يواجه عالم الأعمال تناقضاً حقيقياً بين كيفية العمل المستمر لتحقيق النمو الاقتصادي، والحاجة المُلحة لخفض انبعاثات الكربون، وبدأ الاهتمام في البحث عن آلية فعّالة لجعل النموذج الحالي للنمو الاقتصادي يسير جنباً إلى جنب مع الحفاظ على البيئة.
ترتكز فلسفة التنمية المستدامة على حقيقة أن استنزاف الموارد البيئية الطبيعية والتي تعتبر ضرورة لأي نشاط اقتصادي، سيكون له آثاراً ضارة على البيئة، ومن هنا ظهرت الحاجة للموازنة بين النظامين الاقتصادي والنظام البيئي؛ إذ تتمثل الأسباب الرئيسية للمشاكل البيئية في النمو السكاني، والهدر والاستخدام غير المستدام للموارد، والفقر، واستبعاد التكاليف البيئية لاستخدام الموارد من آلية تسعير السلع والخدمات.
تتحمل البلدان سواء النامية والمتقدمة مسؤولية هذه الأخطار البيئية، وبحسب دراسة باكستانية بعنوان: "العلاقة بين البيئة و"التنمية الاقتصادية المستدامة": نهج نظري لمشاكل بيئية"، تُفرط البلدان المتقدمة في استخدام الموارد لإنتاج السلع الفائضة للتصدير، بينما تستغل الدول النامية الفقيرة مواردها الحالية لتوفير الطعام للسكان وإنهاء مستوى الفقر بينهم، فخلق هذا السباق لاستغلال الموارد وضعاً خطيراً في جميع أنحاء العالم ووضع حياة البشر في خطر، وبالتالي أصبح هناك حاجة ماسة للاستخدام الحكيم للموارد البيئية من أجل "التنمية الاقتصادية المستدامة".
علاقة البيئة بالتنمية المستدامة
زاد الاهتمام في السنوات الأخيرة بالعلاقة بين التنمية الاقتصادية المستدامة والبيئة، ما يطرح إشكالاً حول تحديد أبعاد التخطيط الإنمائي الذي يجب أن يجمع بين تطبيق التنمية بمعناها الواسع وحماية البيئة، وعليه، عملت الباحثتان الجزائريتان "شهرزاد زغيب" و"لمياء عماني" على دراسة بعنوان: "البيئة والتنمية المستدامة" للبحث في مدى مساهمة التخطيط الإنمائي في دمج الاعتبارات البيئية في السياسات التنموية، وبينت الدراسة أن مفهوم التنمية الاقتصادية تغير من مجرد زيادة استغلال الموارد الاقتصادية للوفاء باحتياجات الإنسان المتعددة، إلى مفهوم التنمية المستدامة التي ينظر إليها كأفضل خيار للوفاء باحتياجات الحاضر من الموارد الطبيعية دون التفريط في حق الأجيال المقبلة بالاستفادة منها.
واعتمد الاقتصاديون على متوسط الدخل الفردي والناتج الداخلي الخام لقياس التنمية في بلد ما دون الأخذ بعين الاعتبار التأثيرات السلبية والأضرار التي يلحقها النشاط الاقتصادي بالبيئة، أي تكاليف التلوث الناتج عن هذا النشاط واستنزاف الموارد الطبيعية. لكن في 1993 استطاع الاقتصادي البريطاني "ديفيد بيرس" أن يُدخل التأثيرات البيئية للنشاط الاقتصادي ورأس المال الطبيعي في الحسابات القومية لحساب الدخل المستدام أو الدخل الأخضر، ونتيجة لذلك أصبحت نظريات التنمية الاقتصادية اليوم تفرّق بين التنمية التي تراعي الجوانب البيئية وتُعرف بالتنمية الخضراء أو المستدامة، وبين التنمية الاقتصادية التي لا تراعي البُعد البيئي، لذا يتطلب تجسيد المفهوم الحديث للتنمية التغلب على المشاكل البيئية التي تنعكس على الأداء الاقتصادي.
الآثار البيئية على الاقتصاد
رسخ المفهوم الجديد للتنمية ضرورة الأخذ بالاعتبارات البيئية في السياسات الاقتصادية من أجل الوصول إلى اقتصاد مستدام، إذ تؤثر البيئة في الاقتصاد بعدة مجالات:
التشغيل والعمالة
يتوقف تنفيذ بعض الاستثمارات في مجالات محددة مثل بناء منشآت الفحم أو محطات الطاقة النووية، لأسباب تتعلق بحماية البيئة من الأضرار الناجمة عن هذه الأنشطة، ما يتسبب في ضياع العديد من فرص التوظيف، ومن جهة أخرى، يمكن أن يخلق الطلب المتزايد على المعدات والتجهيزات البيئية فرص عمل جديدة في الصناعات التي تقدم هذه السلع والمعدات والتجهيزات الضرورية لحماية البيئة.
مستوى الأسعار
قد تؤثر سياسات الحفاظ على البيئة في استقرار مستوى الأسعار؛ إذ ترتفع أسعار السلع التي تسبب تلوث الماء والهواء نتيجة ارتفاع تكاليف الإنفاق على حماية البيئة عند إنتاج هذه السلعة.
القدرة التنافسية للصناعة
يمكن أن يقود ارتفاع التكاليف الناجم عن زيادة نفقات حماية البيئة إلى إضعاف القدرة التنافسية للصناعة، أو تعزيز هذه القدرة من خلال تطوير تكنولوجيا جديدة لحماية البيئة تدعم التوسع في الأسواق.
النمو الاقتصادي
قد تؤثر السياسة البيئية سلباً في النمو الاقتصادي نتيجة الإنفاق على الاستثمارات غير المجدية من الناحية البيئية، أو يمكن أن تُحدث أثراً ايجابياً يتمثل في تطور تكنولوجي لحماية البيئة يعزز من النمو الاقتصادي على المدى الطويل.
هل العولمة ضارة بالبيئة؟
شكلت الوتيرة المتزايدة للعولمة وكيفية تأثيرها في البيئة مصدر قلق عالمي رئيسي، إذ يعتمد عدد كبير من دعاة حماية البيئة الذين يؤيدون وجهة النظر هذه في حججهم على فرضية أن العولمة تؤدي إلى زيادة الطلب العالمي على السلع والمنتجات، ما يتسبب في زيادة الإنتاج واستنزاف الموارد الطبيعية.
يأتي تأييد فكرة التأثير السلبي للعولمة على البيئة من منطلق أن المكاسب المتزايدة من العولمة تتحقق على حساب حماية البيئة، لأن الاقتصادات الأكثر انفتاحاً تتبنى معايير بيئية أقل صرامة، ما يؤدي إلى زيادة انبعاث الغازات الدفيئة، على سبيل المثال، عندما تعرضت إيران لعقوبات اقتصادية باتت أقل اندماجاً في الاقتصاد العالمي، وتسبّب اعتمادها على الإنتاج المحلي بأضرار بيئية كبيرة، ونتيجة حظر استيراد النفط الخام؛ بدأت إيران في تكرير نفطها الخام الذي يحتوي على مستوى تلوث أكبر من النفط الذي كانت تستورده.
يرافق العولمة إطلاق ابتكارات تكنولوجية صديقة للبيئة يمكن نقلها من البلدان ذات اللوائح البيئية الصارمة إلى بلدان تتبع معايير بيئية أكثر مرونة، إذ بينت دراسة أميركية بعنوان: "الانتقال إلى مراعي أكثر اخضراراً؟ الشركات متعددة الجنسيات وفرضية ملاذ التلوث" أن الشركات متعددة الجنسيات التي تمتلك أحدث التكنولوجيات النظيفة يمكنها نقل ابتكاراتها المستدامة إلى البلدان ذات المعايير البيئية المنخفضة.
قد يؤدي نمو النشاط الاقتصادي إلى زيادة انبعاثات الملوثات الصناعية وتدهور النظام البيئي. لكن على الرغم من ذلك، يمكن للدول وضع قواعد تتحكم في الآثار البيئية للمنتجات والخدمات التي نصنعها ونستخدمها، إذ طورت العديد من البلدان، بما في ذلك كندا ودول "الاتحاد الأوروبي"، سياسات وطنية تفرض إجراءات تقييم الأثر البيئي قبل التوقيع على أي اتفاقية تجارية، ولتعزيز وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية، انتقلت الصين من بؤرة للتلوث إلى موقع يقود مكافحة تغير المناخ، وفي عام 2017، أغلقت عشرات الآلاف من المصانع التي لا تمتثل للمعايير البيئية. في المقابل، رأينا دولة مثل الولايات المتحدة تبتعد ببطء عن مكافحة تغير المناخ جزئياً بسبب ميول دونالد ترامب، رئيس أميركا السابق، المناهضة للعولمة، فاتخذ خطوات باتجاه انسحاب الولايات المتحدة من "اتفاقية باريس" بشأن تغير المناخ.
التغير الاجتماعي
إن أسباب المشاكل البيئية لا تتمثل في النمو الاقتصادي، وإنما بعدم وجود سياسة عامة فعّالة لمعالجتها؛ ففرض اللوائح والقوانين يساعد في تحول النموذج البيئي نحو الاستدامة، والأمر مرتبط أيضاً بأسلوب حياة الأفراد وأنماط استهلاكهم، على سبيل المثال، حتى عام 1985 كان سكان نيويورك يلقون بمياه الصرف الصحي الخام في نهر هدسون. اليوم، بات النهر الواجهة البحرية الأكثر ملاءمة للتطور العمراني، وبالتالي الحفاظ على الهواء النظيف والماء والغذاء الصحي؛ سيؤدي إلى فوائد اقتصادية أكثر بكثير من التكلفة المادية للتوسع العمراني.
يمكن للأفراد المساهمة في الحد من الآثار البيئية الضارة، من خلال مشاريع تطوير الأراضي بدلاً من الزحف العمراني. طرح المهندس المعماري الاسكتلندي "إيان ماكارج" في كتابه "التصميم مع الطبيعة" (Design with Nature) فكرة استبدال تزويد كل منزل بربع فدان من الأرض وساحة كبيرة خاصة به، ببناء السكن في منطقة واحدة للحفاظ على الأنظمة البيئية، واستغلال الجزء المتبقي من الأرض كمُنتزّه، ومن جهة أخرى، يمكن تسخير الإبداع البشري في حل مشاكل التنمية الاقتصادية المستدامة بيئياً عبر بناء مدن مُستدامة بالاعتماد على التصميم المستنير والتكنولوجيا المتطورة.
إذن، يتطلب الأمر تعزيز القدرات المادية والبشرية على نحو يوفر لصانعي القرار كيفية تحقيق تنمية بأقل قدر من التلوث والأضرار البيئية وبالحد الأدنى من استهلاك الموارد الطبيعية، وذلك من خلال دمج الاعتبارات البيئية في سياسات وخطط التنمية.