في غضون ذلك، بدأ التهديد المناخي المتزايد في تغيير القطاع المصرفي، أولاً في أوروبا، وفي أطراف الولايات المتحدة، ما أدى إلى إبعاده عن استثمارات الوقود الأحفوري غير الأخلاقية والمحفوفة بالمخاطر المالية. قد تستيقظ الحكومة أيضاً، كما يبدو أنها تفعل في الولايات المتحدة، وتقرّ التشريعات التي تُقدّر العوامل الخارجية وتدفع الشركات الكبرى والطيف الأوسع من المجتمع إلى فعل الشيء الصحيح الذي يُحدث فرقاً. إن إجراءات بايدن الشديدة تجاه أزمة المناخ تكاد تكون صادمة، إلا أنه يحتاج إلى الدعم من منظومة الشركات.

أخيراً، إن الحركات الاجتماعية مثل حياة السود مهمة، التي تسلط الضوء على عدم كفاءة الإجراءات التي تتخذها الشركات بشأن إحقاق العدالة، وازدواجية الحديث التقدمي الذي تقوضه سياسات الغرف الخلفية والتبرعات السياسية المناهضة للتقدم، ستعزز تلقائياً الحث على العمل المناخي الهادف، نظراً لأن قضية المناخ هي قضية عدالة أيضاً في النهاية، وبما أن الحلول، مثل فصل الأموال عن السياسة وزيادة وصول الناخبين تساعد أيضاً حركة معالجة أزمة المناخ. يُعد دعم الشركات لحركة حياة السود مهمة جزءاً من العمل الشاق الأخلاقي الذي يبدو محفوفاً بالمخاطر لحركة معالجة أزمة المناخ.

ما نعرفه هو أننا لا نستطيع النجاة في الوضع الراهن، لأنه يتعهد بالولاء لإله مزيف، إله يفترض أن الشركات، إذا كانت غير مقيدة، ستنقذنا. يقول كورماك ماكارثي: “ذلك الإله يعيش بصمت، ذلك الذي طهّر الأرض بالملح والرماد”.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.