
كنا قد تحدثنا في مقالنا الأول من سلسلة "ما هي عوامل تحقيق الابتكار المستدام في المؤسسات غير الربحية؟" عن العوامل الستة التي تمكن المؤسسات من التفوق في طرح الأفكار المبتكَرة بشكل متواصل. وكنتم قد تعرفتم على هذه العوامل. والآن سوف نتحدث عن أول عاملين من هذه العوامل بشكل مفصل.
1- القيادة التي تحفز الابتكار.
2- ثقافة الفضول.
العامل الأول: القيادة التحفيزية
تضم المؤسسات التي تبتكر باستمرار قادة من كافة المستويات – مدراء ومسؤولين تنفيذيين – يحفّزون فرقهم على تخطي حدود كل ما هو ممكن، حتى عندما يرسمون حدود الإجراءات قيد التطبيق؛ هم يدركون أن الابتكار يزدهر عندما تُحدَّد الحاجة إليه والمساحة المتاحة له بوضوح، حينها يتشجع الموظفون على الابتكار والاستكشاف، وإن إدارة التعارض بحنكة بين المعايير الثابتة والسماحية للابتكار أمر صعب ولكن بالِغ الأهمية، وقد صَنّف أكثر من نصف المشاركين في الاستقصاء القيادة الملتزمة بأنها أهم عامل للابتكار بين العوامل الستة.
القيادة التي تحفِّز الابتكار:
* تحدد رؤيةً ملهِمةً.
* تحدد الأسئلة والنتائج التي يجب التركيز عليها، ثم تمنح الأفراد مجالاً واسعاً للابتكار ضمن تلك الحدود.
* تشكّل نموذَجاً للتصرف الذي يجب أن يقتدي به الآخرون.
خذ مؤسَّسة "هاير أشيفمينتس" (Higher Achievement) مثالاً؛ مقرّها في العاصمة واشنطن، وأسِّسَت في عام 1975، وتقدِّم الإشراف الأكاديمي اليومي، والتعليم الصيفي، وتنمية المهارات الاجتماعية والعاطفية لتعزيز الأداء الأكاديمي لطلاب المدارس الإعدادية في الأحياء ذات الدخل المنخفض في أربع مدن: بالتيمور، ومنطقة مترو العاصمة واشنطن، وبيتسبرغ ، وريتشموند في ولاية فيرجينيا؛ حيث تتنوّع الأعمال التي ينفذها الرئيسة التنفيذية للمؤسَّسة لينسي وود جيفريز وفريقها القيادي لابتكار الأفكار والمبادَرات ضمن الحدود المرسومة بوضوح.
تحرص لينسي أن تستخدم مؤسَّستها البيانات كدليل تهتدي به إلى فرص الابتكار والتحسين؛ حيث يستعرض كافة موظفي المؤسَّسة البالغ عددهم 85 موظفاً، 11 مؤشر أداء رئيسي (KPIs) دورياً؛ مثل متوسِّط حضور الطلاب اليومي والأداء الأكاديمي الحالي؛ وتشكّل مؤشرات الأداء الرئيسية هذه محور المناقشات نصف الشهرية بين موظفي الخطوط الأمامية والمشرفين في كامل المؤسَّسة، وتوجّه عملية صنع القرار.
توضّح لينسي وفريقها القيادي الذي يشمل مدير البرامج مايك دي ماركو، لزملائها المواضع "الثابتة" في نموذج برنامجهم، والمواضع "المرنة" القابلة للتجربة والتكيُّف، على سبيل المثال؛ للحفاظ على التناسق في كافة جوانب مسألة مطروحة؛ تتّبع المؤسَّسة منهجاً ثابتاً وقياسياً واحداً لا يمكن للموظفين تغييره؛ ولكن تمنحهم المرونة في إضافة دعائم مكمِّلة، طالما أنها تتوافق مع منهجها القياسي وتستوفي معايير تنشئة الطلاب، لذلك عندما أظهرت البيانات أن طلاب الصف الثامن كانوا يتركون الدراسة خلال الفصل الدراسي الربيعي، بعد أن يعرفوا المكان الذي سيلتحقون فيه بالمدرسة الثانوية؛ ودفعتنا إحدى الموظفات على تقديم منهج مهارات الدراسة لتأمين عملية انتقال سلسة للطلاب.
تقول لينسي عن هذا الموضوع: "بدلاً من إجراء محادثة طويلة حول هذا النهج الجديد؛ تمكنَت الموظفة من إثبات أن الفكرة تندرج ضمن تلك الفئة المرنة، وقدَّمت البيانات لدعمها، ثم تُنفذ الفكرة؛ سنختبر تلك الفكرة وإذا عاودت أعداد الحاضرين للارتفاع؛ سنجربها في مواقع أخرى".
وعندما تدعم البيانات تنفيذ تلك الفكرة؛ تطرح لينسي على زملائها أسئلة مثيرة تحفزهم على توسيع أفق تفكيرهم، مثل سؤالهم؛ "ما الذي يتطلبه منا إلحاق 80% من طلابنا في المرحلة الإعدادية بمدارس ثانوية منتقاة وعالية الأداء؟"، وعندما تلحَظ بصيص فكرة جديدة تؤتي ثمارها، "تنشرها للعلن وتحرص أن يصل هذا الثناء إلى مسامع الجميع"، فماذا تكون النتيجة؟ أظهرت تجربة عشوائية أن برامج مؤسَّسة "هاير أشيفمينتس" تمنح الأطفال مكاسب أكاديمية تعادل 48 يوماً إضافياً من دراسة الرياضيات و30 يوماً إضافياً من دراسة القراءة.
تقول لينسي عن المساعي لتحفيز الابتكار: "إن مهمتي بالدرجة الأولى تعزيز الثقافة"، ونحن نوافقها الرأي؛ حيث تشير مجموعة كبيرة من المؤلَّفات الأكاديمية والاستقصاءات واسعة النطاق، أن الثقافة عنصر أساسي للابتكار؛ يمكن للقادة الذين يهدفون إلى تعزيز الابتكار، بل ويجب عليهم، صياغة ثقافة المؤسَّسة من خلال تصرفاتهم، وهذا يقودنا إلى ثاني عامل حاسم لتحقيق الابتكار المستدام.
العامل الثاني: ثقافة الفضول
يقول إريك شميدت رئيس شركة "جوجل": لتبتكر "لا بُدَّ أن تكون مثقَّفاً، ومدركاً للثقافة التي بحوزتك إدراكاً صائباً"، وفي معظم الأحيان؛ تكون الثقافة "المناسبة" للابتكار هي الثقافة التي يحرُّكها الفضول؛ تبدأ المؤسَّسات المعروفة بالابتكار بحثها عن موضوع جديد بطرح السؤال "ماذا لو؟"، أو السؤال الذي يفوقه تمرداً بعض الشيء "لمَ لا؟"، فكما ذكر آلان ويبر في كتابه "القواعد الأساسية" (Rules of Thumb)، "السؤال الوجيه يضاهي الإجابة الوافية"، فالأسئلة هي بوابات التعلُّم، والتعلم يقود عادةً إلى التغيير؛ تشجع ثقافة الفضول الموظفين على إعادة النظر في افتراضاتهم، وفي الأمور القابلة للتحقيق، وإعادة تصور مستقبل أفضل.
المؤسَّسات التي تتبنى ثقافة الفضول:
* تعزز التواصل والتعاون والثقة.
* تشجع النقاش والتفكير النقدي.
* تعيد التفكير في مساحتها المادية.
بَنَت مؤسَّسة "كيفا" (Kiva.org)؛ التي تأسَّست في عام 2005 ومقرها في سان فرانسيسكو، أول (وأكبر) منصة غير ربحية لتقديم القروض متناهية الصغر في العالم؛ تستخدم "كيفا" التمويل الجماعي لتقديم قروض متناهية الصغر بدون فوائد، لأشخاص من 93 دولة يتجاهلهم النظام المالي التقليدي؛ لكنهم يرغبون في بناء مستقبَل أفضل لهم.
منذ الوهلة الأولى؛ كان بريمال شاه ومات فلانري؛ وهما اثنان من مؤسِّسي "كيفا"، معجبَين بمفهوم هيكلية تصميم يسمى "نجم البحر"؛ حيث تتألف المؤسسة من أشخاص مستقلين نسبياً ومستقلين تماماً يتولون زمام عملهم ومؤسَّسة "كيفا" بشكل عام؛ هم يعتقدون أن مسؤوليتهم الأساسية هي إلهام الآخرين وتوجيههم من خلال صياغة مهمة عامة ومجموعة من المبادئ، وطرح أسئلة محفِّزة، وتمكين الزملاء من التجربة والمجازَفة والانطلاق بأفكارهم الخاصة؛ يقول بريمال: "تمكنا من خلال منح الناس إحساساَ بالمسؤولية والأمان النفسي؛ من التوسُّع في فكرتنا الأولية، وتقديم بعض الأفكار الجديدة المهمة بانتظام".
إحدى هذه الأفكار هي نموذج الإقراض الأميركي لمؤسَّسة "كيفا"؛ المعروف سابقاً باسم "كيفا زيب" (Kiva Zip)، وعلى الرغم من أن مؤسَّسة "كيفا" تشتهر بمساعيها على المستوى الدولي؛ إلا أنها في مشروع "كيفا زيب" بدأت في منح القروض لأصحاب الشركات الصغيرة في الولايات المتحدة في عام 2012.
كان مشروع "كيفا زيب" من بنات أفكار مات فلانري، وآتى ثماره بعمل فريق صغير بقيادة متطوع سابق في "كيفا" يدعى جوني برايس؛ الذي انضم بعدها إلى "كيفا" للعمل بدوام كامل لتطوير مفهوم المشروع، وأصبح الآن كبير مدراء المؤسَّسة؛ يستشهد في منشور على مدونة "كيفا" بأحد اقتباساته المفضَّلة؛ وهي عبارة يكثر الرئيس "بارتليت" تكرارها في المسلسل التلفزيوني "الجناح الغربي" (The West Wing:): "ماذا بعد؟"، ليعلِّق جوني: "أعتقد أنها طريقة رائعة للتعامل مع الحياة".
حتى بصفته متطوع مؤقت؛ شعر جوني أنه مخوّل ومدعوم بما يكفي ليسأل "ماذا بعد؟" من أجل مشروع "كيفا زيب"، في أيامه الأولى؛ أتاح فريق "زيب" فرصةً للمقرِضين في "كيفا" والمقتَرضين عن طريقها ليتواصلوا أكثر عن كثب مع بعضهم؛ وهو مفهوم يمثِّل جوهر مهمة "كيفا"؛ وهي "ربط الناس ببعضهم من خلال تقديم القروض للتخفيف من وطأة الفقر".
في أوائل عام 2013؛ عمّم فريق "كيفا زيب" ميزة "المحادثات"؛ التي أتاحت للمقترضين والمقرضين التحدث مع بعضهم لأول مرة على موقع "كيفا زيب" الإلكتروني؛ حيث يمكن لمقرِضة في كينيا نشر رسالة إلى المقترض الذي موّلته على الموقع الإلكتروني، ويمكن للمقترض الذي يعيش في ديترويت الرد عليها؛ أدت هذه العلاقات في معظم الأحيان إلى تلقي المقترضين الدعم بعدة طرق غير متوقعة: فعمل بعض المستجيبين كموجِّهين، والبعض الآخر كعملاء ومناصرين للعلامة التجارية.
كان فريق "كيفا زيب" مسؤولاً أيضاً عن الابتكار في مجال "الاكتتاب الاجتماعي"؛ الذي يعني الخدمات المصرفية التي تُقدَّم بناء على الشخصية؛ يعتمد الاكتتاب الاجتماعي اعتماداً كبيراً على رأس المال الاجتماعي لفحص المقترضين المحتمَلين؛ الذين يجب عليهم دعوة عدد معين من المقرضين الجدد للانضمام إلى المنصة خلال "فترة جمع التبرعات الخاصة"، قبل نشر طلبهم للقرض علناً على موقع "كيفا" الإلكتروني؛ الفكرة من ذلك أنها إذا كان الأشخاص الذين يعرفون المقترض حق المعرفة يعتقدون أنه جدير بالائتمان، فإن مجتمع الإقراض في "كيفا" سيشارك في التمويل الجماعي لبقية القرض؛ يعود هذا النوع من أنواع الاكتتاب الاجتماعي بالنفع بشكل خاص على المهاجرين وغيرهم ممن لديهم تاريخ ائتماني قصير جداً (أو غير موجود)، ليتأهلوا للحصول على قروض الأعمال الصغيرة التقليدية؛ يولّد برنامج "كيفا" في الولايات المتحدة في عام 2017 حوالي نصف المقرضين الجدد الذين انضموا إلى "كيفا" ومدّوها بأكثر من 25 مليون دولار على شكل قروض جديدة.
يواصل كافة الموظفين في "كيفا" طرح السؤال التالي يومياً: "ماذا بعد؟"، وكما هو الحال في معظم السياقات؛ يُثري تنوع موظفيها الدائمين وزملائها والمتطوعين فيها وشركائها الإجابات والأفكار التي يبتكرونها.
يُمكنكم الاطلاع على النسخة الإنجليزية من هذا المقال من خلال الرابط، علماً أن المقال المنشور باللغتين محمي بحقوق الملكية الدولية. إنّ نسخَ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.