ما تأثير التنمية البشرية على تحقيق النمو الاقتصادي؟

3 دقيقة
التنمية البشرية
shutterstock.com/Nattapol_Sritongcom

لا يمكن تصور عملية تنمية مستدامة دون أن يكون البشر جزءاً منها وهدفاً أساسياً لها، فيقول أرسطو: "من الواضح أن الثروة لا تمثل الخير الذي نسعى إلى تحقيقه، فهي مجرد شيء مفيد للوصول إلى شيء آخر".

تثير هذه الفكرة المهمة جدلية العلاقة بين النمو الاقتصادي والتنمية البشرية، وضرورة سد الفجوة بين هذين النموذجين المختلفين في الأهداف والاستراتيجيات وأساليب القياس، والمترابطين معاً في مسار التنمية المستدامة الشاملة.

الفرق بين النمو الاقتصادي والتنمية البشرية

في توضيح بسيط لمفهوم النمو الاقتصادي، يمكن وصفه بأنه مجموعة من العوامل التي تساعد على زيادة الدخل القومي ونصيب الفرد منه على المدى الطويل، بالتالي لا يمكن اعتبار الزيادات المؤقتة أو الموسمية في الدخل على أنها نمو اقتصادي، كما يجب أن ترتبط زيادة الدخل بزيادة القدرة الإنتاجية.

وتصف الأمم المتحدة مفهوم التنمية البشرية على أنه "عملية توسيع خيارات الأفراد عبر زيادة قدراتهم" وتشمل هذه الخيارات عيش حياة مديدة وصحية، واكتساب معرفة ومهارات أفضل، والوصول إلى الموارد اللازمة لتحقيق مستوى معيشي لائق.

يعني ذلك، أن النمو الاقتصادي يركز على تحسين الدخل أو الإنتاج، في المقابل تعمل التنمية البشرية على توسيع الخيارات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للأفراد بما في ذلك التعليم والصحة والبيئة النظيفة والرفاهية المادية.

يهتم مفهوم التنمية البشرية بصورة رئيسية بتمكين الأفراد عبر خلق بنية اجتماعية ملائمة لتأمين حياة كريمة وعادلة للجميع، ولا يمكن تحقيق ذلك فقط من خلال تحسين الدخل أو تعزيز الرفاهية المادية، ووفقاً لتقرير التنمية البشرية في عام 1996 فإن التركيز على النمو الاقتصادي وحده قد لا يخلق فرص عمل جديدة، ولا يسهم في الحد من الفقر، ولا يعزز التشاركية ولا يحافظ على البنية الثقافية، وقد لا يرسخ ممارسات صديقة للبيئة.

لا يعد نمو الدخل غاية في حد ذاته، فنوعية النمو وليست كميته هي العامل المهم في تحسين حياة الأفراد، لأنهم الهدف الأسمى للعملية الإنتاجية، بمعنى آخر، نقص الدخل هو أحد جوانب الفقر، فقد يتمثل الحرمان في انعدام الشعور بالأمان والقدرة على المشاركة في التنمية، أو في نقص المعرفة والمهارات أو عيش حياة غير صحية.

يعد النمو الاقتصادي مقياساً أساسياً لتقييم نجاح تخصيص الموارد النادرة، فيراقب الأفراد دخلهم والقيمة المتغيرة لأصولهم، في حين ترصد الشركات أرباحها وحصتها السوقية، وتعتمد الدول إحصاءات متنوعة لقياس النمو الاقتصادي مثل الدخل القومي والإنتاجية، لكن التنمية البشرية تذهب إلى أبعد من ذلك، وترى أن تقييم اقتصادات الدول يجب أن يشمل أيضاً قياس توزيع الدخل وحقوق الملكية، والتركيز على الاحتياجات الأخرى للمجتمع، مثل العدالة البيئية أو الحفاظ على الإرث الثقافي لتعزيز عملية النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية الشاملة من خلال خلق المزيد من الفرص في قطاعات التعليم والرعاية الصحية والتوظيف.

في الخمسينيات، ارتبط مفهوم التنمية البشرية بالرفاهية الاجتماعية ثم انتقل إلى أهمية التعليم والتدريب، ليركز بعدها على إشباع الحاجات الأساسية للأفراد، إلى أن وصل إلى مضمونه الحالي المتمثل في تشكيل القدرات البشرية واكتساب المعرفة والمهارات في ظل بيئة من الحرية السياسية واحترام حقوق الإنسان.

ولا يمكن إرساء ركائز التنمية البشرية إلا من خلال نمو اقتصادي مستدام، وفي الوقت نفسه يجب أن توزع عوائد هذا النمو بالإنصاف بين أفراد المجتمع، ولن تنجح عملية التنمية إذا كان الإنسان وقوداً لها لا المستفيد منها، لذا تقتضي عملية التنمية المستدامة والشاملة، أن يوظف النمو الاقتصادي لخدمة التنمية البشرية، وتوظف التنمية البشرية لزيادة النمو الاقتصادي واستدامته.

الاستثمار في القدرات البشرية يخلق قيمة اقتصادية

إن للتنمية البشرية دوراً مهماً في تحقيق النمو الاقتصادي، فإذا كان العنصر الأساسي للنمو الاقتصادي هو السماح للأفراد باكتشاف الميزة التنافسية لأعمالهم وتطويرها، فإن تنمية قدرات الأفراد ومهاراتهم وزيادة فرص العمل يجب أن تساعد هؤلاء الأفراد في الالتحاق بمهن يكونون فيها أكثر إنتاجية.

على الرغم من أن التنمية البشرية مفهوم واسع، فإن هناك تداخل لعدد من عناصرها مع مفهوم رأس المال البشري. فالتنمية ترتبط بالضرورة برأس المال البشري، ويؤثر رأس المال البشري على النمو الاقتصادي.

وبصورة أوضح، فإن كل عنصر من العناصر المختلفة للتنمية البشرية من المرجح أن يكون له تأثير واضح على النمو الاقتصادي، على سبيل المثال: للتعليم تأثير قوي على إنتاجية العمل، فكل سنة دراسية إضافية يلتحق بها المزارعون، سيزيد الإنتاج في ماليزيا بما يتراوح بين 2 إلى 5%، وفي إندونيسيا، تقدّر زيادة الأجور بين 1.5 و2.7% لكل مدرسة إضافية تُبنى لكل 1,000 طفل.

وإلى جانب التأثير المباشر على الإنتاجية، يؤثر التعليم أيضاً على معدل الابتكار والتحسينات التكنولوجية، إذ ارتبط ارتفاع مستوى التعليم بالتبني السريع للتكنولوجيا في الهند، وبالمثل، ثبت في سريلانكا أن مستويات التعليم العالي تزيد من معدلات الابتكار في الأعمال التجارية.

وقد يؤثر التعليم أيضاً على نمو دخل الفرد من خلال تأثيره على معدل النمو السكاني، فقد أظهرت دراسة أجريت على 14 دولة إفريقية في منتصف الثمانينيات وجود علاقة سلبية بين تعليم الإناث ومعدل الولادات في جميع البلدان تقريباً.

كما أظهرت الدراسات أن للصحة دوراً إيجابياً في تعزيز النمو الاقتصادي، إذ تؤدي التحسينات في الصحة والتغذية إلى تحسين الإنتاجية والدخل.

ويمكن أن يكون للتعليم والصحة تأثيرات قوية غير مباشرة على النمو الاقتصادي تنعكس على توزيع الدخل، فعند تحسن مستويات التعليم والرعاية الصحية يصبح الأشخاص ذوو الدخل المنخفض أكثر قدرة على البحث عن فرص العمل.

إذاً، تتجاوز التنمية البشرية مجرد زيادة الدخل وتراكم الثروة، لأنها تستثمر في قدرات الأفراد التي تؤثر بدورها على التفكير والفهم الاقتصادي، إذاً يساعد بناء المعرفة والمهارات على تحديد أبعاد تأثير الاقتصاد الكلي في مسار التنمية.