لماذا يجب على الجامعات الانخراط بشكل أكبر في قضايا المجتمع الملحة؟

4 دقائق
الأبحاث الجامعية
shutterstock.com/Oscar Johns

على مدى العقد الماضي، واجهت الجامعات انتقادات مستمرة بسبب ممارساتها النخبوية، مثل التحيز السياسي واكتناز التبرعات الكبيرة وعدم كفاية العائدات الاقتصادية التي تقدمها للطلاب، وبناءً على ذلك يمكن أن تكون المؤسسات التي توجه انتباهها نحو خدمة الصالح العام أكثر قدرة على النجاح وتحقيق قيمة مستدامة. بدأت بعض الجامعات العمل على تطوير ابتكارات لدعم المشاركة الاجتماعية بين الطلاب وشرعت بتنفيذ جهود على مستوى الجامعة بأكملها من أجل تثقيف الطلاب حول الأثر الاجتماعي. هذه الأفكار صائبة، إذ تهدف إلى إعداد قادة المستقبل الذين يتبنّون عقلية تركز على تحقيق الصالح العام، ولكن الابتكار المؤثر ممكن الآن أيضاً ويتمثل في إعادة صياغة أنظمة الحوافز ضمن الجامعة لدعم الأبحاث الجامعية التي تستجيب لتحديات الحياة على أرض الواقع.

يعمل الباحثون عادة بمعزل عن انتقادات الناقدين والسياسيين الذين يشككون في جدارة الجامعات بالمكانة والامتيازات التي تتمتع بها، ويعمل أساتذة الجامعة ضمن نظام يندر أن يطالبهم بإثبات قيمتهم للعموم في حين يكافَئ الأكاديميين على تطوير النظريات واختبارها ونشر النتائج في الكتب والمجلات المختصة في المجال. أي أن مهمتهم تتمثل في توليد المعارف، وإنتاج كثير منهم غزير بالفعل، ولكن نقل هذه المعارف الجديدة إلى التكنولوجيا العملية ليس شائعاً في العلوم الاجتماعية على عكس مجالَي الهندسة والطب حيث يُعتبر أعلى إنجاز مهني. وعلى الرغم من الابتكار في محتوى الأبحاث، فمؤسسات البحث في العلوم الاجتماعية بعيدة تماماً عن الابتكار فيما يتعلق بضمان استخدام الأبحاث في العالم الخارجي، ولكن قد يكون لهذا النوع من الابتكارات دور أساسي في تحقيق الأثر الاجتماعي، وبالتالي إثبات قيمة البحث لمن يشككون فيها.

يقول بعض المؤلفين إن أبحاث العلوم الاجتماعية غير قادرة على الانضمام إلى التيار السائد لأنها لا تصل في الوقت المناسب أو ليست ذات صلة بهذا التيار أو ليست متاحة بدرجة كافية، ولا شك في أن مشكلاتها لا تنحصر في ذلك، ولكن الدراسات حول فائدة الأبحاث توضح صورة أكثر تعقيداً، إذ تبين أن جودة العلاقات بين منتجي الأدلة ومستهلكيها والوسطاء الذين يجمعون بينهم لها أهمية محورية أكبر من أهمية جودة الأدلة نفسها في زيادة استخدام الأبحاث في السياسات والممارسات. لم تعتد الجامعات مكافأة الأساتذة على الوقت والجهد المبذولَين لبناء هذه العلاقات وتعزيزها، غير أنها ستكون خطوة تحويلية نحو زيادة الأثر الاجتماعي الذي تحققه الأبحاث الأكاديمية.

تشكّل العلاقات بين منتجي الأدلة ومستهلكيها أساس استخدام الأبحاث المتزايد في السياسات والممارسات. (الصورة: تانيا براغانتي لصالح مؤسسة ويليام تي غرانت فاونديشن)

ضرورة أن تعزز الجامعات علاقاتها مع المجتمعات وتستجيب لها ليست فكرة جديدة في الواقع، خذ مثلاً جامعة ويسكونسن ماديسون (University of Wisconsin-Madison) حيث كنت أستاذاً على مدى 3 عقود، إذ حرصت على تعزيز فكرة أن "حدود الجامعة هي حدود الولاية"؛ أي أنه يتعين على الجامعة توليد المعارف التي تعزز ازدهار الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية في الولاية بأكملها. على الرغم من استمرار هذه الفكرة، فقد انتشرت مؤخراً رؤية منافسة لها بين قادة حكومة الولاية تعتبر أن دور الجامعة الرئيس هو إعداد الموظفين لسوق العمل في الولاية، في حين تحقق الجامعات الكبيرة الأخرى تقدماً كبيراً في تحفيز بناء العلاقات القادرة على تحسين المجتمعات المحيطة بها وتقويتها. خذ مثلاً جامعة رايس (Rice University) التي يتمثل أحد أهدافها في "إشراك مدينة هيوستن وتعزيز نجاحها"، إذ أعلنت: "نحرص على مشاركة المدينة على اعتبارها محور تركيزنا وشريكتنا في الأبحاث والتعليم كي نسخّر خبراتنا الواسعة في القضايا المدنية المهمة ونحوّلها إلى قوة دافعة تحفّز نجاح مدينة هيوستن على اعتبارها إحدى مدن القرن الواحد والعشرين". أحد الجهود الخاصة التي تدعمها الجامعة هو جمعية أبحاث التعليم في مدينة هيوستن (Houston Education Research Consortium - HERC)، وهي شراكة بين الجامعة والدائرة التعليمية المستقلة في مدينة هيوستن تجري أبحاثاً تهدف إلى معالجة التحديات التي تواجهها المدينة في تعليم سكانها. منذ عام 2013 قدمت جمعية أبحاث التعليم في مدينة هيوستن 25 تقريراً بحثياً للدائرة التعليمية حول مواضيع مثل متعلمي اللغة الإنجليزية والخيارات البديلة للمدارس، وفعالية برنامج الدائرة التعليمية لمرحلة رياض الأطفال، ومؤشرات الانسحاب من المدرسة في المرحلة الثانوية وغيرها، واستخدمت الدائرة التعليمية هذه التقارير في عملية صنع القرار. يساعد هذا النوع من الشراكات في تقوية المجتمعات عن طريق تنمية رأسمالها البشري والاجتماعي مع إظهار قيمة الجامعة بالنسبة للولاية والمدينة، خذ مثلاً جمعية أبحاث التعليم في مدينة هيوستن ومؤسستها الأم اللتين تمكنتا من جذب دعم خيري كبير من المؤسسات الحليفة التي تتبنّى عقلية تركز على المصالح الأهلية وتدعم مشاركة الجامعة في المجتمع المحلي.

من دون الدعم على المستوى المؤسسي لن يكون لدى باحثي الجامعة حافز مهني للمشاركة في هذا النوع من الشراكات أو معالجة مسائل تتوافق بدرجة أكبر مع ظروف المجتمعات المحلية. لقد حان وقت التغيير، ومن أجل تحفيز هذا العمل وتقديم نموذج تحتذي به بقية الجامعات الأميركية أطلقت مع زملائي في مؤسسة ويليام تي غرانت فاونديشن (William T. Grant Foundation) مسابقة مِنح للجامعات العازمة على إعادة النظر في هيكلية نظام الحوافز لديها ومكافآت المِنح الدراسية وشراكات الأبحاث والممارسات المشارِكة في المجتمع؛ إذ يدعو البرنامج الذي أطلقنا عليه اسم برنامج مِنح التحديات المؤسسية (Institutional Challenge Grant) الجامعات للتشارك مع وكالة عامة أو مؤسسة لا ربحية وتطوير جدول عمل مشترك للأبحاث وتوفير زملاء البحث القادرين على تنفيذ البحث وبناء قدرات الوكالة كي تتمكن من استخدام أدلة البحث في عمليات صناعة القرار، كما يطالب الجامعة باقتراح طرق جديدة لدعم الأساتذة المشاركين في هذا النوع من الأعمال ومكافأتهم. مثلاً، يمكن للجامعة أن تعفي الأساتذة من العمل في التدريس كلياً أو جزئياً أو أن تقدم لهم رواتب مقابل عملهم في فصل الصيف، أو أن تحتسب أثر أبحاثهم في السياسات والممارسات عند اتخاذ القرارات المتعلقة بتقدمهم المهني.

بعد تلقي مشاركات 41 مؤسسة، قدمنا في شهر أبريل/نيسان أول مِنحة لجامعة كورنيل (Cornell University) التي تعمل بالتشارك مع ملحقها التعاوني في مقاطعة تومبكنز (Cornell Cooperative Extension of Tompkins County) من أجل معالجة أزمة الأفيون في شمال ولاية نيويورك، وتحديداً مشكلة تزايد معدلات الإساءة إلى الأطفال المترافقة مع تزايد الإدمان على الأفيون. سيعمل الباحثون على تقييم إجراءين تدخليَين قائمين على الأدلة في نظامَي القضاء ورعاية الأطفال، ومساعدة مزودي الخدمات على تطوير استجابات فعالة للمشكلات التي يواجهونها. كانت جامعة كورنيل قد اتخذت خطوات لإشراك مجتمعها المحلي من قبل أن تتقدم إلى برنامج المِنح، إذ أطلقت مبادرة تعمل على تعزيز الأبحاث والأنشطة الأخرى مع شركاء مجتمعيين، وسيعينها عملها الحالي على إحراز تقدم أكبر في دراسة طرق تطوير بنية تحتية تضمن مكافأة الأساتذة على انخراطهم في الشراكات وإجراء الأبحاث التي تستجيب لمخاوف المجتمع.

الأستاذتان لورا تاك (في المقدمة) وريتشل دانيفون من جامعة كورنيل، والأستاذة آنا ستاينكراوس (في الخلفية) من ملحق جامعة كورنيل التعاوني في مقاطعة تومبكنز في أثناء العمل على وضع خطة لشراكة المؤسستَين. (استُخدمت الصورة بإذن من جامعة كورنيل)

في الختام، يمكن عن طريق السعي لتحقيق أثر اجتماعي إيجابي بحشد مواهب أساتذة الجامعة ومعارفهم تغيير التصورات السائدة عن قيمة التعليم العالي، ولكن يجب أن يكون للأساتذة دور أكبر في الاستجابة المباشرة للمشكلات الواقعية. لا تقدم الجامعات في أنظمتها الحالية سوى مكافآت قليلة للباحثين الذين يدخلون في شراكات مصممة أساساً بهدف تحسين السياسات والممارسات، وسنحقق تقدماً كبيراً باتجاه تحقيق التغيير فعلاً إذا أعدنا توجيه أنظمة الحوافز في الجامعة، ليس لتقليل الدراسات المعروفة على مستوى العالم والقائمة على النظريات، ولكن لتعزيز قيمة العمل الذي يقدم أجوبة لمن يواجهون التحديات اليومية في عالمنا وإبرازها.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي