
في شهر مايو/أيار من عام 2009، طلب مني مسؤول التطوير في جامعة "ميشيغان"، مقابلة متبرع محتمَل وهو لاعب كرة قدم سابق ورجل أعمال ناجح لديه اهتمام بالقضايا البيئية والأعمال حالياً، التي تعدّ ضمن مجال خبرتي الشامِل لعدة تخصصات. بدأ الاجتماع في الساعة السابعة صباحاً، وكنت أعِدّ أول فنجان قهوة لي، حينما باشر المتبرع المحتمَل حديثه، بقوله: "أعتقد أن عملية المراجعة العلمية فاسدة"، فسألته عن رأيه في جامعة تعتمد هذا النظام، فأجاب بأنها فاسدة في هذه الحالة أيضاً، ليتابع ويصف علم التغير المناخي بأنه خدعة، مستخدماً جميع الخطوط الهجومية المعروفة؛ من البقع والتوهجات الشمسية، إلى نموذج التوافق غير العلمي والفاسد سياسياً، والفوائد البيئية لثاني أكسيد الكربون.
التغير المناخي
وبينما كنا نناقش كل نقطة، وجه هجومه إليّ متسائلاً لماذا كرهت الرأسمالية، ولمَ أردت تدمير الاقتصاد بتدريس القضايا البيئية في كلية إدارة الأعمال. وفي النهاية، سألني عما إذا كنت أعرف لماذا حُدِّد يوم الأرض في 22 أبريل/نيسان.
تنهدت في أثناء شرحه: "لأنه يوم ميلاد "كارل ماركس"، (أظن أنه قصد أن يقول "فلاديمير لينين"؛ الذي يصادف يوم ميلاده يوم الأرض أيضاً. وتم الربط بين يوم الأرض وميلاد لينين من قِبل البعض من حزب اليمين المتطرف الذين يعتقدون أن يوم الأرض هو مؤامرة شيوعية، على الرغم من أن "فلاديمير" لم يدع يوماً إلى حماية البيئة، وليس للشيوعية إرث بيئي قوي).
التفتُّ إلى مسؤول التطوير وسألته: "ما هو جدول أعمالنا هنا هذا الصباح؟"، قاطعني المتبرع ليقول إنه يريد شراء تذكرة لي لحضور المؤتمر السنوي الرابع لمؤسَّسة "هارتلاند إنستيتيوت" (Heartland Institute)، حول التغير المناخي، وهو المؤتمر الرائد للمشككين في التغير المناخي. فتحققت من جدول أعمالي، وتذرّعت بالتزامات سابقة، ورفضت حضوره بلطف، وسرعان ما انتهى الاجتماع.
قضيت ذلك الصباح أحاول استيعاب ما دار خلال الاجتماع. في البداية كل ما استخلصته منه أنه كان على مبدأ ألقِ طُعماً ثم بدّله؛ إذ لم يكن المتبرِّع مهتماً بتمويل الأبحاث في مجال الأعمال والبيئة، ولكنه أراد بدلاً من ذلك انتقاد تلك المساعي.
لقد رفضته باعتباره متعصِّباً غير منطقي، لكن الاجتماع ظل عالقاً في ذهني، وكلّما فكرت في الأمر، بدأت أفهم أنه كان ينطلق في حديثه من منظور متماسك ومتناسق للعالم؛ منظور لم أتفق معه، لكنهكان منظوراً متماسكاً. بالإضافة إلى أنه ساعدني في أبحاثي، فكلّما فكرت في نقاشنا، زادت لهفتي لأتعرف على منطلَقه، ومنطلَقي، ولماذا تعارَضت نظرتَينا للعالم بشدة في الجدل الاجتماعي الحالي حول علوم المناخ، ومن المفارَقات، أن رغبته في تحدي بحثي، كانت سبباً في تحفيز مسار بحثيٍّ جديد يتوافق تماماً مع مخططي لإجراء أبحاث أوسع حول التغيير الاجتماعي والمؤسَّسي والثقافي.
التوافق العلمي مقابِل التوافق الاجتماعي
لا شك اليوم في وجود توافق علمي حول قضية التغير المناخي. لقد وثَّق العلماء أن المصادر البشرية المنشَأ للغازات الدفيئة تؤدي إلى تراكمها في الغلاف الجوي، ما ينتج عنه ارتفاع درجات الحرارة العامة في المناخ العالمي، وتبدُّل في التوزيع الإحصائي لأنماط الطقس المحلية.
على مدى فترات زمنية طويلة اعتمدت مجموعة كبيرة من الوكالات العلمية هذا التقييم، من ضمنها كل الوكالات العلمية الوطنية لدول مجموعة الثماني ومجموعة الخمسة، والغالبية العظمى من علماء المناخ، كما تدعم غالبية المقالات البحثية المنشورة في المجلّات العلمية المرجعية هذا التقييم العلمي، وتستخدم كل من "الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم" و"الجمعية الأميركية لتقدُّم العلوم" كلمة "توافق" عند وصف حالة علوم المناخ.
ومع ذلك، لا وجود للتوافق الاجتماعي بشأن التغير المناخي؛ تبيّن الاستقصاءات أن إيمان الشعب الأميركي في علم التغير المناخي قد تراجع في غضون خمس سنوات، مع بقاء نسبة كبيرة من السكان مشكِّكين فيه؛ حيث تراجَع إيمانهم به من 71% إلى 57% بين أبريل/نيسان 2008 وأكتوبر/تشرين الأول من عام 2009، وفقاً لاستطلاع رأي أجراه مركز "بيو للأبحاث" (Pew Research Center) في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2009، ثم عاودت النسبة لاحقاً إلى الارتفاع إلى 62%، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن استقصاء وطني للرأي العام الأميركي حول التغير المناخي في فبراير/شباط من عام 2012.
يخبرنا هذا الكمّ الضخم من المعارِضين أننا نفتقر إلى مجموعة معتقدات مقبولة اجتماعياً عن التغير المناخي؛ لا يقصَد بها المعتقدات التي تنبع من الميول الفردية، بل تلك التي تنبع من الأعراف الاجتماعية؛ معتقدات تمثِّل كل من ينتمي إلى اليسار السياسي، واليمين السياسي، وحزب الوسط، بالإضافة إلى كل من تكون هوياتهم الثقافية حضرية أو ريفية أو دينية أو ملحدة أو يافعة أو متقدِّمة في السن أو عرقية أو عنصرية.
لماذا الأمر على هذا الحال؟
لماذا يرفض هذا العدد الكبير من الأميركيين توافق المجتمع العلمي؟ وفقاً لاستقصاء أجرته أكاديمية "كاليفورنيا للعلوم" في عام 2009، فإن أكثر من ثلثي الأميركيين لا يفهمون العلم أو العملية العلمية بوضوح، وقلّة منهم قادرون على اجتياز اختبار معرفة علمية بسيط حتى؛ وهذا يجعلنا نتساءل: كيف يفسِّر الناس آراء المجتمع العلمي ويتحققون من صحتها؟ لا تبحث عن إجابات لهذا السؤال في العلوم الفيزيائية، بل يمكنك العثور عليها في مجالات العلوم الاجتماعية من علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإنسان وغيرها.
لنفهم الإجراءات التي يمكن أن تؤدي إلى نشوء توافق اجتماعي حول التغير المناخي، يجب أن ندرك أن الناس يبنون آراءهم عن هذه القضية وغيرها من القضايا العلمية المعقَّدة، على خياراتهم العقائدية السابقة وخبراتهم الشخصية وقيمهم، وكلها تتأثر بشدة بمجموعاتهم المرجعية وفلسفتهم الفردية. قد يضع علماء الفيزياء معايير لفهم الجوانب التقنية للجدل حول المناخ، لكنهم لا يملكون الكلمة الفَصل فيما إذا كان المجتمع يتقبَّل أو حتى يفهم استنتاجاتهم. تتجاوز دائرة الفئات المهمّة في الجدل الاجتماعي الخبراء العلميين، كما تتعدّى الإجراءات التي ستؤدي إلى فهم هذه الفئات علم التغير المناخي وتقييمه جدارتهم التقنية بأشواط. علينا أن نعترف بأن الجدل حول التغير المناخي، هو جدل حول الثقافة والنظرة للعالم والمعتقدات، على غرار جميع القضايا البيئية تقريباً.
يمكن رؤية هذه الحقيقة بوضوح شديد في الانقسام الحزبي المتزايد حول هذه القضية، إذ يرتبط الانتماء السياسي – وليس المعرفة العلمية – بشدة مع الارتياب الفردي من التغير المناخي، حيث انخفضت النسبة المئوية للمحافظين والجمهوريين الذين يعتقدون أن تأثيرات الاحتباس الحراري قد بدأت بالظهور فعلاً من حوالي 50% في عام 2001 إلى حوالي 30% في عام 2010، على حين ارتفعت النسبة المئوية المقابِلة لليبراليين والديمقراطيين من حوالي 60% في عام 2001 إلى حوالي 70% في عام 2010.
أصبح التغير المناخي محصوراً بما يسمّى بالحروب الثقافية؛ حيث يُنظر إلى تقبّل التوافق العلمي على أنه توافق مع وجهات النظر الليبرالية التي تتوافق مع قضايا "ثقافية" أخرى تقسِّم البلد (الإجهاض، والتحكم بالأسلحة، والرعاية الصحية، والتطور). لم يكن الانقسام الحزبي حول التغير المناخي هو الحال السائدة في التسعينيات، بل هو ظاهرة معاصرة، برزت في أعقاب اتفاقية "كيوتو" في عام 1997، التي هددت الحصص المادية للمصالح الاقتصادية والسياسية القوية، وخاصة الأفراد المنتَمين إلى أوساط صناعة الوقود الأحفوري. إن الخطر الكبير لذلك الانقسام الحزبي المطوَّل يكمن في أن الجدل سيأخذ منحىً أسميه "الانقسام في المنطق"، وهو تداعي الجدل بحيث تتحدث الأطراف المتعارضة عن قضايا ثقافية مختلفة كلياً.
تسعى هذا السلسلة إلى الخوض في الجدل حول التغير المناخي من منظور العلوم الاجتماعية. لم أتبع هذا النهج لأن العلوم الفيزيائية أصبحت أقل أهميةً، بل لأننا نحتاج إلى فهم الآليات الاجتماعية والنفسية التي يتلقّى الناس من خلالها علم الاحتباس الحراري ويفهمونه؛ سأوضّح الأبعاد الثقافية للجدل المناخي بوضعه الحالي، وأحدد ثلاثة مسارات محتمَلة يمكن أن يتقدَّم الجدل باتباعها، وأشرح أساليب محددة تقود هذا الجدل نحو توافق أوسع، وهذا هدف حتمي، فدون توافق أوسع حول التغير المناخي في الولايات المتحدة لن يتمكن الأميركيون والشعوب حول العالم من صياغة حلول اجتماعية وسياسية واقتصادية فعّالة للتكيّف مع الظروف المتغيّرة على كوكبنا.
لمتابعة الجزء الثاني من السلسلة؛ أقرأ: الحرب الثقافية على علوم المناخ (الجزء الثاني)
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.