نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالةً تتحدث عن الابتكارات التي تستهدف ممارسات «الدفن الأخضر»، للحد من استخدام مواد التحنيط الكيميائية وحرق الجثث؛ الفعلان اللذان يؤثران سلباً على البيئة، ومن هذه الابتكارات، ثوب ابتكرته الفنانة جاي ريم ليُعيد توزيع العناصر الغذائية من جثث البشر إلى التربة؛ حيث طورت الثوب لأول مرة كعمل فنيّ يتناول كيفية تفكير المجتمع في الموت.
تُعدّ لي من بين أكثر المفكرين جرأة وإبداعاً في مجتمعنا، وثوب الدفن هو مجرد مثال واحد على كيفية تخطي الفنانين للحدود، ليس فقط ضمن عالم الفن ولكن أيضاً في مجالات تتجاوزه؛ مثل قطاعات العلوم والتكنولوجيا والعدالة الاجتماعية. يُظهر تأثيرهم على المجتمع سبب اعتبار الاستثمار في الفنانين مسعىً جديراً بالاهتمام إلى يومنا هذا، على الرغم من التحديات الكثيرة التي تواجه عالمنا، ولمَ يُعتبر من الضروري؛ بالنسبة إلى ممولي الفن، تطوير استراتيجيات مدروسة لمساعدتهم على إدراك إمكاناتهم.
عندما أجرى «الصندوق الوطني للفنون» (National Endowment for the Arts) تخفيضاً كبيراً في الموازنة في منتصف التسعينيات، بدأ الكثير منا في عالم الفن التفكير بجدية في بدائل أفضل لدعم الفنانين، لذلك، ساهمتُ عام 1998 في إطلاق مؤسسة «كرييتيف كابيتال» (Creative Capital) كتجربة جريئة، بالاستناد إلى أفكار من قطاع رأس المال المغامر لبناء مؤسسة ترتكز على الاعتقاد بأن ذات الدعم المبكر والمستمر والاستراتيجي؛ الذي يساعد الشركات الناشئة على الانطلاق، يساعد أيضاً الفنانين المبتكرين على بناء حياة مهنية مستقرة، وبعد مرور 17 عاماً، قدمنا دعماً مهماً لمئات الفنانين في جميع التخصصات، وقد فاز بعضهم بـ«منحة مؤسسة ماك آرثر للعباقرة» (MacArthur “Genius” Grants)، أو قُدمت أعمالهم في معرض «بينالي ويتني» (Whitney Biennial)، أو حتى حولوا فنهم إلى مشروع ناشئ يستند إلى مفهوم «الدفن الأخضر»، والأسباب الكامنة وراء نجاحنا بسيطة للغاية؛ إذ أننا ندعم المشروع في بدايته، ونبقى معه حتى اكتماله، ونزود فنانينا بالمهارات والأدوات اللازمة لتأسيس حياة مهنية مستدامة تتجاوز ذلك المشروع الفردي.
مثل العديد من ممولي الفن الآخرين؛ يبدأ عملنا بتزويد الفنان بالتمويل اللازم لدعم فكرته، لكننا لا نكتفي بذلك، بل ندعم العمل من البداية حتى النهاية، ونلتقي بفنانينا لمتابعة تقدمهم وتوفير التمويل خلال المراحل الاستراتيجية لمساعدتهم على توجيه المشاريع لإكمالها بنجاح.
على سبيل المثال، عملنا مع الفنانة والشاعرة جين بيرفين؛ التي تقدمت بطلب للحصول على تمويل مؤسسة «كرييتيف كابيتال» مع اقتراح مذهل لدمج الشعر وفنون النسيج والعلوم، وهي فكرة مستوحاة من المستشعرات الحيوية المتطورة المصنوعة من الحرير؛ حيث اقترحت تأليف قصيدة مجهرية مطبوعة على المستشعر؛ والذي يمكن زرعه تحت جلد شخص يعاني من حالة صحية مزمنة، والجدير بالذكر أنه تم سابقاً اختبار عمل هذه المستشعرات المدمجة في «جامعة تافتس» (Tufts University) ومراكز بحثية أخرى، لكن تساؤل بيرفن تمحور حول التالي: «إذا زُرع مستشعر مصنوع من الحرير في جسدي، فما الذي أريد منه أن ينقل؟»، وقد تصوّرت سلسلةً من القصائد المجهرية تتناول مواضيع الحرير والشفاء والجسد؛ متخيلةً أن محتوى القصيدة يمكن أن يكون له معنىً كبيرٌ بالنسبة إلى المريض.
من أجل أن تتمكن بيرفن من تنفيذ ذلك، ستحتاج إلى إجراء بحث مكثف وإقناع مراكز الأبحاث الطبية الرائدة في تقنية المستشعر بالتعاون معها، لذلك كان مشروعاً محفوفاً بالمخاطر، ولكنه مثير ويحمل بعداً آخراً في الوقت ذاته، بدأت رحلتنا مع بيرفن في يناير/كانون الثاني 2013، واستخدمت دعمنا المالي لدفع نفقات السفر الكثيرة المتعلقة بمشروع «ذا سيلك بويمز» (The Silk Poems)؛ بما في ذلك التشاور مع مختبرات الطب الحيوي وزيارة أكثر من 30 دائرة دولية معنية بمحفوظات المنسوجات.
بعد ذلك، استخدمت التمويل للدفع مقابل إيجار الاستوديو الخاص بها؛ حيث بدأت في إنشاء قصائد مطبوعة بتقنية النانو، كما استفادت من سمعة التمويل الذي حصلت عليه لتأمين دعم آخر للمشروع؛ بما في ذلك «زمالة مؤسسة بوغلياسكو» (Bogliasco Foundation Fellowship)، وبرنامج إقامة خاص بالفنانين تابع لمؤسسة «سيتي» (SETI).
كما هو الحال مع جميع الفنانين الذين ندعمهم، قدمنا موارد لمساعدة بيرفن على بناء حياة مهنية ناجحة وطويلة الأمد، وتهيئتها بالمهارات العملية للحفاظ على ذلك في ظل تحديات عالم الفن، وتضمّن الدعم ورش عمل التطوير المهنيّ لتعزيز مهاراتها في التخطيط الاستراتيجي، وجمع الأموال، والتحدث أمام الجمهور، وغيرها من المجالات الهامة التي غالباً ما يتم تجاهلها عندما نفكر في دعم الفنانين، كما تضمّن الدعم المشاركة في لقاءات معنية ببناء المجتمع مثل «أرتيست ريتريت» (Artist Retreat) التابع لمؤسستنا؛ حيث قدمت قصائد «ذا سيلك بويمز» أمام القائمين على اللقاء والمقدمين من جميع أنحاء الولايات المتحدة، ولفت عرضها انتباه دينيس ماركونيش؛ أمينة «متحف ماساتشوستس للفن المعاصر» (MASS MoCA)؛ وهو متحف عريق في مقاطعة بيركشر، وبالتالي، تم عرض المشروع أمام العامة لأول مرة في المتحف في أحد المعارض الدولية الكبيرة المعنيّ بتقاطع الفن والعلم.
جزء من مهمتنا هو دعم الفنانين الذين يعملون على تعزيز إمكاناتهم وآفاق المجال المتخصصين فيه، وقد أصبحت مؤسستنا؛ التي كانت تجربة ثورية في يوم من الأيام، نموذجاً مثبتاً لكيف يمكن للممولين مساعدة الفنانين أصحاب الأفكار الجريئة على تحقيق مشاريع تُثري حياتنا، وتعيد تشكيل كيفية تفاعلنا مع العالم، وبينما أسلّم اليوم إدارة مؤسسة «كرييتيف كابيتال» إلى سوزان ديلفالي بعد قيادتها لمدة 17 عاماً، يسعدني رؤية انطلاق برامج ريادة الأعمال الفنية في أقسام الفن التابعة للمؤسسات في جميع أنحاء البلاد على مدى السنوات الخمس الماضية؛ بما في ذلك «جامعة ولاية أريزونا»، و«جامعة ولاية نيويورك في باتشيس» (SUNY Purchase) و«معهد كاليفورنيا للفنون» (CalArts)، وحاضنة الفنون وبرامج ريادة الأعمال التي بدأت بها المؤسسات غير الربحية؛ مثل «مؤسسة نيويورك للفنون» (New York Foundation for the Arts) و«مركز الابتكار الثقافي» (Center for Cultural Innovation)، وقد شهدنا أيضاً كيف يمكن تطبيق نموذج رأس المال المغامر على قطاعات أخرى؛ مثل العلوم والعدالة الاجتماعية، لرعاية الأفراد المبدعين؛ الذين لديهم أفكار فريدة، وفي وقت سابق، طبّق مموّلو برنامج جديد لأبحاث سرطان الأطفال رؤيتنا، وصمموا نظام دعم للباحثين لديهم؛ من شأنه تشجيع الابتكار والاكتشاف.
عندما نستخدم الموارد لغرض تطوير أكثر المفكرين إبداعاً في مجتمعنا؛ من خلال الدعم المبكر والمستمر والاستراتيجي، فإننا ندفع بالأفكار الواعدة قدماً لتصبح مشاريع قوية تثير نقاشات مثيرة للاهتمام، أو تتطور إلى عمل له تأثير يتجاوز عالم الفن؟ إن دعم هذه الأنواع من المشاريع ومساعدة الفنانين اللامعين المسؤولين عنها على تحقيق الاستقرار والاستدامة أمر بالغ الأهمية للمجتمع، نحن بحاجة إلى هؤلاء الفنانين لمواصلة الخوض بتجارب وتحديات وتجاوز حدود عالم الفن والعوالم الأخرى، في السنوات القادمة.
اقرأ أيضاً: الاستدامة المالية للمؤسسات الاجتماعية الناشئة
يمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من المقال من خلال الرابط، علماً أنّ المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.