هل يجب علينا العمل من أجل إنصاف الجميع؟

7 دقيقة
الإنصاف وخدمة الجميع
shutterstock.com/bob boz

ملخص: قبل 25 عاماً، تأسست مؤسسة بوليسي لينك لتعمل بجرأة على تعزيز الإنصاف العرقي بقيادة قادة من أصحاب البشرة السمراء، وتبنت المؤسسة رؤية جديدة تتجاوز المساواة والعدالة التقليدية لتضم الشمول العادل. وعلى الرغم من تحقيق انتصارات سياسية ملحوظة، ما زالت الأنظمة التي تفرز عدم الإنصاف في المجتمع قوية، ما يتطلب تعزيز الالتزام بالتفكير والتجديد لمواجهة التحديات المستقبلية. لتحقيق التغيير، يجب على مؤسسة بوليسي لينك وغيرها من المؤسسات التي تسهم في دفع حركة الإنصاف مواجهة الذات باستمرار والسؤال عن فعالية الممارسات القديمة ومدى تحقيق الأهداف. يتطلب النجاح في ذلك التحلي بالشجاعة لتغيير الطرق التقليدية والتكيف مع واقع جديد، مع التركيز على الشمولية والإنصاف، إذ عليهم التخطيط لمستقبل منصف بعيداً عن الإنجازات الرمزية، حيث يشارك الجميع في بناء ديمقراطية واقتصاد مزدهرين.

لكي نجدد أنفسنا وأمتنا، علينا التخطيط والبناء لمستقبل يشمل الجميع ولا تمتاز فيه فئة على حساب أخرى فيسعى الجميع إلى تحقيقه.

قبل ربع قرن، أجرى القادة المؤسسون لمؤسسة بوليسي لينك (PolicyLink) تجربة جريئة عندما أنشؤوا مؤسسة سياسات بقيادة قادة من أصحاب البشرة السمراء وتتخذ من منطقة بعيدة جداً عن واشنطن مقراً لها، وتهدف إلى تعزيز الإنصاف العرقي. قد لا تبدو هذه التجربة مغامرة كبيرة في وقتنا الحالي، لكنها كانت فكرة ثورية في ذلك الوقت. فقد خالفت نصائح بعض الأصدقاء والحلفاء المقربين الذين لم يعتقدوا أن الولايات المتحدة كانت مستعدة لمثل هذه الفكرة، فقد اعتقدوا أن الناس يفهمون المساواة والعدالة، ولكن من الصعب إقناعهم بمفهوم الإنصاف.

وكان في نصحهم شيء من الحقيقة، فلم تكن الولايات المتحدة مستعدة بعد، لكننا نادراً ما اعتمدنا على استعدادنا في اللحظات الحاسمة من تاريخنا. كانت مفاهيم المساواة والعدالة محدودة وغير كافية لتحقيق إمكاناتنا كأفراد ومجتمع على الرغم من أهميتها. تطلبت الرؤية التي تأسست عليها مؤسسة بوليسي لينك تبني وجهة نظر جديدة وخلاقة توجه تركيزنا الجماعي نحو أفق مليء بالإمكانات. سواء كنا مستعدين أم لا، كانت تلك الرؤية تتطلب الإنصاف، أي الشمول العادل والمنصف في مجتمع يمكن للجميع أن يشارك فيه ويزدهر ويحقق كامل إمكاناته.

يشهد العالم تغيراً مستمراً منذ تأسيس المؤسسة؛ لذا يجب علينا أن نتغير معه. فقد تعاملت البلاد مع القضايا العرقية بطرق جديدة، كان أكثرها مؤلماً وقليل منها حمل بعض الوعود. عملت حركتنا على صياغة الأطر وإظهار البيانات لتقديم المتأثرين بالاضطهاد الهيكلي في الحوار العام؛ وذلك لتعزيز مبدأ الإنصاف وبناء الإرادة السياسية للعمل وفق هذا المبدأ، وإعلاء صوت الذين طالما استبعدتهم البلاد من النقاشات السياسية وعمليات صناعة القرار وإيصال حكمتهم وتجاربهم. واليوم، أصبح "الإنصاف" جزءاً شائعاً من الخطاب المستخدم في جميع القطاعات.

كما حققت حركة الإنصاف انتصارات سياسية على مختلف المستويات الحكومية بما فيها الأوامر التنفيذية الرئاسية، بالإضافة إلى مختلف المستويات في القطاع الخاص. ساعدت جهودنا المشتركة في تشكيل تاريخ الولايات المتحدة عبر هذه الإنجازات، فقد أظهر تفانينا وترابطنا وتضامننا أعظم مواطن قوتنا.

ومع ذلك، فإن الهزات السياسية التي شهدتها الولايات المتحدة في السنوات الـ 25 الماضية تعتبر تذكيراً قوياً بأن انتصاراتنا ليست دائمة. فعلى الرغم من التقدم التدريجي المحرز، يبدو أن الأنظمة التي تفرز عدم المساواة والظلم محصنة ضد التحول، وتبدو الانقسامات الأيديولوجية أعمق من أي وقت مضى. لقد شهدنا ازدواجية في التفكير واستقطاباً أيديولوجياً في الجسد السياسي الأميركي، وذلك يؤجج المعاناة الإنسانية والشك الخبيث في مصداقية مؤسساتنا الأهلية.

لكننا لا نستطيع التراجع الآن، وعلينا أن نقوّي التزامنا بالعالم الذي نريد بناءه. نحن ورثة أمة ما يزال بإمكانها أن ترقى إلى مستوى مُثُلها العليا النبيلة، وهي هبة ومسؤولية عظيمة في آن واحد. وعلينا أن نتذكر كلمات وزير الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية الأميركي الأسبق جون غاردنر الذي حذر من خطر ضمور المؤسسات والمجتمعات والقادة الذين يعجزون عن تلبية الحاجة إلى التفكر والتجديد، حيث يقول: "المعايير العالية ليست كافية، قد تصبح المجتمعات التي حققت درجات عالية من التميز أسيرة الجمود الذي يؤدي إلى انهيارها. قد تلتزم المؤسسات بأعلى المعايير، ومع ذلك تكون قد دخلت بالفعل في حالة من القناعة بالوضع الراهن التي تؤدي إلى تراجعها في النهاية".

إذا أردنا أخذ هذا التحذير بشأن التراجع الذي قد يصيب مؤسساتنا وقيادتنا على محمل الجد، يجب علينا التفكر في أفعالنا بتواضع وتحمّل للمسؤولية بكل صدر رحب. وأن نسأل أنفسنا، ما العادات التي لم تعد مفيدة لنا؟ ما الممارسات التي باتت تنتمي إلى أطر عمل قديمة؟ ما هي الحلول والأفكار التي اعتبرناها غير واقعية بدلاً من اتخاذ خطوات فعلية لتحقيقها؟ ما هي المعارك الرمزية والنقاشات الصورية والتعديلات الشكلية التي استنزفت قوة حركتنا في مواجهة الأنظمة القمعية؟

واجهت قيادة مؤسسة بوليسي لينك هذه الأسئلة في عملية متواصلة من التأمل الذاتي. سألنا أنفسنا مراراً وتكراراً كما ينبغي لجميع المؤسسات أن تفعل: "هل نستحق أن نستمر في الوجود؟" النتيجة التي نسعى إلى تحقيقها، هي الغاية الجوهرية التي نرغب في أن نُحاسب على التقصير في بلوغها، وهي أن يتمكن الناس جميعهم في الولايات المتحدة الأميركية -وخاصة أولئك الذين يواجهون عوائق الاضطهاد الهيكلي- من المشاركة في ديمقراطية مزدهرة، والازدهار في اقتصاد عادل، والعيش في مجتمعات تزخر بالفرص. لكن، هل ندير مواردنا ونحشد جهودنا لتحقيق تقدم فعلي ملموس نحو هذه الغاية؟

تغيرت البيئة السياسية والاجتماعية التي نعمل في ظلها، بغض النظر إن كان ذلك للأفضل أم للأسوأ، وندرك أن خرائط الأمس لم تعد تعكس بدقة تضاريس الغد. كتب الكاتب الإنكليزي هربرت جورج ويلز: "إما التكيف وإما الهلاك، هذه هي حتمية الطبيعة التي لا ترحم". هذا هو المفترق الذي وصلت إليه حركتنا وأمتنا. إذا أردنا الاستمرار في تغيير العالم، فعلينا أن نستعد لتغيير أنفسنا ومؤسساتنا وطرق وجودنا في هذا العالم.

الحقيقة المرّة التي تواجهها حركتنا الآن هي أننا إذا أردنا تحقيق أهدافنا، يجب أن نكون مستعدين للتفكير والتحرك بطرق مختلفة، وإلا فإن الاكتفاء بإنجازاتنا قد يصبح سبب هلاكنا. يرى عالم النفس الأميركي غاردنر أن "التجديد ليس الابتكار والتغيير فحسب، بل عملية تجعل نتائج التغيير تتماشى مع الأهداف".

لكي نجدد أنفسنا وأمتنا، يجب أن نحتل أعلى مكانة معنوية وسياسية، ونقوي أنفسنا لنكون مستعدين لتعزيز التغيير. علينا التخطيط والبناء لمستقبل يشمل الجميع ولا تمتاز فيه فئة على حساب أخرى، فيسعى الجميع إلى تحقيقه. يجب أن نعمل بمحبة لا تلين، وأن نعزز الجانب المعنوي والتفكير الثوري العملي اللذين يتطلبهما المستقبل.

تتطلب القيادة الأخلاقية الاعتراف بالتحديات، وأخذ الاعتراضات في الحسبان، وإظهار الاستعداد لفعل ما هو صحيح وعادل، وتحمل المسؤولية عن النتائج.

نشرنا قبل 6 أعوام تقريراً بعنوان "100 مليون والعدد في ازدياد: صورة للوضع الاقتصادي غير المستقر في الولايات المتحدة" (100 Million and Counting: A Portrait of Economic Insecurity in the United States)، لتقديم تقييم واقعي ومدعوم بالبيانات للتحديات الاقتصادية التي تواجه الكثير من الناس في البلاد. وعندما بدأنا نتبنى أسلوباً أكثر انضباطاً تجاه نتائجنا التنظيمية، اكتشفنا أن هناك أكثر من 100 مليون شخص في الولايات المتحدة يعيشون في الفقر أو بالقرب منه، ونصفهم من أصحاب البشرة البيضاء.

أظهرت البيانات اضطهاداً هيكلياً، ورأينا أن هذا الاضطهاد قد تفاقم وانتشر. انتشر الإقصاء والتهميش والاستغلال عبر الأنظمة ملحقة جروحاً عميقة بالأفراد والمجتمعات، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية أو الجغرافيا. رأينا بوضوح عمق الألم الذي يعيشه الكثير من الناس.

كانت هذه اللحظة نقطة تحول عميقة لمؤسستنا، إذ سألنا أنفسنا: هل سنركز على الـ 100 مليون شخص ونخدم من تشير البيانات إلى أنهم بحاجة إلى خدمتنا؟

لقد بنينا رسالتنا وإرثنا على مبدأ التركيز على الإنصاف العرقي. كان فريق عملنا، وما يزال، يتألف في الغالب من ذوي البشرة الملونة، جميعهم ملتزمون بمعالجة التفاوتات العرقية. كان بعضنا يشعر بالقلق من فكرة أن مؤسسة بوليسي لينك ستستهدف 100 مليون شخص؛ فقد بدت وكأنها تقلل من تركيزنا على الإنصاف العرقي. وكانوا يتساءلون: ألا يجب علينا التركيز على احتياجات ما يقرب من 50 مليون شخص من ذوي البشرة الملونة ضمن تلك المجموعة؟ هذا القلق لم يكن بلا مبرر، فبالنسبة لأصحاب البشرة السوداء والداكنة الذين عاشوا في ظل العنصرية الهيكلية، كان الخوف من احتمال أن يطلب أحد منهم التضحية بحضورهم الذي اكتسبوه بصعوبة أو تعليقه أمراً مفهوماً. وبالنسبة للذين كرّسوا حياتهم لهذا العمل، كان التهديد المحتمل لهويتهم وطريقة تعاملهم مع المجتمع أمراً له مبرراته.

واجهنا تساؤلات حول من سنخدم ومن سنتجاهل، هل سنتخلى عن القيود المألوفة حتى "الناجحة" منها التي عملنا في إطارها لنلتزم بمبدأ أعمق وإن كان أكثر صعوبة؟ كنا في موقف لا نحسد عليه، إذ سمعنا اعتراضات تقول إن خدمة الجميع ستكون خطوة ساذجة وستؤدي إلى نتائج عكسية. كما سمعنا مخاوف من أن توسيع نطاق رؤيتنا قد يفسره البعض على أنه تخلٍّ عن رسالتنا التي لم تكتمل بعد. لكنه كان موقفاً يعبر عن عزمنا الثابت على الاستجابة لنداء الإنصاف مهما كان الثمن.

لم يسمح لنا ضميرنا أن ننكر حق أي إنسان. بالنسبة لمؤسسة بوليسي لينك فإن احتضان الـ 100 مليون شخص جميعهم كان يتماشى مع تعريف الإنصاف الذي كان دائماً صميم رسالتنا، التي هي الشمول العادل والمنصف في مجتمع يمكن للجميع أن يشارك فيه ويزدهر ويحقق إمكاناته الكاملة. بعبارة أخرى، أهداف الإنصاف هي دائماً أهداف الجميع: تحويل مجتمعنا -قوانيننا، أنظمتنا، أعرافنا، مؤسساتنا، وطرق تواصلنا- بحيث يمكن للجميع أن يزدهر.

مهمة القيادة ليست تجنب المشكلات، بل الالتزام التام بما هو صحيح وعادل وصادق. تتطلب القيادة الأخلاقية الاعتراف بالتحديات، وأخذ الاعتراضات في الحسبان، وإظهار الاستعداد لفعل ما هو صحيح وعادل، وتحمل المسؤولية عن النتائج.

ندرك أن احتضان مفهوم "الجميع" كأقصى تعبير عن الإنصاف ليس أمراً يسيراً، لكنه السبيل الوحيد للوصول إلى المستقبل الذي نطمح إليه، وهو مجتمع لا يحدد فيه العرق أو المنطقة السكنية مصير الفرد، وأمة لا يعاني أي شخص فيها العنف أو الفقر أو الجوع أو الحرمان، وتفكيك الأنظمة الاجتماعية القائمة على التسلسل الهرمي الظالم لقيمة البشر.

المهمة الأهم لجيلنا ليست إعادة النظر في التحديات التي نواجهها أو إعادة صياغة حلولها. لا يمكن تقديم مقترح أقوى من الذي قدمناه بالفعل بشأن الشمول والانتماء، وحركتنا أظهرت البراعة والتفوق التقني والتفاني اللازم. ومع ذلك، فإن هذه الصفات وحدها لن تكون كافية لتحقيق وعد الإنصاف.

علينا أن نستجمع الآن كل الشجاعة والانضباط لإعادة تشكيل مجتمعنا بحيث يتمكن الجميع من الازدهار والنمو، وأن نعمل على مستوى الفرص السانحة.

يقول الطبيب النفسي النمساوي ألفرد أدلر: "النضال من أجل المبادئ أسهل من الالتزام بها". وينطبق هذا الكلام أكثر عندما يكون المجتمع الذي يتيح لنا الالتزام بوعد الإنصاف ليس موجوداً بعد. لقد نشأنا على الكفاح من أجل القضية العادلة في عالم لا يستطيع تحمل أن نعيش وفقاً لأسمى مبادئنا، فما بالك بالمطالبة بها. يجب أن نبدأ بأنفسنا، وبذلك ندعو إلى عالم جدير بمثلنا العليا.

هذه هي رحلتنا اليوم، وندعوك للانضمام إليها. في هذا المقال، أوردنا لمحة عن مسارنا نحو احتضان الجميع. وفي مقال "ثورة الروح" (A Revolution of the Soul)، نقدم بعض الأفكار التي استخلصناها والتحديات التي واجهناها، ونوضح لماذا يجب أن نتعلم حب الجميع.

مهمتنا القادمة هي تحقيق قفزة نوعية لبناء أنظمة اجتماعية ثقافية قائمة على الحوكمة لتخدم ازدهار الإنسان وتغرس في أرواحنا حباً راسخاً للجميع.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال من دون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.