سلسلة التحويلات النقدية غير المشروطة: هل يجيد الفقراء استخدام المال؟

6 دقائق
التحويلات النقدية

قدمت مؤسسة غيف دايريكتلي (GiveDirectly) في أوائل عام 2010 تحويلات نقدية ضخمة غير مشروطة (UCTs) تعادل تقريباً دخل عام لأفقر الأسر في ريف غرب كينيا.  كانت النتيجة بعد عام أن الناس كانوا أسعد ومكتفين غذائياً.  فقد اشتروا أسقفاً من الصفيح وأبقاراً وغيرها من الأشياء المفيدة لهم، ولم يهدروا المال على أشياء سيئة لا تنفعهم.  على المدى القصير، منْح الأشخاص شديدي الفقر قدراً من المال يجعلهم أفضل حالاً.

ولا عجب في هذا، فقد علمتنا العديد من الدراسات أن الفقراء يجيدون استخدام المال، وأن تخفيف الضغوطات الشديدة يزيد سعادة الناس، كما أن هروب الشخص لفترة وجيزة من عقلية الندرة يحفزه على فعل أمور إيجابية. ولكن بأخذ مهمة مؤسسة مولاغو (Mulago) في الحسبان، المتمثلة في "تحقيق التغيير الدائم على نطاق واسع"، أردنا أن نعرف ما  إذا كان تحويل المنافع قصيرة المدى إلى أثر دائم ممكناً؟ هل غير هذا الضخ الضخم من النقد المسار الاجتماعي والاقتصادي للأسر مع مرور الوقت؟

للأسف، لم يحدث ذلك.  خلال أربع سنوات، لم تكن العائلات التي تلقت المال من مؤسسة غيف دايركتلي أفضل حالاً من المجموعة المرجعية للعائلات؟.  رغم أنهم حظوا بعدة سنوات من زيادة الاستهلاك، فقد لحق الجميع بهم بعد أربع سنوات.  استمرت هذه المكاسب قصيرة المدى - دون أن تتقهقر الأسر المستفيدة منها - لكن ظهر أن هذه المكاسب لا تعدو أن تكون دفعة مؤقتة مع وصول باقي الأسر غير المستفيدة من الدعم  إلى نفس المستوى من المكاسب أيضاً.  فقد استفادت الأسر المشمولة بالتجربة من بعض المكاسب لكن تلك الأموال التي تم تحويلها إليها لم تغير مسارهم على المدى الطويل، ولم يظهر أنها غيرت حياتهم بشكل عميق، ولا حققت نتائج تذكر على درب التأثير الدائم.

أثارت النتائج الأولية قصيرة المدى حماساً كبيراً عند ظهورها، إذ اعتقد الكثيرون أن هذا "سيغير قطاع التنمية" وما إلى ذلك من أهداف. لذلك، عندما تلقينا النتائج المخيبة للآمال على المدى الطويل، اعتقدت أن الأمر سيكون أمراً جللاً. وهي النتائج التي تضرب في الصميم الآمال المعلقة على المشاريع التي تعتبر تمثل "مستقبل التنمية"، أو أقلّها هذا ما يفترض أن يحدث.

لكن الأمور اتخذت مساراً مختلفاً. فقد قوبلت بالتجاهل، وواصل قطار "التحويلات النقدية غير المشروطة" سيره.

يميل الناس إلى المزج بين أنواع التحويلات النقدية، على الرغم من اختلافها واختلاف تأثيراتها الكبير في معظم الأحيان: فمنها المشروطة، وغير المشروطة، والتحويلات لمرة واحدة، والمتعددة، وقصيرة المدى، وطويلة المدى، والكبيرة، والصغيرة، والمصحوبة بتدخلات أخرى، والمنفردة، وغيرها الكثير من التوليفات.  كانت التحويلات النقدية التي قدمتها مؤسسة غيف دايركتلي توليفةً من التحويلات الكبيرة وغير المشروطة والمقدمة لمرة واحدة وغير المصحوبة بأي تدخل آخر (والتي سأختصرها من باب الدعابة بكلمة "لاوت" (LOUT).  نظراً لأن مؤسسة غيف دايركتلي هي الوحيدة التي استخدمت هذا النوع تحديداً، على حد علمي، فلا يوجد حتى الآن أي دليل على الأثر الدائم لهذا النوع من التحويلات النقدية غير المشروطة.

لكن ماذا لو وسعنا مداركنا؟  بفضل دراسة صممها تيد وميغيل وآخرون ونفذوها ببراعة، نستطيع الآن رؤية ما يحدث في الاقتصاد الإقليمي عندما تقوم بالكثير من التحويلات من نوع "لاوت"، والتي بلغت قيمتها في هذه الحالة 11 مليون دولار في منطقة تضم 300 ألف شخص و 650 مجتمعاً محلياً. كالوضع السابق، كانت النتائج رائعة بعد عام، وعلى الرغم من أن التأثيرات على الأسر متشابهة، إلا أن التأثيرات الإقليمية هي الأوضح. يقدم المؤلفون حجةً دامغة مفادها أنه: أولاً، كان الجميع أفضل حالاً سواءً مُنحوا النقود أم لا، وثانياً كان لضخ النقد تأثير مضاعف مذهل بمقدار 2.7 مرة على الاقتصاد المحلي، وثالثاً لم يحدث أمر سيء (لم يؤد هذا التدفق المالي الكبير إلى التضخم).

هذه إضافات بالغة الأهمية إلى مؤلفات التحويلات النقدية - فأقل ما يقال عن التأثير المضاعف بمقدار2.7 أنه مذهل - وستكون آثار النتائج الثلاثة على السياسة مهمة بمرور الوقت.  وبالطبع، تفاعلت وسائل الإعلام المتخصصة في القضايا التنموية بنفس العناوين الرئيسية التي كتبتها في عام 2016، من قبيل: "مؤسسة خيرية تمنح حزمة حوافز ضخمة لريف كينيا وتغير اقتصادها" (وهي مقالة رائعة، لوما وضعنا المبالغة في العنوان جانباً). لكن بالنسبة لي، تثير نتائج هذه الدراسة السؤال ذاته الذي طرحته الدراسة الأصلية عن حالة الأسر المعيشية.

هل ينتج عن هذا تغيير دائم؟  هل "تغير" أي شيء حقاً؟

لست خبيراً اقتصادياً - إذ تستغرق مراجعتي لإحدى الأوراق البحثية حوالي أسبوع - لكني لست متأكداً هل يرجَّح أن نرى تغييراً دائماً على المستوى الإقليمي أكثر من المستوى الأسري. لاحظ المؤلفون أن معظم الأثر قصير المدى كان نتيجة سد العجز في الاقتصاد المحلي، أي توجد طاقة فائضة ظهرت وأصبحت في حيز التنفيذ بمجرد توفر المزيد من النقد المتداول (على سبيل المثال، وجود آليات في المصانع المحلية جعل الناس عاطلين لا تستغَل قدراتهم). كانت الطريقة التي صاغوا بها تلك الفكرة هي أن التحسينات في الاقتصاد كان "يقودها الطلب (الإنفاق الاستهلاكي) وليس الاستثمار (الإنفاق الإنتاجي)".

لقد رأينا أن تقديم التحويلات من نوع "لاوت"  للاقتصاد الأسري نتج عنه فوائد جمة قصيرة الأمد، لكن لا يبدو أنه يسهم في تحقيق أثر دائم.  وبالنظر إلى أن التغيير الملحوظ هنا "موجه بالطلب"، لا أعلم لمَ ظننا أن ضخ الأموال لمرة واحدة في هذا الاقتصاد الريفي المعدَم سيحقق أثراً أدوم أيضاً.  فلسنا أمام اقتصاد متين قائم مسبقاً يحتاج فقط إلى دفعة صغيرة ليتحرّك مجدداً، وإنما أمام اقتصاد قائم على مصيدة فقر لأصحاب الحيازات الصغيرة والمحاصيل السلعية: فالأشخاص يعملون بجد ليكسبوا قوت يومهم من المحاصيل منخفضة القيمة التي ينتجونها في أراضٍ تضيق مساحتها يوماً بعد آخر وتتدهور تربتها باستمرار. هذا يعني أن الناس يميلون إلى أن يكونوا مزارعين "افتراضيين"، وهم الذين لم يختاروا الانخراط في مجال الزراعة لكنهم يستفيدون من الأصل الوحيد المتوفر لديهم (إن زراعة المحاصيل التجارية أمر معقد لا ترغب سوى نسبة صغيرة من هؤلاء المزارعين في الانخراط فيه).

لا بد أن تتغير الأساسيات هنا، فنظراً لأن الاستهلاك كان دافع ذلك الازدهار الاقتصادي المصغر، لا يرجح أن تكون هذه الدفعة النقدية لمرة واحدة. الاستثمار هو للمستقبل،  وعندما يعيش الناس هذا الواقع المر، فإنهم بحاجة إلى إنفاق هذه الأموال اليوم.

كان المؤلفون دقيقين في عدم التفكير في مسألة التغيير "الذي يوجهه الطلب" واقتراح معالجة مشكلة مصائد السيولة عبر التحويلات النقدية غير المشروطة الإقليمية:

"تشير آراء نظرية أخرى من التجارة الدولية، إلى الجغرافيا الاقتصادية ، والتنمية... إضافةً إلى مصائد السيولة التي ذكرناها، إلى احتمال وجود تأثيرات محلية مستمرة للضخ النقدي المؤقت، نتيجة التأثيرات التكتلية، وزيادة العائدات، والتغيرات في تباين الدخل، وهيكلية السوق وتخصص الشركة، وحتى التحولات في الشبكات الاجتماعية للتجار والموردين".

تكمن المشكلة في أن مصائد السيولة ليست مثل مصائد الفقر.  عندما تكون غالبية السكان عالقة في دور صغار المزارعين غير المنتجين، لا يؤدي هذا إلى كل تلك "الآثار المحلية المستمرة". هناك سبب يجعل ما تقدمه برامج "الخروج من الفقر المدقع" المجربة للناس يتجاوز بكثير المال، ويفسر نجاحها بشكل أكبر في أماكن مثل بنغلاديش حيث يمثل الفقراء المدقعون أقليةً مكافحة داخل اقتصاد حيوي. إن مصائد الفقر مشاكل مستعصية، خاصةً عندما يقع كل من حولك في براثنها أيضاً.

ومع ما يظهر من عجز المعونات النقدية المقدمة لمرة واحدة في كسر مأزق مصيدة الفقر، فربما يؤدي إنفاق مبالغ صغيرة باضطراد على فترة أطول إلى إحداث تغيير دائم. في دراسة توضيحية حديثة أخرى، منحت هاندا وآخرون 12 دولار غير مشروط شهرياً للعائلات الزامبية لمدة ثلاث سنوات، تدفَع على أقساط لمدة أسبوعين. على الرغم من أنها كانت دراسة معقدة، إلا أن الورقة البحثية قابلة للقراءة بسهولة: والنتيجة هي أن العائلات كانت أفضل حالاً بصورة جلية، وأن تقطير المال الثابت والموثوق تضاعف بقيمة 1.67 (ما يعني أن كل دولار يوزَّع كان يولد دخلاً بقيمة 67 سنتاً إضافياً). والمثير في الأمر أن تحويلاً كهذا على نمط الدخل الأساسي الشامل UBI  قد يكون له أثر أكبر من مبلغ إجمالي التحويلات من نوع LOUT التي تبلغ ضعف المبلغ الإجمالي تقريباً (أو بقدر برامج الخروج من الفقر الأكثر تكلفةً).

هذا أمر جلل، فربما يكمن السر  في تقطير المعونات النقدية بشكل ثابت وموثوق. فلعل هذه الطريقة هي القادرة على إحداث الفرق. فهل تؤدي الزيادة المتواصلة في الاستهلاك إلى تغييرات ثانوية لها تأثيرات دائمة؟ لا أعلم، لكن يستحيل ألا نقلق من أن يعود الوضع إلى نقطة الصفر عندما يتوقف تدفق النقود. من الواضح أن السنوات الثلاثة التي أمضتها هاندا في دراسة الدخل الأساسي الشامل المحدود كانت نافعةً ويصعب إثبات أن الأمر لا يستحق التجربة طالما: 1) كان هناك شخص ما يمول ذلك و 2) تم التحقق أن المال يصرف بالشكل المطلوب وبما يجعله يحقق أثراً أكثر استدامة (نظراً إلى السجل الحافل لبعض ممولي المساعدات الضخمة، فقد يكون الدخل الأساسي الشامل المحدود وسيلةً جيدةً للإلهاء).

لكن هل يعد هذا تنميةً؟  هل يغير مسار حياة أسرة - أو منطقة - على المدى الطويل؟

رغم أنني أمضيت وقتاً طويلاً في محاولة فهم طريقة تحقيق الاستفادة القصوى من أموال مؤسَّستنا، إلا أنني ما زلت مقتنعاً بأن منح الأموال منوط بالتخفيف من حدة الفقر، وليس التنمية. لن أمانع أبداً أن يتبين أنني مخطئ، لقد بذلت قصارى جهدي لسنوات محاولاً اكتشاف حل للوضع الاقتصادي الحرج في المناطق الريفية في أماكن مثل غرب كينيا وريف زامبيا دون فائدة.

لكن على الرغم من أنني غير مقتنع بالدراسات النقدية حتى الآن، يجب على الممولين مثل مؤسسة مولاغو (Mulago) أن يولوا اهتماماً وثيقاً لها.  يجب أن نكون مستعدين لتحويل الموارد إذا تبين أن منح النقد بأية طريقة كانت يحقق أثراً أكبر من الحلول التي نمولها حالياً - على الرغم من أنني أتوقع حقاً أن تحقق استثمارات مؤسسة مولاغو أداءً أفضل بكثير. لكن حتى خلال مسيرة تعلمنا عن إمكانيات المال - وهذه الدراسات تنتشر بكثرة - فقد آن أوان أن يكتشف مناصروها من أين يفترض أن تأتي الأموال، على نطاق واسع. بينما أخوض في هذه الأمور، لم أقرأ بعد مناقشة موضوعية لهذه المشكلة، خاصةً على صعيد الحكومات التي تعاني من ضائقة في إفريقيا. يجب أن تكون لديك جهة مسددة على نطاق واسع: يتم التمادي في أمور كثيرة قبل أن يكتشف أحد من ستكون هذه الجهة.  فلا تدع هذه المرة تكون كسابقاتها.

يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال دون إذن سابق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.