كيف يمكن للمؤسسات غير الربحية التاقلم مع التغييرات المستقبلية؟

7 دقائق
العمل عن بعد

في بداية جائحة كوفيد-19، اضطر ملجأ في منطقة الغرب الأوسط يقدم خدماته لـ 16 عائلة مختلفة إلى تجديد عملياته بصورة عاجلة، وشمل ذلك تغيير الإجراءات الروتينية في مواعيد تقديم الوجبات لمراعاة التباعد الاجتماعي، ومساعدة الآباء على نقل أطفالهم من التعلم ضمن المدرسة إلى التعلم عبر الإنترنت، وتخفيض عدد الموظفين ضمن الملجأ للحد من الانتشار المحتمل للفيروس. كما اضطر إلى إيقاف برنامجه التطوعي والتبرعات العينية مؤقتاً، وإلغاء مناسبة جمع التبرعات السنوية الرئيسة.

فرضت الجائحة هذه التغييرات الجذرية على المؤسسات من مختلَف القطاعات، لكنها شكلت تحدياً للمؤسسات غير الربحية بالذات: مع تزايد الطلب المعتاد على الخدمات في فترات الركود الاقتصادي، تعتمد المؤسسات غير الربحية على هياكل تشغيلية مرنة ومساعدة المتطوعين وتقديم الخدمات بصورة شخصية. ومع ذلك، أظهر بحثنا حول التغييرات الشخصية والمهنية التي مر بها موظفو المؤسسات غير الربحية في الولايات المتحدة أن المؤسسات تكيفت سريعاً مع إجراءات الحماية من كوفيد-19 وتبنت سياسات جديدة استجابة للاحتياجات المستجدة. على الرغم من الصعوبات التي واجهتها المؤسسات غير الربحية، وعلى عكس التصور الشائع عنها بأنها تفتقر إلى الفاعلية والكفاءة، فقد أثبتت مؤسسات كثيرة سرعة استجابتها وقدرتها على الابتكار، ونجحت في مواجهة الأزمة حتى الآن.

ولكن ما الذي ينتظر هذه المؤسسات في ظل ظهور متحورات جديدة للفيروس بالتزامن مع توقعات "العودة إلى الوضع الطبيعي"؟

مع تحول المؤسسات غير الربحية إلى "مؤسسات قادرة على التعلّم" تشارك في عملية مدروسة ومستمرة للتفكير والتقييم والتكيف، ستتمكن من تخطي الاكتفاء بإدراج إجراءات الاستجابة للجائحة في خطط إدارة المخاطر والعودة إلى وضع ما قبل الجائحة، لتعمل على دراسة ما تعلمته من التغييرات التي أجرتها والتفكير في إمكانية مواصلة العمل بها أو التخلي عنها.

التغييرات في قسم الموارد البشرية: هل نبقيها أم نتخلى عنها؟

أرغمت الجائحة المؤسسات غير الربحية في جميع أنحاء الولايات المتحدة على إعادة النظر في ممارسات التوظيف وسياساته الجديدة غير المثبتة غالباً واعتمادها، وبالتالي غيرت نظرة الموظفين إلى عملهم وطرق أدائه.

أكبر مثال على ذلك العمل من المنزل؛ قال أحد موظفي المؤسسات غير الربحية الذين تحدثنا إليهم إن العمل من المنزل كان أمراً "محظوراً إلى حد ما" قبل انتشار الجائحة، لكننا لاحظنا من خلال تحليل أبحاث أجريت في 43 ولاية أن المؤسسات غير الربحية انتقلت إلى السماح بالعمل الافتراضي عند الإمكان؛ كان الأمر بالنسبة لبعضها مسألة احتراز، بل تجسيداً للقيم المؤسسية التي تمنح الأولوية لسلامة الموظفين، في حين أنها كانت بالنسبة للبعض الآخر تقيداً بالتعليمات التي تصدرها السلطات المحلية.

كما طُلب من موظفي المؤسسات غير الربحية تنفيذ مهام إضافية و(أو) مختلفة مع تحمّل آثار جائحة كوفيد-19 الشخصية والجائرة غالباً في الوقت ذاته، وأثقلت مسؤوليات رعاية الأطفال كاهل النساء بأعباء كبيرة، وبالفعل قال ثلثا موظفات المؤسسات غير الربحية اللاتي استطلعنا آراءهنّ إنهن وجدن أنفسهن يتخبّطن بين مسؤوليات رعاية الأطفال ومسؤوليات العمل المتغيرة. وفي الوقت نفسه، ألقى فيروس كوفيد-19 نفسه آثاراً كبيرة على أصحاب البشرة الملونة في مرحلة سلطت فيها إعادة النظر في الاعتبارات العرقية على مستوى البلاد الضوء على العقبات المنهجية الطويلة الأمد التي تمنع إنشاء مكان عمل منصف.

أخيراً، بدأ بعض موظفي المؤسسات غير الربحية تغيير نظرتهم إلى دوافعهم للعمل؛ خذ مثلاً موظفة في مؤسسة غير ربحية لبناء القدرات، إذ قالت إنها كانت قبل الجائحة تكرس نفسها للعمل في القطاع غير الربحي بالكامل، أما الآن فلديها اهتمام متزايد بالشركات الحاصلة على شهادة "بي-كورب" لأنها تجذبها من الناحية المهنية و"أقل تعقيداً من الشركات غير الربحية". بما أن موظفي المؤسسات غير الربحية يتوقعون المرور بمرحلة أخرى من التغييرات المتعلقة بالجائحة، فمن المحتمل أن يبدؤوا البحث عن فرص جديدة تقنعهم بالانتقال إلى مؤسسات أخرى وإلى قطاعات أخرى أيضاً.

تعكس هذه الأمثلة التغيرات الرئيسة في مكان العمل ضمن المؤسسات غير الربحية، ومع ذلك، تُصرّ مؤسسات كثيرة اليوم على "العودة إلى الوضع الطبيعي" المتمثل في الحياة والعمل اللذين عرفناهما في عام 2019 والذي يتجاهل أحياناً الإرهاق والتوتر والصدمات المطولة التي مرت بها المؤسسات والأفراد على مدى العام ونصف العام الماضيين.

لذلك نحث على اتباع نهج قيادي متعاطف وتعاوني ومتفهم في المرحلة الانتقالية التالية. على الرغم من أن المؤسسات أجرت تغييرات عاجلة في قسم الموارد البشرية في بداية الجائحة، فكثير من هذه التغييرات خضع للتجربة الفعلية على مدى أكثر من 15 شهراً، ولم تعد الحجج المناهضة لأوقات العمل المرنة والعمل الافتراضي مقنعة كما كانت قبل الجائحة، إذ استمر الموظفون بتقديم أداء جيد بالفعل. يجب أن يعمل القادة على تقييم هذه السياسات بناءً على قابليتها للاستمرار ويقدّروا الخدمة التي قدمتها للمؤسسة في أثناء الجائحة والتفكير في طرق لاستمرار هذه الخدمة. على سبيل المثال، قد يكون الوقت مناسباً لتضع المؤسسات غير الربحية معايير لممارسات العمل عن بُعد أو تنشئ سياسة للعمل الهجين بما يتناسب مع الاحتياجات المؤسسية ويدعم مكامن قوة الموظفين وتفضيلاتهم في الوقت ذاته. من ناحية أخرى، قد نضطر إلى تغيير ما كان مجدياً في بداية الجائحة أو تعديله.

للتواصل المتبادل بين الموظفين أهمية حيوية في هذه العملية: أشار موظفو المؤسسات غير الربحية الذين قابلناهم إلى أن ثقتهم في القيادة كانت ضعيفة، لكن إحدى سبل تعزيز الثقة هي طلب إسهامات الموظفين في عمليات صناعة القرارات التي تشمل خطط العودة إلى العمل في المكتب ومسائل السلامة.

من خلال هذا النوع من الدراسات الاستقصائية، يتيح قسم الموارد البشرية في المؤسسات غير الربحية للموظفين مجالاً للتعبير عن آرائهم ويتيح للمؤسسات إجراء تقييم سريع لشعور الموظفين تجاه عودتهم إلى المكتب. توفر المؤسسات في بعض الأحيان قدراً كافياً من الشفافية باستخدام وسائل تلائم الجميع (أو الأغلبية)، وفي أحيان أخرى تكون المحادثات الفردية مثمرة أكثر وتساعد على رفع سوية الأداء وزيادة معدلات الاستبقاء، خاصة مع اختلاف احتياجات الموظفين.

مهما كان الأسلوب المتبَّع، يجب أن يستجيب القادة لملاحظات الموظفين بأسلوب محترم ويدركوا دور التواصل والشفافية في بناء الثقة وكسب التأييد لعملية التغيير. تحدثت إحدى الموظفات في مؤسسة غير ربحية شملتها دراستنا الاستقصائية عن تجربتها مع عدم إشراك الموظفين قائلة: "اتخذ مدير المؤسسة مع القيادة العليا قرار العودة إلى العمل في المكتب بدوام كامل من دون مشاركة الموظفين، لم يستطلع آراء الموظفين أو يسألهم عن شعورهم، وقيل إنه سيجري جولات بين مكاتب الموظفين للتأكد من وجودهم فيها. اعتبرت هذا التصرف متعالياً ومهيناً، فقد أثبت جميع الموظفين على مدى العام الماضي أنهم يستطيعون أداء عملهم على أكمل وجه عن بُعد".

في المقابل، أوضحت نائبة رئيس ملجأ الأسرة الذي ذكرناه في بداية المقال أن الجائحة عززت الثقة ضمن المؤسسة، ويعود جزء من الفضل في ذلك إلى جلسات الفريق الأسبوعية المنظّمة لمناقشة التعاطف والتفاهم، وأشارت: "لقد بذلنا جهدنا لرعاية المقيمين في الملجأ، لكننا حرصنا أيضاً على الاعتناء بموظفينا وأنفسنا، وكنا واثقين من أن الجميع يبذل قصارى جهده ". من المرجَّح أن يكون هذا النهج أحد أسباب عدم خسارة المؤسسة لأي موظف نتيجة للمخاوف المتعلقة بكوفيد-19.

ابتكارات البرامج في جائحة كوفيد-19: هل نواصل العمل بها أم نوقفها أم نغيرها؟

أدت الجائحة المطولة وغير المسبوقة إلى تعقيد عملية وضع البرامج في المؤسسات غير الربحية وألزمتها بإجراء تغييرات جذرية حرصاً على استمرارية رسالتها.

تشمل هذه التغييرات تحويل العمليات، مثل نقل البرامج التي تتطلب تفاعلات شخصية إلى المنصات الافتراضية وتطوير استراتيجيات جديدة للتواصل الرقمي. في بعض الحالات، تمثل التحدي الرئيس في تكييف البرامج لتتوافق مع بروتوكولات الحماية من فيروس كوفيد-19. على سبيل المثال، أشارت تقارير حكومية إلى أن المؤسسات غير الربحية تحملت النفقات الإضافية المترتبة على تأمين معدات الحماية الشخصية، وفي بعض الحالات انتقلت من نموذج البرامج التي يديرها المتطوعون إلى نموذج البرامج التي يقودها الموظفون، وبالنسبة للبرامج التي لم تتمكن من الاستمرار في ظل هذه القيود الجديدة فقد اضطرت إلى إيقافها بصورة مؤقتة أو دائمة.

احتاجت مؤسسات غير ربحية أخرى إلى تعديل معايير أهلية الحصول على الخدمة لمراعاة الاحتياجات المستجدة. خذ مثلاً تحالف المؤسسات التطوعية الوطنية الفاعلة في الكوارث (National Voluntary Organizations Active in Disaster) الذي يركز عادة على الاستجابة للكوارث الطبيعية، إذ وسّع نطاق عمله ليشمل الاستجابة للجائحة، كما غيرت مؤسسات غير ربحية مثل التي تعنى بالخدمات الصحية والإنسانية أنماط عملها لتتمكن من تقديم الخدمات الإسعافية الطارئة، بينما اعتمدت مؤسسات أخرى مثل المؤسسات الفنية نماذج البرمجة والتطوير لتتمكن من الصمود في مواجهة الجائحة.

لكن على الرغم من أن الابتكارات المتعلقة بجائحة كوفيد تستمر باستنفاد قدرات المؤسسات غير الربحية، فإن ذلك ليس سيئاً كلياً، إذ إن اعتماد التكنولوجيا الجديدة وتوسيع معايير الخدمة وإنهاء أنشطة البرامج غير المستدامة هي تطورات مثمرة، يقول موظف في إحدى المؤسسات غير الربحية ممن استطلعنا آراءهم: "أظن أن التغييرات المرتبطة بجائحة كوفيد، على الرغم من أنها مجهدة ومؤلمة وشاقة، ستجعل مؤسستنا مستدامة أكثر وترفع مستوى خدمتها لمجتمعنا".

يمكن لقادة المؤسسات غير الربحية صياغة عملية تعاونية ومتكاملة لتقييم الفائدة التي حققتها الابتكارات لمهمة المؤسسة، ومعرفة ما إذا كان عليها إدراج مستفيدين من برامج ما قبل الجائحة ممن لم تشملهم البرامج الجديدة. تتمثل إحدى طرق بدء هذه العملية في استخدام تحليل سوات (SWOT) الواضح المعالم لتحديد "مكامن القوة أو مواطن الضعف في الابتكار أو الفرص التي يتيحها أو المخاطر التي قد تنتج عنه"، أو استخدام نموذج تقييم مثل نموذج ألماسة ليفيت (Leavitt’s Diamond) الذي يركز على التوافق بين الأشخاص والبنية التنظيمية والمهام والتكنولوجيا. تحدد هذه الممارسات التعديلات السريعة التي شكلت مجموعات مترابطة ويتعين على المؤسسات غير الربحية اعتمادها بصورة دائمة، كما تساعد على تحديث معايير القياس والتقييم وتسلط الضوء على الكفاءات الجديدة التي يجب أن تبقى في المؤسسة.

كما هو الحال في قسم الموارد البشرية، تحقق هذه العملية فائدتها القصوى عندما تكون تعاونية تعتمد على فريق عمل متعدد الوظائف، أو على استطلاع آراء الموظفين، أو على ملتقى للتفاعلات الشخصية بين الموظفين ينظمونه بأنفسهم، أو حتى على جلسات استماع بمشاركة مجموعات مختلفة من الموظفين. يجب أن يكون الإنصاف والشمول اعتباراً رئيساً، وينبغي أن توازن الاعتبارات المتعلقة بطريقة التقدم بين تحقيق استقرار المؤسسة على المدى الطويل وتطوير الكفاءات المطلوبة على المدى المنظور. وكما هو الحال في أي تغيير مؤسسي، تتمتع الشفافية بأهمية كبيرة. بدأت رابطة قائمة على العضوية نعرفها تتحدث عن خططها للعودة إلى المكتب الربيع الماضي من خلال استطلاع آراء الموظفين وعقد اجتماعات عامة لجميع أفراد المؤسسة لإبلاغهم بالخطط وأسسها المنطقية لتوليد الثقة بينهم، إذ سيؤدي إبلاغ الموظفين بمتطلبات عملية التغيير والأسس المنطقية للعودة عن أي إجراء أو تكييفه أو تعديله وبالأثر الذي سيوقعه التغيير عليهم إلى اكتساب دعمهم. كما يجب أن تحرص المؤسسات على إشراك الممولين والشركاء الآخرين في صنع القرارات المتعلقة ببرامج المؤسسة.

أخيراً، بعد أن تجمع المؤسسات الإسهامات وتحدد الابتكارات التي ستواصل العمل بها أو تتخلى عنها أو تغيرها، ينبغي لها تحديث السياسات والإجراءات وحتى نماذج تقييم أداء الموظفين لتجسد أسلوب العمل الجديد.

تشتهر المؤسسات غير الربحية بأنها لا تستثمر بدرجة كافية في قدراتها التي تشمل الممارسات والأدوات التي تعدها لهذه المرحلة من التعلم المؤسسي، لكن آن الأوان لتكون على قدر المسؤولية وتستعيد مكانتها من خلال إشراك موظفيها وشركائها وتحليل التغييرات التي تطرأ على المؤسسة والبرامج وتقصّي الممارسات التي ستستمر في خدمة رسالة المؤسسة في المرحلة التالية.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

المحتوى محمي